الأحد ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم ماهين شيخاني

سلوك حضاري

أخيرا أوقفوه أمام باب حديدي كتب عليه (غرفة التحقيق)، ركله أحد العناصر بركلة قتالية على مؤخرته دافعا إياه نحو الداخل، ارتد إلى الجهة الثانية، حاول الاستناد إلى جدار الغرفة،عله يسيطر على توازنه ويبقيه متماسكا كي لا يسقط أمام الراكل، طغى صرير الباب لدى إغلاقه صرير أسنانه، أما صديقه فكانت النظارة من نصيبه، لحين التحقيق...مسح الغرفة بنظرة غاضبة.غرفة ضيقة، في زاويتها الجنوبية الشرقية طاولة حديدية قديمة صدئة ومتآكلة وكرسي قديم، رث؟ اتكأ على الطاولة قليلاً بغية انتظار دوره في التحقيق، إلا أن انتظاره دام طويلا، فأضطرر للجلوس على الكرسي المهترئ حيناً والوقوف حيناً آخر وهو ينظر لذاك الإطار المتكأ إلى جدار الغرفة وبجانبه عصى من خيزران ذو رأس بيضوي مبسمر، نظر إليهما وقال في سره يبدو إن القدر جمعني بهذه الأدوات الحضارية التي كنت أسمعها من الموقوفين، كان يعلم بقياس الإطار، كونه عمل فترة في بيع الدواليب، ولهذا تمعن في معرفة الماركة وقال في سره: ليست يابانية إنها اندونيسية حتى هذه الشركة لها وكالة في تركيا أيضاً.

مسح جبينه المعرق مع أن الفصل في بداية الربيع، مد يده إلى جيبه ليخرج علبة الدخان، خرجت يائسة خال الوفاض، تذكر أنه نسي علبة الدخان بجانب سريره. ورحل بذاكرته إلى تلك الليلة وما قبلها، حيث قام وبعد إلحاح من زميله بمعرض مشترك أقيم في بيت طيني على أطراف البلدة، وتذكر كيف لف ذراعه على رقبة والدته بحنية وقبل جبيها بعد انتهاء المعرض وقال: لو نفذت هذه المرة من الملاحقة سأكون ممتنا لدعواتك وبركاتك يا أمي..!.ولكن هيهات يا أمي !. أحس بأن هذه مرة لن افلت من بين أيديهم، بدا لي أموراً غير طبيعية، يلاحقوننا حتى في نومنا وأحلامنا، كان الناس كثر ولم نعتاد على هذا الجمهور الغفير، معارضنا كلها سرية والزوار بالعادة لا يعدون على أصابع اليد ولكن هذه المرة كانوا كثر يا أمي، سيل من البشر، أفواج.أشكال وألوان، لا أعلم كيف جاؤوا ومن دعاهم، آه يا أمي...أنا على يقين وأعلم بهذه التجمعات كم من ذوو الضمائر الدنيئة والخسيسة يندسون بين جمهور الزائرين للمعرض، يكتبون ويملئون. يبثون سمومهم في تقارير بعيدة عن الحقيقة والواقع كل البعد.

• ولكن ياولدي لماذا يمنعونكم من هذه الخربشة التي ترسمونها وتسمونها باللوحة..؟.

• ابتسم رغم ذاك الخوف الكامن في جسده المرتجف وقال: خربشة يا أمي..؟.خربشة.
صدق توقعه وحدسه، بعد يومين طلبه قسم الشرطة بإبلاغ والده للحضور إلى فرع (........)

لم ترف له جف حينها، ازداد قلقه وحيرته، فكر بالرحيل والهروب من بلدته، ثم عدل عن هذه الفكرة عندما نظر إلى زوجته وولده وهما قد غطا في نوم عميق.

• سأل ذاته: كيف لي بالابتعاد عنهما، سيقبضون عليها أو على والدي..؟.أو ربما اخي الصغير، سيحجزونه بدلاً عني، مثلما فعلوا بصديقي ابو روجين عندما اعتقلوا أخاه الكبير، المسن،عوضاً عنه حتى اضطر المسكين الى تسليم نفسه وقضى ثلاث سنوات في اقبية السجن..؟.

بقي حتى الساعة الثالثة والنصف صباحاً على هذه الحالة، خرج إلى الفرن الذي بجواره ليتخلص من الأفكار السوداء التي تراوده من حين إلى آخر، وما أن دخل المخبز حتى سمع هدير سيارة وقفت ونزل منها سبعة مسلحين طوقوا المكان وأمروه بتفتيش المنزل. لم يبقوا شيئا على حاله، قلبوا البيت رأساً على عقب وزوجته مرعبة تنظر إليهم بخوف ووجل، مدَّ / المساعد / يده إلى المكتبة وقال باستهزاء: أوه..كتب ماركسية أيضاً..؟. وماذا تعمل بها أيها مناضل.؟.

• ردَّدت الزوجة: وماذا يعمل بها، ألم تقرؤون الكتب المدرسية ألا تعرفون لينين وماركس ؟!.

• سأترك لك هذه الكتب للتثقيف يا مناضلة، الأدلة التي بين أيدينا من نشرات ولوحات، وهذا الكم الهائل من الكتب الكوردية الممنوعة ،كافية بإدانته وزجه لسنوات، انصحك بالبحث عن زوج آخر لا يملك موهبة مثل زوجك العتيد المتعدد مواهب ، سياسة وألوان، ثم التفت إلى الشرطي وقال: أين يسكن الآخر؟.

• ردًّ احدهم:أكيد زميله على علم بمكانه، أليس كذلك يا فنان؟.

• لا أعلم بمكانه وقد لا يكون موجود أصلاً في البلد، فهو يعمل في العاصمة.

• ردَّ شرطي آخر: سيدي / هؤلاء الناس ما رح تأخذ منهم لاحق ولا باطل / عاملين حالهم شرفاء الوشاية عندهم أمر بليغ، يعتبروها دسيسة وفساد، أنا أعلم بمكانه، دارهم قريب من خمارة أبو يوسف، المحل الذي نرتاح ونشرب فيه دائماً، وليمة المختار أنسيته بهذه السرعة...؟.

• عرفته، عظيم، ولتذكرني في التحقيق بخصوص هذا التافه، الأستاذ شريف أفندي بأنه لم يتعاون معنا ولم يدلّنا على بيت زميله..

....اتجهوا نحو حي زميله، لحظات وهدير سيارة الجيب قد هدأت أمام مسكنه وبعد حين أخرجوه وهو يتوسط اثنين منهم متمتماً.

في الطريق أصبحوا يستهزؤون ويتسلون بهما ويذلوهما ووجهوا لهما أسئلة سخيفة، شعرا بزيادة مسافة الطريق وطولها بالرغم من المسافة في الحالات العادية تأخذ أقل وقت بكثير.

• أسمك حقيقي ولا حركي - أقصد - فني، مثل زميلك آرشفين...يا دهان؟.

• أولاً أنا أستاذ مدرسة وأسمي حقيقي.

• يعني أنك لا تخاف ولا تحسب حساباً لأحد.

• .................(صمت)

• وأنت يا آرشفين يا فنان لماذا غيرت أسمك..؟. ألم يعجبك تسمية والداك لك..؟.

• لا...لم يعجبني ولا يليق بنا، أنه أسم غريب عنا ولا أحبذه.

• سأجعلك تحبه بعدد صعقات الكهرباء والكرسي الألماني سيشهد ذلك وستحبه غصباً عنك وعن اللي خلفوك..؟.

• في الدول المتحضرة بإمكان الإنسان أن يغير اسمه متى ما شاء عن طريق المحكمة واعتقد عندنا أيضا يحق لنا ذلك..؟. قالها بعفوية.

• اعقد لسانك واخرس أيها الحقوقي الفاشل، ولا تجعل من نفسك محامي الشيطان و الدفاع عنه، أعلم أنك درست سنتين حقوق ولم تنهِ دراستك بعد. وللعلم نحن نعلم بكل شاردة وواردة عن حياتك..؟. حتى عن غرامياتك وعشقك..يا...كازانوفا زمانك.؟.حتى من كنت تعشقها قبل زواجك...؟.لهيِ حالك بلوحاتك وأخرس.؟. أدهن...أدهن..؟.

• التفت إليه سائقهم وقال: ياسيدي، جاءتني فكرة هائلة وأريد طرحها على جنابكم، ما رأيكم بعد استقبال – والتفت اتجاههما - أيما استقبال، على مزاجكم ومزاج رئيس الفرع، ندهن المكتب بهؤلاء الحثالة، أفضل من جلب عمال الدهان وبعدها نأخذ كالعادة المصاريف وأجرة العمال من المزارعين والمخاتير.

• ابتسم المساعد وقال: يا فالح من قال لك بأننا سندفع للدهان ومتى دفعنا أصلاً لغيره حتى نحسب حسابه، أما هذين الصعلوكين ليتضرعا خالقهم قياما وقعودا لخروجهما من عندنا أشباه الأنس. والتفت باسطاً فمه ونقر بسبابته على صلعة السائق: ولك بحظي استساغ لي أمر تنشيط مخك..؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى