الاثنين ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم سلمان ناطور

من دفاتري العتيقة

ساعة واحدة وألف معسكر/ مقطوعات ساخرة- منشورات يسار الداخل 1981
وما أشبه اليوم بالبارحة....

يا ياسر عرفات أترك لهم كوستاريكا!

(كتبت في مطلع الثمانينات عندما كانت دول العالم تغلق سفارات اسرائيل وتفتح مكاتب لمنظمة التحرير الفلسطينية. وبقيت كوستاريكا من الدول الصديقة القليلة لاسرائيلي مثلما ميكرونيزيا اليوم)

أعمل في وزارة الخارجية منذ 15 سنة. موظفة كبيرة. بدأت عملي موزعة رسائل. آخذ الرسائل وأوزعها على عناوينها في الوزارة. أذهب إلى غرفة التصوير وأصور بعض الوثاق، حتى السرية منها، وفي أحيان يطلب مني أن احضر فنجان شاي للمدير (البوس) الساعة العاشرة صباحا. أذكر أنني شاهدت عيدي أمين (رئيس أوغندا في حينه وصديق لاسرائيل) رأيته في الممر المؤدي إلى مكتب الوزير. ابتسم لي ووضع يده على شعري وسألني:
 وات إز يور نيم؟

قلت له:

 هالو مستر أمين، ماي نيم إز سونيا.

كنا نحبه كثيرا. إنه رجل "على كيف كيفك، أخو ال..."

الوزارة في أيام عيدي أمين كانت تختلف كثيرا، "كان فيها حركة..أكشن..أكشن" وأنا كبرت مع هالحركة، ساعدني "البوس" فارتقيت إلى كاتبة، كنت احل وأربط. مسؤولة هنا ومسؤولة هناك. اشتغلت مع ابا ايبان، مع يغئال ألون، ألله يرحمه، ومع موشي ديان. كلهم حبوني. كنت أثير غيرة جميع البنات في المكتب. أنا سمرا وغير متزوجة. أتكلم الانجليزي والفرنسي والاسباني, دايما كانت أبواب التقدم مفتوحة أمامي. تقدمت من درجة الى درجة. من وظيفة لوظيفة. ولكن اليوم كل شي تغيّر. حتى "البوس" تغير. وزيرنا الجديد اسحق شمير ، الختيار ما بيعرف المزح. ما بيتكلم مع حد ولا يلاطفني. إنه جدي جدا.

أمس دخل نائب المدير وجلس كعادته إلى جانبي. قال لي إنه يحمل خبرا غير سار، كنت متوقعة. "بنينا" كانت مسؤولة كبيرة في دائرة العلاقات الأوروبية. قبل شهرين دخل نائب المدير لمكتبها وقال لها: انتهت خدماتك. وبعدين دخل مكتب "شلوميت" وروحها عالبيت. و"راحيل" شو بتشتغل اليوم؟ تتنقل من مكتب لمكتب وتبحث عن شغل. و"ساري وغيئولا ويونا". ما بقي أحد في مكتبنا. قال لنا المدير إن على الوزارة أن تنفذ سياسة الحكومة، وتقلص عدد الموظفين، فأحضروا لنا موظفا من وزارة المالية وألقى محاضرة عن الميزانية وقال بالحرف الواحد: يجب أن نقطع في اللحم الحي. يجب أن نطرد موظفين.

الميزانية، الديون، التضخم، الوضع المالي. كاد الموظف يذرف الدموع وهو يتحدث عن حالتنا الاقتصادية . قلنا له في حينه: ولكن هذه وزارة خارجية، هنا قلب العالم، نحن ندير شؤون العالم هنا. كيف تقلص عدد الموظفين؟ من سيتصل بحكومات العالم؟ بالسفراء؟ من سيستقبل؟ من سيبعث الوفود؟ قال إنه لا يفهم شيئا في شؤون الخارجية وكل ما يعرفه هو أنه علينا أن ننصرف إلى البيت.

ها أنا أجلس في مكتبي، أنتظر الموعد المحدد لانصرافي إلى البيت. فكرت، أليس من الأفضل أن أبحث عن دائرة أخرى في الوزارة؟ قد أجد عملا. ولكن، لا.. كل يوم يغلقون دائرة جديدة. قبل سنوات كانت دائرة أفريقيا أفضل دائرة. أغلقوها. توجد واحدة فقط لجنوب أفريقيا. ولكنها مغلقة إلا للبيض فقط وأنا سمراء. قبل أشهر كانت دائرة غرب أوروبا أهم دائرة. ولكن.. ياسر عرفات أغلقها. سافر إلى اسبانيا وإلى البرتغال وإلى النمسا ووزع جماعته في أنحاء أوروبا، فجاءنا نائب المدير وقال:" يجب أن نغلق الدائرة. ألم تسمعوا ماذا قال وزير المالية يغئال هوروفيتش؟ إنه يريد أن يقطع في اللحم الحي، تقليص في ميزانية الوزارة، إن علاقتنا ممتازة مع أوروبا، فقبل ثلاث سنوات صرح جيسكار ديستان أنه معني بتوثيق العلاقات معنا. إننا نذكره دائما بهذا التصريح. نكتب له كل شهر رسالة. نرسلها اكسبرس . نذكّره وننتظر الجواب. وهل هذا يحتاج إلى دائرة؟ هكذا نفعل مع ألمانيا ومع بريطانيا وصديقتنا تاتشر..لسنا بحاجة إلى موظفين لتذكير دول اوروبا بأنها اعترفت عام 1948 باستقلال دولتنا.."

هكذا قال المدير!

لم أعرف أن ياسر عرفات يقوم هو بدور يغئال هوروفيتش..وهو الذي يقطع في اللحم الحي ويقلص ميزانية وزارتنا. في الأسبوع الماضي زار الهند فأغلقنا الدائرة. موظفو الوزارة بكبيرهم وصغيرهم يراقبون تحركات وزيارات عرفات ليلا ونهارا وبقلق وخوف، وكلما أعلن عن زيارة جديدة يستعد موظفون عندنا لترك العمل. اننا مشغولون دائما بزياراته، كأنه هو الذي يرسم سياستنا الاقتصادية ويكافح التضخم المالي.

للمعلومية! أهم دائرة في الوزارة هي الدائرة المصرية، ولكن يقولون إن سفيرنا في مصر "يكش ذبان" في القاهرة، وهو معزول ولا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، والسفير "مرتضى" هنا. سمعت أنه طلق زوجته. لم يبق ما يفعله هنا سوى أن يطلق ويتزوج، ويطلق ويتزوج. يستطيع في تل أبيب بسهولة أن يجد بنت حلال على ذوقه، وسيشغلنا بحفلات طلاقه وزواجه. على كل حال، إذا بقيت لنا دائرة كوستاريكا فسنظل نقول إنه توجد وزارة خارجية.
سمعت صديقتي "شولا" تصلي لكي لا تصل قدما عرفات إلى كوستاريكا. إنها أم لخمسة أطفال وتعمل منذ ثلاثين سنة في الوزارة. ماذا ستفعل إذا أغلقت الدائرة؟ قالت لي إنها على استعداد لأن تتوجه شخصيا إلى منظمة التحرير لكي لا تصل إلى كوستاريكا. هل تستطيع أن تنشر هذا الطلب في جريدة "الاتحاد"؟ إنني أعرف أنهم يقرأونها. هذا طلب انساني. أنتم تدافعون عن حقوق الموظفين. أنتم ضد البطالة. إنها أم لخمسة أطفال. أرجوكم! قولوا لياسر عرفات ألا يذهب إلى كوستاريكا! قولوا له باسم أطفال هذه المرأة المسكينة..أرجوكم..أرجوكم.. قولوا له.

جريدة "الاتحاد"

4.4.1980


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى