الجمعة ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢

صفحة من مذكرات دجاجة

صالح عبد العظيم الشاعر

-1-

لم تكن رحلة مريحة تلك التي قضيتها في قفص متنقل من إحـدى قرى محافظـة الشـرقية ـ حيث نشأت ـ إلى المرج التي انتقلنا إليها فجأة، كانت الرحلة طويلة، والقفص ضيقًا، وأنا هلكى من العطش، ولا أدري ما الذي دعا صاحبنا لأخذنا والتنقل بنا في هذا القيظ الـمميت، ولكن أخـبرني صـديقي (تيم) ـ الذي كان يعرف الكثير عن تاريخ الدجاج مع أنَّه يماثلني في السن ـ أن هذا هو قَدَر الدجاج الذي يفرخ في مزرعة الحاج عويس؛ فهو لا يمكث فيها إلا ريثما يُباع، ورحلةٌ كهذه هي قَدَرٌ وتاريخ لنا معشر الدجاج.

-2-

بعد عذاب طويل في القفص، وعذاب شديد فوق الميزان، وبين أيدٍ لا تعرف الرفق كما أظن، وجدنا أنفسنا في قفص أكبر، لكنه هذه المرة من الطوب، كان ذا سقفٍ عالٍ، معروشًا ومنسقًا، وفيه نافذة بحرية لطَّفت الجو وخفَّفت شيئًا من تعب الرحلة، لكن الراحة لم تدم، فقد هجمت علينا صاحبة القفص هي واثنان من أبنائها، وشرعوا يقصون ريشنا دجاجةً دجاجة وديكًا ديكًا، ولا أدري كيف لم يميزوا بين الكبار منا ذوي الريش الكبير وبين الصغار ـ مثلي ـ الذين لا يغطيهم سوى بعض الزغب الذي لم يكد يصبح ريشًا.

-3-

حلَّ الظلام سريعًا، فجلست في ركن ما وأنا في غاية الإنهاك والتعب، ولم يخفف عني سوى وجود بعض الوجوه المألوفة لي، كالعم (جان)، والعم (صبح)، والعمة (ميزا)، والعمة (نورا)، ومن بعيد جلس (تيم) ينظر إليَّ نظرات ذات مغزى، فأحسست بشيء من الراحة والتفاؤل، وأسلمت نفسي لنوم عميق.

-4-

أفقت على صوت الباب وهو يُفتَح، كانت صاحبة القفص، وكان معها قدور من الماء، وأخرى من الطعام، ومنَّيتُ نفسي بإفطار شهي من الذرة أو القمح، لكني صُدِمْت، فقد كان الإفطار المفروض علفًا، ولم أكن أكره شيئًا من الطعام قدر كرهي لهذا العلف، ماذا يظن بنو الإنسان؟ ومن أين يأتون بهذا الشيء الكريه المقزِّز؟
أرغمني الجوع على الأكل من ذلك العلف، إلا أنني ما أكلت إلا بقدر، ثم خرجت أنا و(تيم) نتنزه خارج القفص.

-5-

خارج القفص سطح واسع، إلا أنه سطح عنيف، لا يسمح بالتنقير فيه، ثم هو مليء بقطع الأحجار التي تعوقنا عن الاستمتاع بالجري، وعلى كل حال كان المشي فيه يمثل لي ولـ(تيم) شيئًا من التغيير بعيدًا عن القفص وزحامه، وأخذنا نستكشف السطح، ونقفز فوق أسواره، ولم نكن وحدنا، فقد خرج الجميع، وعلى مقربةٍ منَّا كان العم (جان) والعم (صبح) يقهقهان بصياحهما، فقد وجدا قطعةً كبيرةً من الخضار، وانفردا يأكلانها.

-6-

كان العم (جان) ديكًا مهيب الطلعة، ذا عرف كبير بلون أحمر قاني، ممشوق القامة، متين البنيان، كل من يرى ريشه الأحمر والأسود يعرف أنه ذو نسب أصيل وعريق، وكان ـ إلى ذلك ـ ودودًا حنونًا، ولم أعجب حين اجتمعت سائر الديوك في القفص وأعلنوا مبايعته رئيسًا للقفص، ووقف العم (جان) فوق البرميل الصدئ الذي يقبع في الزاوية، وألقى كلمة لهذه المناسبة، كانت له طلبات ووعود، لكن طلباته كانت أكثر من وعوده، فقد طلب منا التعاون والتآلف، ورعاية بعضنا لبعض، ووعدنا بشيء واحد، هو تحقيق العدل، وكان هذا الوعد الوحيد كافيًا لنا جميعًا، ففي حقيقة الأمر كان العم (جان) رئيسًا شرفيًّا، فهو لا يضع يديه على مصادر الطعام والماء، ولا يستطيع تأمين القفص وضمان حمايته، كل هذا في يد الآدميين، وإذا حقَّق العم (جان) العدل فسيظل في ذاكرة الدجاج لقرون طويلة.

صالح عبد العظيم الشاعر

مشاركة منتدى

  • المبدع صالح عبد العظيم الشاعر
    بقدر ما في النّص من تهكم و سخرية و هو الأسلوب اللاّئق في مثل هذه المقامات غير أنّك استطعت أن تنقل الواقع برمزية قوية ضمن بنية سردية مشوّقة ، بلغة عابثة بتفاصيل الحال ماكرة ، تفكك أجزاء الحقيقة السياسية بذكاء و نباهة و حذر ، باختصار توصيفك للعدل جسّدته رحلة الدجاج و عبث صاحبه ، هل هي صحوة الشعوب يا أستاذ صالح في العالم العربي؟

    • الأستاذ الباحث/ السعيد موفقي
      لا أخفي عليك أنني كتبتها قبل هذه الثورات بنحو عام تقريبا، وكان في تخطيطي لها أن تكون رواية لجيل كامل (من الدجاج بالطبع) وربما أجد الوقت لذلك، لكنني أخرجت هذه الافتتاحية في هذا التوقيت بالذات لإحساسي بتعاطف نحو الدجاج الذي يتحرق شوقا لتوصيف رحلته وواقع حاله وعبث أصحابه، والله المعين للشعوب كلها بشرا ودجاجا!

    • أحييك أستاذ صالح عبد العظيم الشاعر
      و أتمنى لك التوفيق في صياغة ما تبقى من مشروع سرد سيرة الدجاج
      و كلّ عام و أنت بألف خير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى