الاثنين ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم عبد الفتاح شهيد

جماليات التجاوز

قراءة في لوحة من الفن التشكيلي الحديث

1. انطلاقات الألوان:

تبدو من خلال النظرة الأولى في اللوحة فعالية الحمرة وعوائلها التي تحتل فضاء واسعا وكبيرا، لا يحد منه إلا صورة بشرية تتصارع في نزع خصوصياتها دون أن تفقد ارتباطها بها. وتتصارع دلالات وإيحاءات الحمرة في اللوحة بتوافقاتها وتناقضاتها، مما يجعلها منفتحة خلاقة. فالحمرة ترتبط بالاغتراب والبعد، وقد روي عن الرسول (ص) أنه قال: "بعثت للأحمر والأسود"، يريد بالأحمر العجم وهو الغالب في ألوانهم، والأسود العرب حيث السمرة والأدمة المتمكنة منهم. كما أن الحمرة دموية تنزع إلى القتل والشدة فيه حتى قيل "الموت الأحمر". أما عن اقتران الحمرة بالمرأة فمما يستحسن فيها دون الرجال. مما يجعل للأحمر في اللوحة دلالاته الحزينة الشديدة الأثر على المبدع والمتلقي، وفي الوقت نفسه تجعل منه في تداخله مع المرأة سرورا وفرحا يبعث على التألق والاستبشار.

وبعد هذا اللون المتجدر نجد الزرقة في المرحلة الثانية، وإن كانت في عيون غير العرب سمة أساسية مزينة، ولدى المحدثين صفاء منبعث من سماء غير منكدرة ولون ينعكس في البحر أثناء هدوئه، ففي موروث العرب يرادف الأسنة الفتاكة، والإجرام والخداع. وفي تفسير الأحلام أن الزرقة هم وغم. وهو في اللوحة يحاول الصمود أمام المحور المقابل له. وتأتي الصفرة في الدرجة الثالثة بمعانيها وإيحاءاتها المتعارضة كذلك. فهي لون الذهب والخز والحرير والمال، كما أنها علامة السقم والمرض النفسي والعضوي يدل في الوجه على جبن وخوف بائن. وإذ قد نستطيع القبض على أنساق اللوحة من خلال الألوان الثلاثة المتمركزة فيها، فلا حاجة لتتبع باقي الألوان ذات الحضور المتواري. وإن كانت في أغلبها تعود إلى الأصل الثلاثة، فإننا لا نعدم نوعا من التقابل والتناقض يسيطر على سائر اللوحة، يظهر على مستوى الإيحاءات المتضاربة للألوان، وعلى مستوى ما أحدثه المبدع بين عائلة الزرقة وعائلة الحمرة في فضائها العمودي. ثم بين الزرقة والصفرة على مستوى التشكيلات الهندسية المثبتة في الأعلى يمين المتلقي. وإن كان هذا التناقض قد يوحي بنوع من الاضطراب في نفسية المبدع، فيبقى أن التقابل والتعارض من السنن التي انبنى عليها الكون إلى جانب التلاؤم والانسجام. مما تشكل معه اللوحة نزعة متربصة في النفوس عاكسة في الأذهان لما يحدث في الأعيان.

وتبقى لمعطيات الانسجام كذلك حضورها وفعاليتها، بحسب إدراك المتلقي وخلفيته النفسية. فالزرقة للسماء الصافية التي تحمي الإنسان وتقع موقع البعيد المقدر. كما أن إيحاءاتها الميتافيزيقية تدل على الارتباط والقدرة العلوية المستحكمة من رقاب الخلق. أما الصفرة فهي لون التراب والأرض التي نحيا فوقها، كما أنها لون الشمس التي تبعث الحياة فينا وفيما يحيط بنا. بينما الحمرة بغض النظر عن الغربة والعجمة، هي لون الدم الذي يشكل ماهياتنا، ويسري في عروقنا. فالتقابل الذي تحدثنا عنه ينطوي عن تلاؤمات عجيبة تستغور النفس الإنسانية وتستحثها على مزيد من الاستثارة والحركة. تلاؤمات بين فضاءات الكون الشاسع والبحر الواسع، والأرض الصبور المعطاء، والشمس المحيية المحرقة. فاللون الأحمر – المحور في اللوحة- يوحي إلى محورية الإنسان بين كل عناصر الكون العظيمة، بوجوده البيولوجي المتميز، وحضوره العقلي الفعال، وامتداداته الأخلاقية وارتباطاته الميتافيزيقية الوطيدة. مما يستطيع به اختراق فضاءات هذا الكون وتكريس محورية وتحكم في عالم جعله عاملا من أجله، مطوعا لتحقيق "أناه" وتأملاته. فينسل المبدع من بين الألوان ليموضع الإنسان في الميزان، ويوظف ريشته بقدر ليعبر عن طاقة في اللوحة تجعلها تسع أكثر العوالم ماكروفيزيائية. وتنافذ ذهن المتلقي وإدراكه لتراهن على ترابطات وتواشجات تحيي فيه مكانته بين الخلق، وتبعث فيه عظمته عند الخالق. وتجاوز الأثر المباشر للون لتدعوه إلى النظرة الشاملة التي تجعل الجزء في خدمة الكل، والعدول طلبا للشمول، والعتمة من أجل فضاء أكثر إضاءة وتنويرا، والموت لغاية استنجاز حياة نوعية أجل وأجمل.

2. انعطافات الخطوط:

لقد اختار الفنان أن يثبت الخطوط بطريقة عائمة تغلب عليها الاعوجاجات والتداخلات، بطريقة دائرية أحيانا وعمودية أخرى، بتجلية في جانب وإخفاء في آخر، مما يجعل الخط كذلك لا يقل عتمة وانفتاحا في دلالاته عن اللون في انطلاقاته. وقد اختار اللون الأسود الأصل في الكتابة، وبغض النظر عن رمزيته فإنه يحمل أصالة واضحة ومعبرة. ويبدو في اللوحة حرف الجيم ذا حظوة، وهو حرف منعرج في آخر الكلمة متميز في وسطها. تعبر إيحاءاته عن سمو منبثق عن الجمال والجهاد والجود والجلال وغيرها من الكلمات التي تتمركز الجيم في بدايتها. والديباج والسراج الوهاج والإنتاج مما تتمركز في آخرها. وهو في صورته الرسمية حمال لأوجه مجتلب ضرورة لعائلته من الحروف التي تفرقه عنها توزيع التنقيط (الحاء، الخاء). كما يبدو حرف الألف ذو الدلالات السامية رمزا للانعتاق والانطلاق نحو آفاق السماء الواسعة، يسمو بها ويتقدس من خلالها، ورمزا للوحدانية المحيلة على التوحيد الإلهي. وعلى العدد "واحد" الذي له قيمة ضافية عند الحيسوبيين. كما أخذ حرف اللام من تثبيته إلى جانب الألف كثيرا من سموه وانطلاقه. وهو ما يحيل إلى رغبة لدى المبدع في إعطاء الألف مركزية واضحة تحاول خلق الحوار المتوازن بين الحرف واللون حيث يقف بعدا ثالثا إلى جانب اللونين العموديين المتوازيين المشار إليهما سلفا. راغبا من جديد في التحدي والانطلاق نحو عوالم السماء الواسعة، واختراق المجال الضيق، والسمو إلى ما هو أسمى وأعلى. وهو شكل من أشكال التقابل يبدو كذلك في تدخل مجموعة من الحروف في آفاق الألوان المنتشرة في اللوحة تدخلا ينغمس تارة في الألوان ويتلبس بها ويعارضها ويقف وجها لوجه أمامها. فينطلق الحرف من سواده ليلج الحمرة والزرقة بتناقضاتهما وتعالقاتهما، ورمزيتهما المغرقة في التحدي والروحانية، لتزداد الدلالة انفتاحا والتأويل اختناقا.

ومن داخل الاختلاط واللادلالة والتوهج التي أعطاها المبدع للخطوط والحروف، تتولد الأحاسيس المدوية المنتظمة الجميلة، لتفتح الذات القارئة عوالمها أمام إيحاءات الحرف وتأججاته في النفس، متمردة عن سلطة العقل والمعيار القاسية. ومحاورة كفؤا لدواخل المبدع المضطربة المضطرمة بنار الوجد والمحبة. فينطلق ذلك الحوار النوراني المتوهج بسلطة وعزة الخط، وقوة وألق اللون، مسترسلا متدرجا. تصبح خلاله اللوحة مرآة صافية مجلية. لغتها حركات الريشة المتأنقة أو القلقة، وسننها الصفو والانعتاق من إسار الواقع. ومضمونها متناقض بين الرحمة والقسوة واللذة والمعاناة والأمل والألم، في حركة دائبة تجعل اللوحة نصا مثاليا يجد وحدته في تعدده وانسجامه في تداخله ونضجه في عدم اكتماله. فتصير كل هذه الخطوط والألوان بداية فقط لدوامة تنتقل من ظلمة المحسوس إلى نور المجرد، ومن خواء الواقع إلى قيمة المثال، مما يعكس دواخل المبدع ومشاعر القارئ في آن، حيث يجدان في نظرية الفناء الصوفي – وللتصوف مظاهر متأججة في اللوحة – معادلا موضوعيا، "تلك التي تنساب الأرواح التي تشتاق إلى أن تكون متوحدة في ذاتها، لترى العالم في حبة رمل، لتشعل زجاجاتها التي تضاء برائحة الزيت المقدس من شجر الذات. لترى الذات وهي تحلق في فضائها النوراني الخاص... الصراع الخفي بين سمو الروح ونورانيتها، أشواقها العلوية، وكثافة الجسد، ثقله الذي يشد نحو الظلمة، توحدهما في ثالث لا يشبههما أبدا، لا يستطاع الكلام عنه، قريب بحيث نعجز عن لمسه، بعيد بحيث نجده أينما نظرنا" 1، وبين الخفاء والتجلي يحيا الإبداع الحر المنطلق.

فالخط في اللوحة لا يكتفي بالتوصيل والتبليغ، بل يلج دوائر الاحتمال والتأويل، حين يرصف رصفا جديدا، يتقوى فيه الجمال والمتعة وفنون التأليف. فحين اخترق الخط عالم اللوحة كان منتظرا منه أن يفقد مهمته الأزلية في إفهام الحاضر والغائب ويدخل في لعبة الجمال والجلال، التي يتقنها المبدع ويخبر سبلها ومضايقها. فيذكرنا بالتقطيع الحرفي الذي تبتدئ به بعض سور القرآن الكريم، والتي ذهب في تأويلها العلماء مذاهب مختلفة وطقوس الحرف عند أهل التصوف وفي علم الفراسة والكهانة وجداول السحرة وأصحاب الخطوط. فللحرف امتدادات تاريخية وجمالية ودينية تجعل له حين يتوالج والألوان والخطوط والأيقونات امتدادات وآفاق مغرقة في التمثل والتأمل. مما يجعل اللوحة تشرع أمامنا عوالم الذات من أجل الاستكشاف. وآفاق الآخر طلبا للتماثل أو التميز، وأعماق التاريخ والجغرافيا والثقافة، رغبة في استغوار حمولاتها وقيمها وأصالتها، وبعث سذاجتها وخبرتها وقوتها وتراخيها.

3.الإنسان: محور وسجن:

في اللوحة، وفي سياق الاحتفاء بالخطوط والألوان، يتشكل داخل الحمرة وعوائلها جسد امرأة ماثلة للعيان، وراء سجن من المربعات والمستطيلات وغيرها. دون أن تحمل أيقونة المرأة أية معالم للإثارة، بل اتخذ الجسد بعدا رمزيا ينطلق من الإنسان بغض النظر عن لونه أو ملامح وجهه. ثم ينمو إلى شكل من أشكال تجسيد الخصوصية المغربية على مستوى اللباس. حيث الأصالة الأمازيغية، والقد الممشوق بين النحولة والبدانة وبين الطول والقصر، في احتفاء واضح بالذات المغربية في أبعادها الكونية. ولم تخرج هذه الأيقونة بدورها، بدلالاتها ورمزياتها، عن الأنساق التقابلية التي أشرنا إليها في جميع مكونات اللوحة. فالجسد أولا "مقولة صميمية طي سجلات مجموعة من المجالات العلمية والخطابية، فضلا عن أنه الموضوع الذي تشتغل عليه من كون هذا الأخير. وترصد طبيعته وأبعاده، انطلاقا من أطر نظرية مختلفة، وأجهزة مفاهيمية وإجرائية متباينة فجسد التشريحين يخالف جسد الفيزيولوجيين أو علماء الأحياء. والجسد كما تصوغه المؤسسة الطبية والعلمية يغاير صياغات مؤسسات أخرى سياسية أو إعلامية أو جمالية أو دينية أو رياضية، وهلم جرا. وكأن كل خطاب ينتج جسده، ويمنحه تسمية وتقطيعا وبطاقة دلالية، بحيث يغدو الجسد أجسادا مفهومية تحيل كل منها على حقل إيحائي معين، أو شكلا فارغا تتناوب العلوم على ملء بياضه، حسب شروط التداول الخاص والعام، فتنتج معرفة أو معارف غير متجانسة، تتوزع الجسد وتشذره إلى بقع ومناطق متنائية" 2.

والنص – على طوله – يبين لنا التناقضات التي يرفل فيها الجسد، والتداخلات التي تخترقه . أما بالنسبة لبنية الجسد التي تدل المعطيات على جنسه الأنثوي، فلا يقل تجاذبا وتداخلا. فالمرأة "في المنام، إن كانت جميلة دالة على السنة المقبلة بالخير والراحة" 3، وجميع مظاهر الخصب والنماء. والمرأة السوداء لا خير فيها إلا إذا كانت مملوكة 4.

والجسد النسائي أيضا تيمة فعالة لدى المتصوفة، وهو المعطى الحاضر بقوة في أفق اللوحة، وخصوصا في جانبها الشبقي الحسي، حيث "تنطوي على أسرار إلهية بالنسبة للصوفي، فمعرفة المطلق تتحقق بالمرأة ما دامت هذه المعرفة تنطلق من ذات الإنسان، أي من داخله لا من خارجه، والمرأة جزء من هذا الداخل" 5، ومن هذا المنطلق، " تغدو المرأة موضوعا استعماليا يطلبه السالك من أجل العبور إلى موضوع القيمة الحقيقي: الله. ووصله بها (النكاح) هو ذروة عشقه لها. الذي يعادل رمزيا، حنينه الأبدي للتوحد بالجسد السرمدي والفناء في حضرة الألوهية" 6. والتحام المرأة بالصورة موضوع شد جوارح وأذواق أهل التصوف، فهي سند ابن عربي في معرفة المطلق، وعلاوة على ذلك فالمعاني الوجودية التي تولدها العلاقة مع المرأة من تضرع وولع وشوق واشتياق وتذلل وطلب ووصال هي عينها المعاني التي تتحكم في توجه الصوفي نحو المطلق 7. فيتخذ الحب الإنساني بكل أبعاده الجسدية سلما "يرتقيه المحب إلى الحب الإلهي، وذلك عن طريق التحول من حب جسدي إلى حب يشذب النفس ويهذب الروح، ويجعلها في شفافية كاملة ونورانية وصفاء تامين 8. كما قد تتخذ المرأة قناعا يواري وراءه شعوره وإحساسه، ويخفي من خلاله آماله وآلامه، فتنبجس فيما "يؤثرون من كناية أو إشارة، يعمدون فيها إلى إخفاء أٍسرارهم ونشر حقائقهم عمن ليس من طريقتهم، ولا أهل للوقوف على حقيقة المعاني التي تنطوي عليها ألفاظهم" 9.

فنلاحظ أن الجسد / المرأة يشكل بؤرة أخرى من بؤر التقابل في اللوحة الناضحة بالتناقضات، مما نكشف عنه بدءا من خلال صيغة تبئيرية أولا، "يتعلق الأمر بأقصى يسار أو يمين الصورة"10. ثم من خلال تأويل دلالي مسترسل، فالمرأة في اللوحة فقر وحاجة وخصب ونماء، وأصل وسبب ونهاية وغاية، ووجه واضح وقناع مبهم، وثبات وسكون وحركة ونشاط. ليزيد المبدع "ظاهرة" المرأة عمقا وتناقضا وتعقيدا. فيبدو الثبات متمكنا من الجسد وهو متوجه بكليته نحو المشاهد متأملا مستفسرا. وبمجرد توجيه النظر نحو وضع القدمين تبدو معالم الحركة واضحة مسترسلة، تعطي للعمل الإبداعي دينامية وتحولا. وحين ننتقل بأبصارنا نحو اليد نلقي نوعا من الاحتفاء بالتيمن، حيث تثبيت اليد اليمنى والتركيز على حركتها بجميع جزئياتها، ثم مواراة اليد اليسرى وتغييبها تغييبا كاملا. وفي المقابل لا يستطيع القارئ أن يغض بصره عن موضعة المرأة / الجسد في الأقصى على يسار المتلقي. وفي التيمن خير ويسر وبركة، وفي التياسر معاناة وقسوة لا تدرك معها الحوائج والمنى، ولا يستبشر فيها بما يعز من المطالب. ويشكل ما بعد الجسد امتدادا له، "في علاقته بكونه القريب أولا، أي الأشياء التي تؤثته وتمنحه واجهة. وكونه البعيد ثانيا، أي موضوعات العالم التي يتحرك ضمنها،وفي هذه الحالة يتم الانتقال من التركيز على الجسد كمولد مباشر لتنوع إيماءاته: تداخل الثقافي والعملي ضمن ما يشكل كونية الجسد إلى ما يصنع هوية الجسد كعنصر يخبر عن انتمائه الجغرافي أو الفئوي أو الطبقي، إن الانتقال من المدن إلى البوادي. ومن السهول إلى الجبال، ومن الأحياء الراقية إلى "مدن صفيح"، يؤدي إلى استشراف تصور جديد للإيماءات والحركات. فإذا كان الفضاء يتشكل في ذاته كبنية دالة داخل دائرة الفعل الإبلاغي أي بصفته فضاء إنسانيا، فإنه يقوم بتأسيس دلالات الأشياء التي تتحرك داخله، ومن ضمنها حركات الإنسان وأفعاله" 11.

وتعتبر الإيماءة العنصر الألصق بالجسد، تحمل دلالات متناسلة بحسب وضعياتها الكثيفة والمتحولة باستمرار، و الإيماء باليد أكثر أشكاله تداولا و تعبيرية. قد تليه الإيماءة بالرأس، أما حركات الرجلين فلها طابع يرتبط أساسا بالثبات و الحركة. وفي اللوحة المعنية بالقراءة تبدو فعالية التلويح باليد و غناه الدلالي، الذي لا يتوقف تأويله عن تزويدنا بالدلالات و المشاهدات. فتبدو على مستوى اليد انعطافة تحمل شكلا من أشكال المخاطبة، يعبر عن "طلب المجيء". وفي إمالة المرفق نحو اليمين نوع من التخفي و الإسرار في الطلب الذي يعبر عن خجل و استحياء يغذيه نوع اللباس البدوي الأصيل و لون الحمرة المتمكن. كما قد تحمل حركة اليد معان مستوحاة من الثقافة الضاربة بجذورها في مجتمعنا المغربي الأمازيغي، فقد تحيل هذه الحركة إلى نوع من الاحتفاء باللباس و جمالياته، بالتنبيه إليه و التأشير عليه و الإحساس به. كما تحمل الحركة نفسها في الدوائر الشعبية الضيقة معاني الاحتفاء بالمولود / الجنين الذي يستقر في البطن. فتكون حركة اليد المفتوحة بوضع الكف فوق البطن إحساسا بالجنين تمتزج فيه اللذة و الاستبشار به بالألم الذي تحدثه حركاته و انفعالاته. و هي المدلولات ذاتها التي تتعمق بعد ملاحظتنا لحركة الرأس لمائلة على استحياء نحو اليمين (من القارئ دائما) تساعدنا في فهم دلالاتها الحركة المتسعة في أسارير الوجه، مما يعبر عن لذة و رضى. كما أن هذا الميل بالرأس بالطريقة التي نراها في اللوحة في علاقاتنا الشخصية تحيل على التواضع و إبداء الاحترام و الايجابية الكبيرة نحو المتلقي، و إظهار الاستعداد للتفاعل و التفاهم. و حين ننتقل إلى وضع القدمين، ننتقل بالجسد بكامله من الثبات إلى الحركية، مما يظهر في اخذ الرجلين منحى أفقيا نحو اليمين، ثم ثبات القدم اليسرى وإبداء القدم اليمنى في حركية، يتماس جزؤها الأمامي مع الأرض بينما يعلو جزؤها الخلفي ليفارقها قليلا. حتى تكتمل الحركة وتتميز عن الثبات.

وحين ننتقل من الإيماءات إلى اللباس نلفي أن الجسد المكسو بلباس "يحكي عن كل جزئيات الحياة، عن برامجها وأسننها ونماذجها، يحكي قصة خياط، ويحكي قصة حلاق، وقصة عطار، عبر تفاصيل الموضة يوضع الرائي (القارئ) أمام معطيات تخبر عن زمن (لباس ما يخبر عن فترة تاريخية)، وعن فضاء (لباس ما يخبر عن أصل صاحبه أو صاحبته). إننا نودع الجسد قيما ومفاهيم وبرامج للفعل. إن النص الجسدي، في مظاهره وأشكاله تكتبه الموضة "والنكافة" و"الخياط" 12.

وبالعودة إلى اللباس الموشى بالحلي في اللوحة، فله دلالة مباشرة في الاحتفاء بالتقاليد والتمثيل الأيقوني للمرأة الأمازيغية بكل ما تحمله هذه المرأة من دلالات التعاون والخصب والعطاء، وقيم العزة والأنفة والطهر والصفاء، والصبر والتعاون والتكافل. وبما تحمله أيضا من معاناة الفقر ويأس الحاجة وجحيم الأمية. وفي البنية العميقة ففي اللباس الموشى في كتب تفسير الأحلام نصرة على الأعداء، "واللباس المطرز مكتوب جليل وسمو وفرح بالمال أو الولد... وملابس الزينة أموال مدخرة وبضاع أو نساء مصونات جميلات" 13. مما يكمل به اللباس ملامح الوجه المتسترة، والحركات والإيماءات الخجولة المتخفية. وإن كنا نجد في احتفاء المبدع في اللوحة بالإيماءات واللباس الدال نوعا من التعويض عن ملامح الوجه المتوارية. فهل في هذا نوع من تكريس صورة المرأة – العورة التي يجب إخفاؤها وسترها؟ مما ألزم معه المبدع من هذه الزاوية بالصورة المكرسة للمرأة، دون أن يخرج بها إلى عالم أنضج وأرحب يختلقه في لوحته. مما نخشى معه أن يتخذ طابع الإخفاء والتغطية بعدا إيديولوجيا يعيد تكريس سلطة المعيار وتوجيه الواقع وجمود الفكر.

وحين نتجاوز الجسد إلى تخومه القريبة وإطاراته التي تحيط به نلاحظ بياضا يثبته المبدع بريشة دقيقة، يجعله محيطا بالجسد من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين. وفي البياض – ولا شك – مفاجأة ونعومة، وجمال ونقاء، وتجريد وانطلاق، ونور وضياء. إلا أن توظيفه في اللوحة، وتقنيات تثبيته عليها تجعله محفوفا بالإيحاءات السلبية، حيث يبدو اللون الأبيض محاصرا جديدا لجسد المرأة وقيدا ناعما يحيط بها، لا تكاد تتفتح أية زاوية فيه. وإذا أردنا بنوع من الإسقاط مساءلة نفسية المبدع من خلال هذه الحركة الواعية أو غير الواعية، نجده يحصن جسد المرأة في قفص ذهبي نوراني (البياض)، قد يكون الدين أو الأخلاق أو اللاشعور الجمعي، أو غيرها من القيود. تجعل في النهاية المرأة كائنا ينطلق وفق حرية محدودة وقيود محددة سلفا مهما كان شكل اللبوس الذي تتزيا به، ونبل المقاصد والغايات التي تتخفى وراءها. في اعتقال صارخ لحرية المرأة، باعتبارها كائنا بشريا لا يجب أن تأتيه القيود، ولا حتى الحرية، من الخارج، بل يجب أن تنطلق من أعماقه وهو الكائن المفكر الواعي. الذي لا يجب أن يمارس عليه أي شكل من أشكال الوصاية والرقابة الغيرية. فنستشف أن البياض في هذا العمل الإبداعي، وفي هذا الجزء بالضبط من اللوحة، قد خرج عن مدلولاته الإيجابية المباشرة، ليرفل في دواخل اللوحة في آفاق جديدة. نابعة من وعي خاص ونظرة متحكمة في الممارسة الإبداعية، تنزاح عن المهام الموكولة للوحة في جعل الألوان (الأبيض) أكثر حرية، والإنسان (المرأة) أكثر عمقا ومدلولية. إذ بذلك ينحو العمل الإبداعي نحو التجريد والبعد عن المحاكاة البسيطة للجوهر أو المثال، مما تجاوزته الاتجاهات التشكيلية الحديثة. ذلك أنه توجه يوقع بعض المبدعين – عن قصد أو غيره – في سوقية محضة، تجامل رغبات السوقة والعوام من مرتادي المعارض، وتتدحرج إليهم عوض أن يتسلقوا إليها، ويحسنوا ثقافتهم الفنية لفك رموزها. ولا نشك في أن المبدع محمد البندوري قد تخلص من هذا التوجه في جوانب كثيرة من لوحاته، وخصوصا في أجزاء اللوحة موضوع الدراسة، لولا تأبي الجسد عن التقولب الفني، وانشداده المستمر إلى إكراهات الواقع المعيش وحمولات الفكر المتمكن.

• أسر ثم انطلاق:

وبالانتقال إلى مكون آخر من مكونات اللوحة المتراكبة نلفي شكلا هندسيا متمركزا في أقصى اليمين من أسفل اللوحة، يقف حائلا بين المتلقي والجسد / المرأة، ينطلق هذا الشكل من النقطة بداية ونهاية، الثابتة في تقاطعات المستقيمات، مما يشكل بعدها المحدود. والمتكاثفة بطريقة لا محدودة في المستقيم، باعتباره كذلك مجموعة من النقط مستقيمية في المستوى. وفي الآن نفسه تؤدي التقاطعات الأفقية والعمودية إلى إنشاء أشكال هندسية متنوعة بين المربع والمستطيل والرباعي. فإذا انطلقنا نحو ما تحدثه المحدودية من حوار وتفاعل بين المبدع والمتلقي. فإننا نلفي في التنقيط حصرا وتوجيها، يستجلب تركيز النظر وتعميقه في دواخل النقطة، والتي تشكل عمقا في الإنسان / المبدع الذي أنتجها، وفي الجسد / الإبداع الذي أثبتت فوقه، ثم في إدراك المتلقي / القارئ الموجهة إليه. بينما تمثل المستقيمات المتقاطعة نوعا من اللامحدودية في الاتجاهات التي تتجهها أفقيا وعموديا يمينا ويسارا، وفي الأعلى والأسفل. وامتدادا لا نهائيا على مستوى نسبة كبيرة من فضاءات اللوحة، تتغذى على التقاطع والتوازي ثم الاشتراك والاختراق. وفي الحركة الأفقية الكبيرة للمستقيمات هروبا نحو الحرف المتمركز جهة اليمين، وانفلاتا وتمانعا نحو المجهول جهة اليسار. على أن نقطة التمركز المحورية، تبقى متماهية مع الجسد – المرأة. أما الحركة العمودية فتنسجم مع حركة الألوان والخطوط ونموها المتراكم نحو الأعلى. وفي هذا التعامد المتواتر رغبة دائبة في الخرق، والتنافذ مع المكان والتعالي إلى آفاق أوسع. وحين تربط هذه الظاهرة المتجسدة في اللوحة على نطاق واسع بتراثنا الفني العربي، الذي يمنح منه مبدعنا على نطاق واسع، نصطدم بغريزة "حب الإطلاع، وحب التملك، وحب التعبير" 14، التي تتمكن من الفنان وعمله الفني. إلا أنه في الأخير "يصطدم بالمحال، بحدود عليه أن لا يتعداها، وذلك بعجزه عن التمادي والاقتحام. أو لأن تكوين الطبيعة حوله يصدمه على علو مخصوص بالموت، لذلك فهو يرتد، ويعوض عن طموحه ذاك بالزخارف، يتفنن بها" 15. فلا يشكل الفضاء الضيق للوحة إلا نقطة إثارة فقط للأحاسيس والعواطف والدلالات المسترسلة اللامتناهية، التي يشكلها وعي المبدع أو لاوعيه لإثارة إدراكات المتلقي واستنجاز مختلف أدواته القرائية. وبالنظر إلى ما تحدثه هذه التقاطعات بين هاتيك المستقيمات من أشكال هندسية يقع المربع والمستطيل والرباعي في طليعتها، فتلاقح "هذه الأشكال، كتلاقح العناصر الأربعة (الماء، النار، التراب، الهواء)، عادة ما تتولد عنه رموز جديدة ذات طابع أو شكل هندسي" 16. هذه الأشكال تقف في البدء لتوجيه النظر نحو الأيقونة المبأرة في أقصى اليسار من الأسفل لتقوم بوظيفة التثبيت الموجه للنظر نحو الجسد:
التثبيت
ومن زاوية أخرى فتداخل هذه الأشكال ينتج عنه توزيع وتشتيت للبصر بين امتدادات متعددة تحقق فوق الجسد المبأر نقط انطلاق وإحداثيات فقط تتم بعدها عملية التشظية والاندثار في آفاق اللوحة أو حتى خارجها عبر المستقيم الذي لا يحد.

ومن جهة ثالثة، فالزوايا التي تتردد في الشكل الهندسي عموما، قد تكون بمثابة "تحد للزمان، مثلما هي إشارة إلى السيطرة على المكان، وهي أخوات الحبسور التي تعني حب الاستقرار" 17. حيث يظهر التمكن من الأشياء ومحاصرة الحدود داخل الزوايا المحددة. إلا أن هذا ليس إلا مستوى واحدا من مستويات الأشكال الهندسية المتراكبة في الصورة، إذ إننا على جميع جوانب هذه الأشكال تتجسد معالم التشتت والانفلات من جديد. حين تبدو الزوايا غير محددة ولكنها مفتوحة على جميع الاحتمالات وفي كل الاتجاهات. في تقابل جديد ودائم بين المحدود واللامحدود، والحصار والحرية وبين النقطة والمستقيم، فيختلط الانسجام والتكامل والمخالفة والتنافر في تشاكلات هندسية تتمركز ثم تندثر وتتقلص ثم تمتد في لعبة الخفاء والتجلي والتوضيح والإبهام، التي يمارسها المبدع، والتي لا تزيد هذه اللوحة الغنية إلا انفلاتا وتأبيا عن عالم الحس المحدود.

وفي العلاقة بين هذه الأشكال الهندسية والجسد، نلفي أبعادا أخرى مغرقة في التفاعل والتجاذب. فبالإضافة إلى التبئير ذي الطابع الإيجابي المستحث لفعالية الجسد – المرأة ومحوريته، فإن هناك حصارا جديدا يمارسه المبدع على أجزاء محددة من الجسد، كالوجه والعنق والقدمين. بواسطة تقنيات محددة تتراوح بين التأطير داخل شكل رباعي محدد في فضاء معين، والتأشير برسم نقط تقاطع فوق مكان محدد بدقة وعناية.

فهل هو أسر جديد لمواقع الفتنة (الوجه، اليدين) والحركة (القدمين) داخل الجسد مرة أخرى ؟! أم أن هذا الرصد الدقيق لا يعدو أن يكون تبئيرا فنيا يمارسه المبدع على المتلقي للتركيز على مناطق محددة في قراءاته وتأويلاته، بما هي عش أو منطقة دينامية داخل هذا الجسد العام والمتكاثف؟! أو هو انطلاق جديد نحو التجزيء والتفتيت؟!

وبين الجزئية والكلية والتخصيص والتعميم تتولد علاقة ملتبسة بين الأشكال الهندسية المتكونة من التقاطعات المستقيمية والجسد المكثف وراءها. تتجدد من خلالها صورة السجن الذي يصنع المبدع الجسد داخله. مما يتقاطع وتأويلات أسلفناها في رغبة المرأة في الانطلاق، والحرص المتخفي على إيداعها أسرا لا محدودا ولانهائيا. يقيد حركتها حين تتوقف، ويرافقها إذا حاولت الانعتاق منه، في دينامية واضحة تتحقق مع المستقيم ونصف المستقيم بأعلى مستويات الدقة الفنية، مما يمثله الشكل المجلي الآتي:

أثناء التوقف

أثناء الحركة

ولعله ذلك السجن الجميل المزين بأصالة التقاليد ونقاء التعاليم مما يشكل بؤرة في اللوحة تنفتح على أكثر من دلالة. وقد تكون وراء هذا التقييد المتجلي في هذه الأيقونة على نطاق واسع غاية فنية تبغي أسر الواقع والقبض عليه، بطريقة لا تدعه طليقا في النهر والجبل والحقل، متواريا عن الأنظار. بل تقولبه وتترجمه إلى أشكال منظورة وتقربه من المتلقي الكامن في همومه وتوجساته الذاتية.

4.المتناصات أو التراث الأسير:

لا نتجاوز هذه المرحلة دون التنصيص على بنية كان لها الشفوف في اللوحة، وهي هذه المواد الغريبة التي يجتزئها المبدع من الواقع، ويوظفها – على غرار التكعيبين في مرحلة ما- لتبليغ رسائل محددة أو غير محددة من خلالها. وقد اختار في هذا العمل الإبداعي قطعة من ورقة مخطوطة مجتزأة من الصلاة الإبراهيمية أثبت في الوسط من أعلى اللوحة. ثم نتفة من الصوف الناصع البياض على اليمين مقابل الجسد وفوق المجموعة الحرفية المثبتة بخط عربي أصيل. فما دلالة هذين المكونين، وما الغاية الفنية وراء هذا الاجتلاب الغريب؟!

الصلاة أو المباركة الإبراهيمية:

تتموقع هذه البنية في الوسط من أعلى الصورة، قتبدو بمثابة العنوان بالنسبة للوحة بما للعنوان من قيمة موقعية وإشارات دالة باعتباره مؤشرا مهما في أي نص، يكون بمثابة المثير الفوقي أو المكثف الدلالي. هذه الموقعة التي تجد مشروعيتها في الإشارة الواضحة إلى التراث العربي والفن الإسلامي، وهي كلها دلالات واضحة في اللوحة بأكملها، تملأ جوانب هذا العمل الفني أفقيا وعموديا، إلا أن انتقالنا إلى البنية المتناصة نجدها أولا عبارة عن قطعة حقيقية مجتزأة من مخطوط وليست نسخة أو صور فقط، ثم هي تحمل الجزء الذي يشير إلى الدعاء "إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم...؟؟" مما يوحي بالحمولة الدينية، وإن كانت في الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام و"المباركة" عليه عودة إلى النبع الصافي النقي والفطرة السليمة. وأصل هذا الدين المتجسد في الحنيفية السمحة. دون إغفال دور محمد (ص)، رسول الإسلام الذي ثبت باللون الأحمر. وفي ذلك سلسلة من الصفاء والارتباط بالأصول بما تشكل به هذه الديانة امتدادا للحنيفية الإبراهيمية، تصل أكثر مما تفصل، وتجمع أكثر مما تقطع.

صوف أو تصاوف:

المتناصة الثانية التي تثير تساؤلات جمة خلال هذه اللوحة، هي تلك النتفة من الصوف التي وضعها الفنان في أسفل اللوحة من اليمين. فمن حيث الموقع نلاحظ المقابلة بين الصوف وبنيتين أخريتين محوريتين. الأولى هي الجسد – المرأة ومعاني الأصالة والسذاجة والنقاء، والثانية هي الخطوط العربية المعاقة الممحوة بواسطة الصوف، في حد مجدد من فعالية الحروف والكلمات. وإيراد الصوف في علاقة تناقضية مع الحرف لمما يثير استفهامات كثيرة، إذ إن لكليهما دلالات وتأويلات شريفة، وقد تحدثنا عن الخط وإيحاءاته بشيء من التفصيل. بينما لا يخرج الصوف في مختلف تأويلاته عن الخير والنماء والعطاء. فهو في المنام مال مجموع كثير شريف يصيب صاحبه، "ومن رأى أنه نام على الصوف نال مالا عظيما من جهة امرأته ونومه بمنزلة الفراش، والفراش امرأة... فإن رأى عالم أنه لابس ثياب صوف يتزهد ويدعو الناس إلى الزهد في الدنيا ويرغبهم في عمل الآخرة. ومن رأى أنه لبس جلد غنم عليه صوف ليس فوقه ولا تحته لباس غيره، فإنه يصيب مالا من رجل شريف" 18.

ويحيل الصوف بصفة مباشرة إلى المتصوفة الذين ارتبطوا به وبلباسه حتى نسبوا إليه. وهو من مظاهر البساطة والزهد في الدنيا، وملازمة الذكر والأوراد آناء الليل وأطراف النهار. مما يعمق الدلالة الإيجابية الناضحة بالخير والصفاء. وإذا انتقلنا إلى الدوائر الشعبية نصادف أن الصوف كذلك علامة على الخير والنماء يرافق مظاهر شبع الماشية بعد عموم المياه وانتشار أنواع الكلأ وما تجود به الأرض. والصوف بين العامة مما يجب احترامه، فلا تطأه الأقدام ولا يوظف إلا للصلاة عليه. وهو سترة للمرأة في القرى القصية من لسعات البرد الشديدة ونظرات من ابتلوا بتتبع عورات النساء. وفي الصوف صفاء بجذره اللغوي الواضح وبياضه الناصع وأصله الحيواني والروحاني.

وحين نلج أفق بنية الصوف في اللوحة نجده كميا لا يتجاوز النتفة الخفيفة الرائقة التي تحفل ببياض ونصاعة جميلة، لم تتعرض لما تعرضت له سائر قيم النقاء والروحانية والبشارة في واقعنا المحموم بمظاهر فقدان الوجه الحقيقي الصافي. فيقف الصوف من جديد ليشكل جانبا آخر للتقابل القيمي سواء الداخلي في بنية الخطوط والألوان أو الخارجي في العلاقة بين مكونات اللوحة غير القليلة. وفي علاقة بالعناصر المحيطة به تمثل أمامنا علاقة ملتبسة وغامضة بينه وبين الخط. فهو في البدء أصل الخط، إذ هو أصل "الصمغ" المستعمل في الكتابة. وإن كانت هذه "الأصلية" تمر عبر احتراق الصوف بالكامل قبل أن يصبح مادة سوداء قابلة للمكوث والبقاء، في نوع من التضحية والاحتراق من أجل إنارة سبل الخلق ونشر قيم الخط وفضائله الكثيرة التي وقفنا عند بعضها. لكن في مقابل هذا التكامل والارتباط بين الأصل والفرع، نجد شيئا من التناقض المتجسد في سعي الصوف إلى إخفاء الخط المتولد عنه، والتشويش على دلائليته وتعبيريته المفترضة. مما يجعل معه المبدع الصوف يمحو ذاته وأسه المحترق، وأن البياض كما أنه قادر على خلق السواد وإخراجه من العدم إلى الوجود، فهو أيضا يستطيع محوه من جديد وإرجاعه إلى أصله الأول. في حركة دائبة بين الخفاء والتجلي والمحو والإثبات.

وفي العلاقة بأيقونة الجسد – المرأة المثبتة في مقابل الصوف، فنكشف كذلك عن أبعاد أخرى من الالتباس والتقابل، فالصوف للمرأة البدوية كما أسلفنا حلية وسترة ووفاء، كما أنه يشترك معها في نقاء السريرة وصفاء الطوية، وفي الاحتراق من أجل إنارة طريق الآخرين، والبدوية المغربية الأمازيغية (كما هي في الصورة) تتعب وتجوع وتبقى أمية من أجل عائلتها الصغيرة والكبيرة. أما وهي تقصد الصوف قصدا – وقد عبرنا عن توجه المرأة في اللوحة إلى الحرف كذلك لتشبع به ظمأها إلى العلم والمعرفة – فإننا لا نجد غير رغبة في إزالته، وهو العائق الحائل دون تمركز الحرف في الأبصار، وانتقاله من ثمة إلى الأذهان. فلا يظل حبيس الأوراق والجدران.

فتتردد العلاقة بين الانسجام والتكامل، والمعارضة والتناقض مما يشكل بؤرة أخرى للالتباس يصبح خلالها التقابل تماثلا، والتضاد تساويا، والعائق مرقى. وهي معان سائرة لدى الصوفية، إذ يقترن الحجاب لدى معظمهم "بكل ما يحول بينهم وبين مسعاهم إلى رؤية الحقيقة. مما جعل انشغالهم موجها نحو إماطته، لأن معناه السلبي ارتبط بالحاجز والفاصل. غير أن ابن عربي لم يبق حبيس هذا المعنى بل قلبه، حيث أصبح الحجاب لديه بابا وطريقا موصلا للمحجوب به" 19. وهو معنى حاضر أيضا لدى الحلاج والنفري في نظريتهما للحجاب، الذي لا نشك في أن المبدع يأخذ شيئا منه أو يتوارد معه بطرقة أو بأخرى.

ونكشف من وجهة النظر نظرية التناصية عن مستويين في هذا الاستجلاب الغريب على فضاء اللوحة، المستوى الأول نصطلح عليه بالترصيعenchaîssement أو التنافذ emboîtement. حيث يعمد المبدع إلى ترصيع نصه بعناصر من نص آخر، تفقد معه معناها الأول وتفقد استقلالها في سياقها الجديد، لتدخل دوامة أخرى لا قبل لها بها. فتصير معه البنيتان في اللوحة بعدين فقط من أبعاد كثيرة جدا للتراثية والإسلامية والتقابلية... وغيرها من المعاني والدلالات التي وقفنا عليها في بنيات أخرى وأعدنا بعث بعض منها في هاتين البنيتين بتوصيفات وآليات أخرى.

أما المستوى الثاني فنصطلح عليه بالاختطاف، الذي مارسه المبدع على هاتين البنيتين بانتزاعهما من مشاتلهما الأصلية انتزاعا فظا، خرج بنتفة الصوف من كسائها الدافئ وفراشها الوثير إلى تعبيرية ودلالية، هي أبعد عنها وأفرغ منها. كما انتقل بقطعة الورق المتداعية للاندثار من ورقتها ومخطوطتها التراثية لخدمة أغراض دلالية وفنية غير مبررة مهما بلغ سموها ونبل مقصدها. مما يعكس رغبة مبالغا فيها في الامتلاك تنفلت من المبدع في هذه اللحظة الإبداعية، بإخراج الصوف والقطعة الورقية من سياقاتها التي لن تجد أفضل منها دون شك.

5.2. بناء وتركيب:

إن الانتقال من البنيات والعلاقات المباشرة إلى التواشجات والتعالقات المتعددة، هو انتقال من جديد من الخاص إلى العام، وإلى التأويلات المنبثة عن التعالقات الثانيوية والثالثوية وما فوق. حيث تكتسب اللوحة انطلاقا من هذه النظرة المتقاطعة توجهات أخرى ودلالات جديدة، "فتمازج الألوان بالأشكال سيؤدي إلى خلق دلالات جديدة، كما أن التقابلات بين الألوان، هو ما يمنح الصورة أبعادها الدلالية، فالمزج أو الربط بين الألوان داخل السياق الواحد يؤدي إلى تغيير في دلالة اللون الواحد"20. فإذا كان في عوائل اللون الأحمر اغتراب، فإنه في تداخله مع الجسد الإنسان تتولد عنه معاني التضحية بالدم الساري في العروق والاندثار والتشتت في الفضاءات الواسعة، دفاعا عن قيمة، وإخراجا للذات من سجنها الذي ترفل فيه. فتجعل عائلة الحمرة للجسد الذي تنطوي عليه امتدادا في الزمان والمكان، حمرة تقترن بالحرية وتنطلق بالإنسان إلى آفاق الله الواسعة، بعيدا عن السجن الذي وضعته فيه تلك الخطوط المتعامدة والمتوازية والمتقاطعة.

أما في العلاقة بين الحمرة والجسد – المرأة، فإننا نقبض عن بعض معالم الاستبشار والفرح الذي يجمل المرأة، فيجعل الحمرة فيها زينة، وفي تورد خدودها خجلا واستحياء، وفي أناملها سرورا ورقة، وفي كفيها بشرى الحناء وجمالها. وفي مقابل هذه الثنائية تقف ثنائية أخرى لا تقل تعبيرية وإبداعية، وهي الزرقة والخط العربي. فالزرقة تحمل معاني الاغتراب والخداع كما تنزع نحو الصفاء والعطاء، وحين تتداخل مع الصفرة في أعلى اللوحة تكشف عن جوانب التكدر وعدم التجانس. أما مع الخط العربي فتكسب تألقا وتأنقا وغنى. فانفتاح الحرف والتشويش عن مهمته التواصلية المباشرة إما بشرخه أو تغطيته يؤدي وظائف فوق – لغوية تمتع البصر وتفتح مع الذهن جسر التأويل والتفسير المتعدد، وهو ما قصد إليه المبدع قصدا، يجعل الحرف يأخذ من زرقة السماء وزرقة البحر انفتاحهما واتساعهما. ويسعى إلى أن يتزيا بشيء من لا محدوديتهما أو ما فوقها، ففي التنزيل: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" 21.

ولعل هذه القدرة للكلمة على أن تستوعب البحر وتدفع به إلى الانقضاء والفناء، على سعته وجلالته انعكست في اللوحة على خروج الكلمات والحروف من الزرقة في الأسفل خروج المنتصر الذي يرفض التقييد والأسر في مستوى معين لا يتجاوزه. هي إذن حركة دائبة، تجسدها أعمال محمد البندوري بفنية عالية، تشكلها العلاقة الأزلية بين الدلائل اللغوية والدلائل السيميائية، بدأت بالصراع بين الكلمة الطيبة والإشارة المتكبرة، منذ بدء الخليقة بين الله تعالى وإبليس اللعين: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين"22. وأخذت هذه العلاقة طابع الانسجام والتكامل بين "اقرأ" الموجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن خلاله إلى سائر المسلمين، وضمة جبريل التي كانت نفحة علوية في جسد إنساني، تنتقل به من طبيعته الإنسانية إلى صفاء وطهر الملائكة النورانية. ولابست هذه العلاقة اليوم أشكالا وصورا جديدة تجعل بعضها يداخل الآخر على يد فنانين مبدعين برعوا في اللعب على الواجهتين معا، حيث "تحولت تجارب الخط من أشكالها التقليدية ودخلت تجربة التعبير الفني المعاصر، وتوسع استخدامها على مستوى (فن الحفر) و(النحت) و(الإعلان الفني)، حتى شمل هذا الاستخدام كافة التقنيات والمواد" 23. كما استطاعت الممارسات اللغوية أن تمحور داخلها سائر الأشكال غير اللغوية كالتشكيل والموسيقى والسينما وغيرها. لأن الكلمة والخط والحرف أدوات تنفرد بالتعبير عن كل الأنظمة الدلالية وعن نفسها في الوقت ذاته.

تبدو علاقة أخرى تخترق عموديا الزرقة – الخط والحمرة – الجسد، تحدثنا عن بعض جوانبها. وفي شكل من أشكال الانسجام يقع الجسد في مقابل الخط مما تحدثنا عن إيحاءاته، كما أن كليهما يعاني من عائق يحول بينهما وبين المتلقي، هو في الخط نتفة الصوف، وفي الجسد سجن الأشكال الهندسية الجميل. وفي تواشجات أخرى تقف الزرقة وعوائلها حائلا كذلك بين القارئ وتلك الفسيفساء التي تشكلها الصفرة وألوان أخرى قريبة منها، وأيضا يتم تثبيت "المباركة الإبراهيمية" في حركة عمودية كذلك تتمثل في اللوحة في صورة العلاقة بين العنوان ونصه، والقمة بقاعدتها. هي إذن فعالية الإبداع وعمق اللوحة الأنموذج وغناها. وقدرة المبدع على تخطي كل الحواجز لتبليغ رسائل متناسلة، تنطلق من الجزء إلى الكل، وتشكل من الخط العربي والألوان والأحجام أدوات وظيفية، تتكون معانيها في شموليتها، وجمالها في تناضدها، وتأثيرها في تحاورها. ليتخطى الإبداع كل العوالم الفيزيقية ويمارس دلاله في عوالم أكثر انفتاحا وجمالا.

الهوامش

1 مزيدا من العتمة مزيدا من النور، جعفر حسن، مجلة "نزوى" العدد 37 – يناير 2004، ص 148 – 149.

2 الجسد بني الشرق والغرب، نماذج وتصورات، هشام العلوي ص 4.

3 تعطير الأنام، النابلسي، ص 464.

4 نفسه، نفس الصفحة.

5 الكتابة والتصوف، ص 182.

6 الجسد بين الشرق والغرب، ص 31.

7 الكتابة والتصوف، ص 182.

8 اتجاهات الأدب الصوفي، ص 162.

9 نفسه، ص 161.

10 السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، سعيد بنكراد، ص 165.

11 نفسه، ص 132 – 133.

12 نفسه، ص 141.

13 تعطير الأنام، النابلسي، ص 463.

14 العقل في التراث الجمالي عند العرب، ص 272.

15 نفسه، ص 273.

16التصوير والخطاب البصري، محمد الهجابي، ص230.

17 نفسه، ص 273.

18 تعطير الأنام، ص 316.

19 الكتابة والتصوف، خالد بلقاسم، ص 74 – 75.

20 السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، ص 99.

21 سورة الكهف، الآية 109

22 سورة البقرة، الآية 34

23 الجماليات والجماليات العربية، مجلة الوحدة ع 24، 1986، ص23

"لعل هذه القدرة للكلمة على أن تستوعب البحر، وتدفع بهإلى الانقضاء والفناء، على سعته وجلالته، انعكست في اللوحة على خروج الكلمات والحروف من الزرقة في الأسفل خروج المنتصر الذي يرفض التقييد والأسر في مستوى معين لا يتجاوزه"

الكاتب

التشتيــت

قراءة في لوحة من الفن التشكيلي الحديث

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى