الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم مصطفى أدمين

المرأة المجرمة

لا يضاهيها أحد في المؤسسة من حيث التعبدُ. تنعزل في مكتب الأدوات التعليمية كلما شعرت بالحاجة إلى الصلاة، وتستغرق تقرأ بعض الفقرات من «ابن كثير» ثم تنخرط في النوافل ما شاءت، إلى أن يدق جرس الخروج. والمراهقون تلامذتـُها يقرأون في أنفسهم صفحة الدرس في صمت.

في بعض الأحيان، تنهي الصلوات قبل نهاية الحصة. تدلف إلى قاعة الدرس. تعيد ترتيب أوراق مطبوع «الإحالة على المجلس التأديبي». يرتعب التلاميذ، ويعمّ ُ صمت ٌ معدني... عدا ذلك، تأمرُ إحدى الفتيات بأن تقرأ بصوت عالٍ ما سبق لها أن قرأتْ في صمت؛ وفي أحسن الأحوال، تخاطبُ التلاميذ قائلة:«هل فيكم واحد يعرفُ مدى تأثير ثلاثي أكسيد الحطب على المكونات الإيكولوجية عندما تكون الشمس في سَمْتِها الشاقولي؟»

فيتعمّق التلاميذ في صمتِهم المفروض. آنذاك تصرخ فيهم:«أوباش... جَهَلة... يا إلـَهي ماذا فعلتُ حتى تعاقبني بمثل هولاء الكـَسَلة؟» إذاك تأمر تلميذة:«اذهبي عند العَونة (ز) وهاتي لي من عندها كوب شاي بالنعناع لكي استردّ َ به مزاجي!» يأتي الشاي المنعنع في طرفة عين.تشربه المرأة المجرمة في طرفة عين. تـُصالِبُ ذراعيها على طاولة الأستاذ الإسمنتية. تدسُ رأسَها في ما بين التصالب هنيهة. تستخرجه منه وتقول:«حذار من أن أسمع صوت أحدكم... ما أريد هو أن أسمع طنين ذبابة... ذبابة واحدة فقط».

يرنّ ُ هاتفها المحمول. تقفز من سباتها وتخرج إلى فضاء الساحة وتنخرط ُ في مكالمة غير محدودة، والتلاميذ ـ في صمت ـ يجترّون ألمَهم ويلوكون غضبهم:«متى ستأتي الأستاذة لإنهاء الدرس؟». الأستاذة هنا. الأستاذة هناك من خلال مكالمة إحدى صديقاتها.

يخرج فوج ٌ ويدخلُ آخر في انضباط عسكري وهدوء غريب. يتخذ ُ التلاميذ مقاعدهم المحدّدة سلفا من طرف الأستاذة: أصحاب تسريحات الشعر الغريبة وذوو النظرات المستفزة والمشاغبون المفترضون و(المتبرجات) في الصفوف الأخيرة؛ أمامهم، أصحاب الأنوف المعقوفة (؟) وكل ذي عاهة والجميلات (!) . وفي الوسط، جميع من تظهر على وجوههم علامات البلادة (؟). وفي الصف الأمامي؛ صاحبات النقاب وكل من لديه القدرة على الوشاية.

الصفوف هادئة صامتة جامدة، وهي:«هدووووء! .... إجراء مراقبة الغياب... 1 (حاضر يا أستاذة)،2 (حاضر)،3 (حاضرة)... 11 (غائب)، 12 (حاضرة)... 49 (حاضرة)، 50 (حاضر يا أستاذة).
يقف واحدٌ من أصحاب الأنوف المعقوفة:«أستاذة...لماذا تنادي علينا بأرقامنا الترتيبية في اللوائح وليس بأسمائنا؟... هل نحن مساجين؟»

ـ ما هو رقمك؟
ـ بل قولي: ما هو اسمك؟
تسحب ورقة من مطبوع «الإحالة...». تشير إلى المسؤولة عن لائحة الغياب. تتهامسان. تدوّن؛ ثم تقف وتصرخ في وجه التلميذ المطالب بحقـّه المعنوي في أن يُنادى باسمه وليس برقمه:

ـ أخرج أيّها الوبَش! ستـُحال على المجلس التأديبي.

وللآخرين تقول:«سأذهب للصلاة... حذار أن أسمع صوت أحدكم!»

ذات مرّة خرجتْ من قاعة الدرس في الحادية عشرة ومازال أمامها ساعة درس. هرولت إلى سيارتها الرباعية الدفع وفرقعتْ محرّكها وطارتْ إلى أغراضها والتلاميذ باقون في القاعة يتناظرون في صمت. دقائق. ربع ساعة. نصف ساعة؛ ثم انفجروا ضاحكين مرحين راقصين، وأخرجوا أقلامهم الغليظة غير القابلة للمحو، ولطـّخوا جدران القاعة بما كتموه سنوات:[المرأة المجرمة]؛ [الأستاذة النائمة]؛ [أين الإدارة؟]؛ [جمعية ناديني باسمي]؛ [لا للإرهاب]...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى