الأربعاء ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم مادونا عسكر

في رحاب الحلّاج (2)

المشيئة الواحدة

عبارات كيمياوية

نَسماتِ الريحِ قولي للرَّشا

لمٍ يزِدني الوِردُ إلا عطشا

لي حبيبٌ حبُّهُ وسطَ الحشا

إن يشأ يمشي على خدي مشى

روحُهُ روحي وروحي روحُهُ

إن يشأ شئتُ وإن شئتُ يَشا

نهح الحلّاج نهجاً صعباً في التّصوّف، إذ ألقى بنفسه في غمار الحضرة الإلهيّة، وقد بلغ ذروة التّماهي مع هذه الذّات العليا بحيث أنّه اتّحد بها اتّحاداً كلّيّاً. ولئن اتُّهم الحلّاج بالكفر، فإنّ هذا الاتّحاد بالذّات الإلهيّة لا يدركه إلّا من شهدوا عقلاً وروحاً عظمة الحبّ الإلهيّ، وهم النّخبة. والنّخبة هي صفوة الأشخاص الّذين أمكنهم التّفاعل مع الحبّ الإلهي، باكتشافهم أنّ الله الحقّ هو "الحبّ". والحبّ هنا لا يأتي بمعناه العاطفي والرّومانسي، وإنّما بمعنى علاقة حميمة ووثيقة بين الإنسان والله، تخلص إلى وحدة النّاسوت باللّاهوت.
كلّ مؤمن يحبّ الله ولكن ليس كلّ مؤمن يتفاعل مع الله الحبّ، فمفهوم الله متفاوت بين جماعة وأخرى، وحتّى بين شخص وآخر. قد يعبّر الفرد عن حبّه لله بالطّاعة وتطبيق الوصايا والالتزام بالشّريعة، أو بتأدية الفروض الدّينيّة بشكل تام. أمّا التّفاعل مع الله الحبّ، فهو يرتقي إلى ما هو أبعد من الشّريعة، بل هو التّحرّر من الشّريعة والسّلوك في حبّ الله من أجل الحبّ، لا طمعاً في جنّة ولا خوفاً من نار. فيحيا المؤمن عاشقاً للذّات الإلهيّة، يحيا بها ولها، ويكون بكلّيّته مكرّساً لها. والتّكريس هنا لا ينفي العلاقة بالمجتمع، إذ لا معنى للعلاقة مع الله بعيداً عن الآخر، والعكس صحيح. ونرى أنّ التّصوّف عند الحلّاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكاً فردياً بين المتصوف والخالق فقط. لقد طوّر الحلاج النّظرة العامة إلى التّصوّف، فجعله جهاداً ضد الظّلم والطّغيان في النّفس والمجتمع.
إنّ عشق الذّات الإلهيّة والاتّحاد بها يفيض عنه عشق مماثل للإنسان بشكل عام فتكون العلاقة عمودية مع الله وأفقية مع الإنسان.
هذا العشق الفائق كلّ تصوّر يدخل العاشق في حقيقة المعشوق، فيعاينه وكأنّه في مرآة إلى أن يحين موعد اللّقاء الأبديّ. فتشتاق النّفس شوقاً عظيماً، لا يرويه شيء. ويبقى الموت هو منية الرّوح، لأنّه يشكّل الدّخول إلى الحياة ومعاينة الحبّ المطلق وجهاً لوجه.
يحيا العاشق عشقه لمحبوبه الإلهيّ في قلب العالم ولكنّ حبّه لا يلمس الأرض، ويرتقي سلّم الانصهار والاتّحاد، حتّى يبلغ ذروة الذّوبان في الذّات الإلهيّة، حتّى يصبحا واحداً فكراً وروحاً، وبالتّالي تصبح المشيئة واحدة. فيكون المحبوب في عمق الذّات الإلهيّة، والمحبوب في عمق الذّات الإنسانيّة. فينهل المحبوب من الحبيب نبع الحبّ، ولا يرتوي، وينسحق أمامه بكلّيّته حتّى أنّه لا يفكّر بتحقيق مشيئة الحبيب وإنّما تصبح المشيئتان واحدة. ولا يعود الحبيب والمحبوب اثنين بل واحداً.

من هنا يعبّر الحلّاج عن هذه المشيئة الواحدة بقوله:

روحُهُ روحي وروحي روحُهُ

إن يشأ شئتُ وإن شئتُ يَشا

والإنسان إذا ما تفاعل مع الحبّ المطلق، وجد سبيله إلى الحقيقة بل لامسها بل دخلها وعاشها، وترجّى الموت كربح له لأنّ الحياة لا تكون حياة إلّا بالمحبوب ومعه.


ديوان الحلّاج، أبي المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي (244 هـ- 309 هـ/ 858-922 م)، صنعه وأصلحه أبو طرف كامل بن مصطفى الشيبي، منشورات الجمل 1997- الطبعة، الأولى- ألمانيا- كولونيا

المشيئة الواحدة

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى