الجمعة ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

أحمر شفاه برتقالي

صرتُ أعتقد أنّه ذهب إلى غير رجعة. الحب أكبر كذبة اخترعها الإنسان. أتكلّم عن الحب الذي تتغنى به القصائد والأغاني واللوحات، وليس عن حب الأم لأطفالها أو حب المتعبد لخالقه. أقصدُ الحبَّ الذي قد يكون بين امرأة ورجل.

أنا الآخر توهّمتُ الحب لثلاثين سنة؛ غير أنني استفقتُ منه بعدما عرفتُ حقيقته؛ لم تكن المرأةُ التي سكنت أحلامي تحبني؛ الأحرى أنها كانت تلعب بمشاعري لغرض لم أتبيّنه حتى الساعة. أعتقد أنها كانت تنتقمُ منّي لكوني لم أحببها نهارَ كانتْ في حاجة إلى الحب. وأنا ـ الآخر ـ لم أكن أحبّها أغلقت بابها في وجهي ليلة كنتُ في حاجة إلى الحب.

هل الرغبة في الانتقام هي الحقيقة المرعبة لكل حب؟ وهل العلاقة امرأة ـ رجل علاقة تكامل أم علاقة تناقص؟ علاقة سلم أم علاقة حرب؟...

صرتُ أعتقد أنه عاد بحلـّة جديدة وطريفة. وأنا ككل متأزّم من الحب، صرتُ أعيش وحيداً. أطبخ لنفسي. أغسل أثوابي بنفسي. أنام لوحدي، وأغرق نفسي في العمل لكي أنسى مرارة العيش وصعوبتـَه.

غير أنني اكتشفتُ شيئاً صغيرا له علاقة بالحب الكبير؛ قـُليّب صغير مرسوم بأحمر شفاه برتقالي على الزجاج الأمامي لسيارتي «حمامة»، وما حز َّ في قلبي هو حجم السهم الكبير الذي يخترقه، وقطرات الدم البرتقالية المهدورة منه.

توقفت. تأمّلت. نظرتُ يمينا وشمالا. رفعتُ بصري إلى نوافذ وشرفات بيوت الجيران والجارات: لا أحد.

تعاقبت القلوب ولا أحد. نظرتُ في عيون بنات ونساء الحيّ ولا واحدة. أنا وحيد ومريض وليس في مستطاعي تحمّل مزحة من صديق ليس لي.

ذات صباح نظرت من النافذة فرأيتُ فتاة متوقفة أمام سيارتي وفي يدها برتقالة. نظرتِ الفتاة إلى القليّب المخترق بأسى ووضعتْ راحتها على صدرها. للحظة خِلتُ أنها تنهّدتْ وقالت:«ليكن الله في عون العاشقين».

في الصباح الموالي وجدتُ قلباً برتقالياً مرسوما ـ هذه المرّة ـ على الزجاج الخلفي لـِ «حمامة» غير أنّ السهم الذي أعرفه، استـُبدِل بخازوق، وقطرات الدم التي أعرف، تحوّلتْ إلى بركة مغراء. أحسستُ بقلبي يتمزق عند مشاهدتي لهذه اللوحة الكافكوية. أقسمت... أقسمتُ أن أكشف وجه المرأة التي تتلاعب بمشاعري.

أجل. عاد الحب لأجل الانتقام. ولولا أنّي ابتعدتُ بسبعمائة كيلومتر عن معذبتي لقلتُ إنّها هنا للمزيد من الانتقام. وكيف لها أن تجدني وقد غيّرتُ صورتي واسمي وعنواني وحجبتُ نفسي عن الأنظار؛ فأنا لا أوجدُ إلا في مقر عملي أو في بيتي، وحتى السوق، أدخله مواربة ً وأخرج منه بسرعة البرق.
اشتريتُ كاميرا وسلطتُها على سيارتي. لعلّها تصوّر المرأة التي تحبني حب النار للهشيم. وفي الغد؛ وجدتُ القلبَ البرتقاليَ المُخـَوْزَقَ ممزقا على جميع نوافذ سيارتي «حمامة». هل بكيت؟ هل آمنتُ بعودة الحب؟ هل فرح قلبي بامرأة مفترضة قد تصير حمامتي المفقودة، فتؤنسني وتستقدرني على تحمّل صعوبة العيش؟

رجعتُ إلى كاميرتي. لا شيء عدا صور بعض المارّة الليليين وحارس السيارات ومطر خفيف، وقطعة شريط سوداء. «لعلّ الكهرباء انقطعتْ» قلتُ لنفسي.

وعندما استقللتها، لم يستجب محركُها؛ فصفقتُ بابها في غضب وهممت بالركض إلى عملي. غير أن جارتي السيدة (ف) أوقفت سيارتها وعرضت عليّ إيصالي إلى مقر عملي:
ـ حاشا أن تفعلي. قلتُ لها.
ـ هيّا! اصعد فلقد تأخرتَ عن عملك. قالت.

في سيارتها، رأيتُ أنّها ـ على الرغم من كونها أرملة ـ ترتدي سروال دْجين أزرق يجمع مفاتنها. ولأول مرّة في حياة المجاورة، رأيتُ لها أنفاً صغيرا ينطق بالاشتهاء، ويدين بضّتين في جمال يدَيْ الجوكاندا، وصدرا خفياً / بادياً من ذكّرني بصدر معذبتي (ن)، والأهم من ذا وذاك؛ شفتين اعتلتهما طلاوة ٌ جديدة بأحمر شفاه برتقالي.

ـ لن أنسَ ما وقفتَ بجانبي في أيّام محنتي. قالتْ.
ـ لم أفعل سوى ما يقتضيه الجوار. قلتُ.
ـ ابني (ي) يحترمك كثيراً. قالتْ.
ـ (ي) بمثابة ابني. قلتُ.

كانتْ شهيّة... فبدأتْ تمطر؛ وعندما شغـّلتْ مسّاحات الزجاج، شعرتُ أنها تقول لي:«امسح الكآبة عن وجهِك، وعِش حياتـَك معي!»

عند عودتي من العمل كان معطفي مبلولا. شغـّلتُ مُشعِّع التدفئة، وقبل أن أضع عليه المعطف، فتّشتُ في جيوبه بشكل عفوي، فكانتِ الصدمة عندما استخرجتُ من أحدِها أحمرَ شفاه برتقالي... ما العمل؟... ماذا يمكن لي أن أفعل مع امرأة جارة أرملة تدسُّ في جيب معطفي القلم الذي به تعذبني؟... ماذا تريد منّي هذه المرأة الشقيّة؟ ولماذا هي مصرّة على تعذيبي؟...

في هذه المرّة، رصدتْ كاميرتي خيالا ذكّرني بشخص أعرفه. لعلّه رجل. كان يرتدي سترة خضراء واقية من المطر ويعتمر قلنسوة فضفاضة تخفي ملامح وجهه. أمسك بشيء واستغرق يرسم أشياءً على زجاج وأبواب وإطارات سيارتي. ثم اختفى.

ولأنّني وحيد؛ ولكوني ضحية لألاعيب بعض الإرهابيين؛ ولأنّني قاب قوسين أو أدنى من الانهيار العصبي؛ اتصلتُ هاتفياً بأخ لي يعيش في فرنسا وأخبرته بقصتي مع القلوب البرتقالية المخوزقة على سيارتي. أخي هذا اختصاصي في آلات المراقبة عن بعد. أخي هذا أمرني بوصل كاميرتي بالحاسوب وطلب مني ألا أبيت في بيتي لليلة.

فجاءت النتيجة:«لا امرأة ولا رجل عدا بعض القطط وبعض الكلاب الضالّة».

بل جاء الحل. وأنا أبحث عن آلة الشواء الكهربائية التي استعملتها لسنوات كنتُ فيها متيّماً بالمجرمة (ن) أيام خضوعي لنظام غذائي خال من السكر والكولسترول، والتي رميتُ بها في مرآب سيارتي عندما كرهتُ الحبَّ وتعافيتُ من داء السكري العصبي ومن داء السُّمنة؛ لحظتئذ؛ عثرتُ على كيس بلاستيكي وفيه سترة خضراء وقلنسوة حمراء فضفاضة ومئات من أقلام أحمر شفاه برتقالية...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى