الجمعة ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم نادية كيلاني

عروس جنين

لعبنا صغارا.. جرينا بطول جنين وعرضها، حواريها وأزقتها، حول بيتنا وحديقتنا الوارفة بشجر زيتوننا الرومي الضارب جذوره فى التاريخ، هو ماهر جدا بدروب جنين، خريطتها فى تلافيف مخه، وخطوطها مرسومة على وجهه.

كم اختبأت خلف أشجار الزيتون وتكعيبة العنب، وفى كل مرة يعرف مكانى بسهولة.. أخي مثله يعرف المكان الذي يعيش فيه شبرا شبرا.. يعرف عدد الأشجار والأحجار.. هو أيضا يستخرجنى من خلف أو تحت أي مكان أختبيء فيه.

الاثنان يتفقان دائما على الايقاع بي .. عيني تدور بينهما وهما يؤكدان لي:

 لا يمكن أن تتخفي بعيدا عنا في هذا المستوطن الذي بنى بدماء الأباء، والأجداد.. عندها أسلم بعجزي وعدم قدرتى على مواصلة التخفي منهما، فينتهي اللعب ويأخذ كل منا الاتجاه إلى بيته، ولكنني في كل مرة اتشبث بابن عمي أن يأتي إلى بيتنا ويساعدني أخي فكلانا نحبه، ليس فقط لأنه ابن العم ولكن أيضا لدماثة خلقه وخفة ظله.. أحيانا كان يستجيب حتى لا يغضبني ويأتي دون شرط، وأحيانا يضحك ويقول:

 أتي بشرط أن آكل كفتة خالتي.

أمي أحسن واحدة تصنع الكفتة، تدير ما كينة فرم اللحم كثيرا، يزعجني صوتها ويثير أعصابي، وأمي تنظر لي باستغراب وتقول:

 لم أر مثل أعصابك رهافة.

كرهت الكفتة لصوت الماكينة، وأحببتها لأنه يحبها، ويفضلها من يد أمي..

كله يهون في سبيل أن يأكل ابن عمي ورفيق صباى ما يشتهي..

تمر الأيام سريعا ونكبر فإذا بي أحجز في البيت ولا ألتقي بابن عمي إلا في بيتنا نتناول كفتة أمي بطعمها اللذيذ، ونكيل لها المديح، ولأمي الثناء وأنها تستحق لقب حاتي جنين عن جدارة.

بعد الغداء يعرج بنا الحديث إلى أرضنا السليبة وكيف أن تحريرها فرض عين، وعلى كل واحد منا أن يقوم بدوره غير منتظر أن يبدأ الأخر.

وهنا أشعر أن نصف الكلام يغيب عن وعي، وأن لأخي وابن عمي لغة خاصة يفهمانها وحدهما.

لا بأس فإن كف عقلي عن الاستيعاب وأذني عن السماع فلم تمل عيناي من ملاحظة شفاههما وأيديهما والحماس الذي يصل أحيانا حد الثورة والغضب.

يوما بعد يوم لاحظت أن أخي وابن عمي يزداد حماسهما، وهما يتحدثان عن المصير، وحق العودة، وحماية القدس و.. و.. وابن عمي يدون في كراسة خاصة عمليات الغدر ومرات الاعتداء وكم كانت الخسائر في حينها.

ولما سألته عن سبب ما يدون في كراسته قال: حتى لا ننسي بطيبة قلوبنا أنهم سفلة.
فقلت له ولكن هؤلاء يضربونهم بالحجارة.

غضب وهب واقفا وهو يقول:

ستكثرين الحجارة على أناس يحتلون وطنك؟!!

وانطلق كالسهم مارقا ولم أفلح وأخي في استعادته.

لم أفهم ما أغضبه، ولكن انصرافه بهذا الشكل حرّق قلبي، وزاد من عذابي أن أخي هو الأخر لفحني بنظرة نارية ولوى وجهه عني.

ليس لي سوى أخي أستنطقه: لماذا يا أخي كان غضبه وغضبك!

 أنت لا تحبين ديارك!

 بل أحبها بكل قوتي.

 يبدو أن قوتك ضعيفة جدا.. اسألي أمك أين أبوك.

يا إلهي ماذا يريدان مني. ليتنا ما كبرنا وصارت لنا اهتمامات غير اللعب والركض حول جدران بيوتنا، واللهاث عند جداول مياهنا.

أخذتني الحيرة أياما.. كيف استرضي ابن عمي الذي أصبح لا يزور بيتنا بسببي.

ولماذا أخي أيضا يوافقه فلا يأتي به، ولماذا لا يقصران كلامهما على تدبير أمر زواجنا وعمل عرس كبير لي وله بدلا مما يشغلان نفسيهما به دون طائل.

نزلت إلى حديقة بيتنا أحمل أحلامي، وتحت شجرة زيتون أغمضت عيني على أمنياتي أتابع بعقلي الباطن كوشة من الورد، فستان الأبيض من حرير وجبير، وطرحة من التل، ويدي في يد ابن عمي وحبيب قلبي، والزفة تدق طبولا يرقص لها جسدي، وهمسات حبيبي يسحر بها قلبي وهو يقول:

 أعرف رقة أعصابك ولكن تحملي هذه الطبول من أجل فرحتنا.. وتعلوا صوت الطبول وتعلوا حتى تفوق احتمالي، فأضع يدي فوق أذني وأصرخ وأصرخ، وأسرع من أمام جرافات هائلة تجتث شجراتنا، وأمي هي الأخرى تقبل على تصرخ وتصرخ:

 الجدران تهتز البيت سيقع.. هيا اخرجي بسرعة.. تجذبني أمي من ذراعي لتلقى بي بعيدا من أمام الجرافة التى واصلت زحفها حتى جدار البيت وخربته.

في لحظة صرنا خارج الأمان والدفء، صرنا خارج الحماية والستر، وألمح أخي مقبلا في زي عسكري، يمنطق وسطه بحزام معلق فيه سلاح وعلى كتفه سلاح، وفوق جبينه شعار " الشهادة في سبيل الله"

ينظر إلينا في أسف وينطلق بهيئته هذه، وما أن أصبح على مرمي البصر حتى نظر خلفه، ونظرنا جميعا خلفنا .. سقط البيت صار حطاما، رفع أخي كتفيه آسفا وانطلق في طريقه.
لم تكن طبول العرس وموسيقي الفرح إلا هدير دبابات وألحان صواريخ وأزيز مروحيات تحمي أفعالا مشينة.

في حضن أمي دفنت وجهي وسألتها:

 أين يذهب أخي.

بمرارة وصبر وقوة وضعف قالت:

 إلى الله يابنتي .. ارفعي رأسك.. إلى متى تظلين كالنعامة.

رفعت أمي وجهي وأدارته عنوة في اتجاه المعركة، كان أخي يحارب العدو يستبسل بشجاعة لم أتوقعها، وكلما حاولت اخفاء وجهي كانت أمي تعيده صوب أخي.

المعركة عند حافة أطلال بيتنا، ولو مات العدو بكل جنوده لن يرجع البيت والشجر، نادي عليه يا أماه..

ليس أخي وحده ابن عمي هناك وشباب جيراننا، كلهم يواجهون بالحجارة والعصي، وقليل من البنادق، والعدو مسلح بالدمار، شديد البأس، يطول على البعد، ولكن الشباب لا يهاب.. الدبابة تدير رأسها في كل اتجاه، أخي يقفز فوقها ويحطمها لكنه يسقط أمامها.. صرخت وصرخت، لكن أمي برباطة جأش قالت:

 ذهب ابني إلى ربه .. ذهب ليلحق بأبيه.

لم تصرخ ولم تصمت، شاهدتها تجري بسرعة تفوق قوتها، في يدها سكين، قاصدة الجندي الذي أردى أخي، فاجأته شجت وجهه، سقط وسقطت بجواره بسلاح زميله انتفض جسدي وانتفض، ودرت حول نفسي مذهولة لا أم ولا أخ ولا بيت فى لحظة واحدة.. صوت الطلقات تسور أذني من عجيب أنني لم أتأثر ولم أغلق أذني، ولم أغلق عيني وقلبي يزداد في دقه وجسدي يزداد اضطرابه، أنظر إلى الشباب الذي يسقط أمامي أوراق الشجر الخضراء بمنجل حقود، أنظر إلى كومة الحجارة التي كانت بيتي وخطر لي خاطر:

سأمسك بحجر وألقى به عدوا أصيبه وألحق بأخي وأمي.

وانحنيت أحمل حجرا، فإذا بيد تمسك يدي، وبصوت أعرفه يقول:

 ندخرك لما هو أهم.

لا أعرف كيف سلكنا طريقا ملتويا أنا وابن عمي حتى جئنا إلى هذا المخبأ الذي يعج بمجموعة من البنات والشباب.. أرواحهم على أكفهم.. عشت معهم أياما.. شاهدت وتعلمت أضعاف سنين عمري.. غاب منهم الكثير خلال تلك الأيام وجاء بدلا منهم أكثر، وفي كل يوم أعي أكثر وأعرف أكثر، والغريب أنني صرت طواقة أكثر لارتداء فستان عرسي، وتاج رأسي، ولم أخفي رغبتي بل أعلنتها أمام الجميع.. أنكر من أنكر وصمت من صمت وأنا لا أبالي:
أريد الزواج.. !

رد أحدهم:

 أهذا وقته..؟

قال الثاني:

 ألم تنضجي بعد..؟

تقدم ابن عمي وحدق في عيني بعيني صقر وقال:

 أنا لن أتزوج.

اتسعت حدقة عيني وثبتهما في عينيه:

 وأنا لن أتزوج غيرك.

وهم بالكلام فوضعت يدي فوق فمه:

 ليس هنا.. أترضى أن تكون زوجي في الجنة..؟

 ماذا تقصدين..؟

 قررت أن تكون حياتي هي مهرك.. والآن قل ورائي:

" قبلت زوجك في الجنة"

كمن لا يصدق أذنيه:

 أنت تفعلين هذا..؟

 نعم يابن عمي.. أنا لست أقل من وفاء، وآيات، وجهاد وغيرهن.. لقد طلبت الشهادة أرجو أن تجهزني لها.

بارك ابن عمي رغبتي وجهزني بيديه .. يضع فوق رأسي طرحة التل وأنا أعدل وضعها، ويلف خصري بنطاق مرصع بالمتفجرات وأنا أحكم قفله، ويلبسني ثوب عرسى وظل يكمل زينتي وأنا في أعماقي أردد:

" أنا مارد إن غضبت.. وقد غضبت"

" أنا ثورة في شكل صمت.. كفانا صمت"

سلمت على ابن عمي ومازحته:

 لم تقل قبلت زوجك في الجنه.. قال:

وهل تذهب عروس دون عريسها.. أنا معك يدا بيد.. هنا فقط لاحظت أنه يلبس بدلة العرس ويلف خصره بماسات الدناميت.

زفتنا البنات ودق لنا الشباب الدفوف وأوصلونا إلى أول كمين، دخل كل منا في جهة للتفتيش..

انتشيت بمنظر الصهاينة يجرون هنا وهناك ينتشلون عشرات القتلى ومئات الجرحى، وأنا وابن عمي نواصل رحلتنا إلى السماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى