الاثنين ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم عـادل عطية

البحث عن الشعر الساخر!

نادر ندرة الابداع، وندرة الابتسامة المشرقة على الشفاة المجروحة!

فما الذي أصاب شعراءنا، حتى قاطعوا الشعر: الضاحك، أو: الباسم، أو: الساخر...، وخف نتاجه؟!..

.. أهو: جفاف في القريحة، و"نشاف" في العبقرية، وعدم خفة في الروح؟

.. أم: هي الحالة المضطربة التي يعيشها العالم من أقصاه إلى أقصاه؟

.. أم: هو استهتار بهذا النوع الهام من الأدب الذي يروح عن النفس، ويزيل عن القلب ما علق فيه من هموم يغص بها هذا العالم الفسيح؟

.. أم هو: الزهد في الحياة؛ "فمن يحب الضحك فهو بالفعل يحب الحياة"، كما قال بيرجسون؟!

الأسئلة وهي تحثنا إلى المستقبل، تعود بنا إلى الماضي، القريب منه والبعيد، حيث كان هذا اللون من أهم أبواب الأدب، وأربابه من أبي نواس إلى الجاحظ وابن الرومي، وغيرهم...
فمن ابرع الصور الفكاهية التي تتمثل في شعر ابن الرومي، وصفه لرجل أحدب:
قصرت أخادعه وغار قذاله فكأنه متربص أن يصفعا وكأنما صفعت قفاه مرة وأحس ثانية لها فتجمعا وكانت له قصائد كثيرة في هجاء البخلاء، قال عن أحدهم، واسمه: "عيسى":

يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد
قيل لإبراهيم بن أدهم: لم تجتنب الناس؟، فأنشد يقول:
ارض بالله صاحبا وذر الناس جانبا
قلب الناس كيف شئت تجدهم عقاربا

وقال ابوالعتاهية في وصف اخلاق بني آدم:

بنو آدم كالارض ونبت الأرض ألوان
فمنه النخل والعنب وزيتون ورمان
ومنه الحنة الخضرا وياسمين وريحان
ومنه الصفط ذو شوك وفوق الشوك قطران

وعن رجل كبير الأنف، قال شاعر:

لك أنف يا ابن حرب انفت منه الانوف
أنت في القدس تصلي وهو في البيت يطوف

وآخر يصف رجلاً بديناً ضخماً، قائلاً:

أنت يا هذا ثقيل وثقيل.. وثقيل
أنت في المنظر إنسان وفي الميزان فيـل

وقال الشاعر اللبناني ابن الفرنجية، في هجو مغن:

قد دهاني ما دهاني
من ثقيل في الأغاني
قلت إذا غنى عراقـا
ليتني فــي اصفهان

أما الشاعر الحلبي فتح الله بن محمود البياوني، فله بيتان ظريفان في النظارات، قالهما لصديقه عابه في حملها، ثم اضطر هو إلى استعمالها:

رب صديق عاب نظارة
يقوى بها الناظر من ضعفه
وعن قليل صار في امرها
يحملها رغما عــــلى انفه

وكان الشاعر المجوني اسعد رستم، صديقاً لأحد المحامين، فارسل إليه هذا المحامي صورته، التي تبدو فيها: يده في جيبه.. طالباً أن ينظم فيه بيتين من الشعر، فقال الشاعر اسعد رستم:

اخذ المحامي رسمه وبجيبه يده
وذلك ليس مـــن مـبداه
فقد كان هذا الرسم أحسن منظر
لو صورت يده بجيب سواه

أراد شاعر النيل حافظ ابراهيم، أن يداعب أمير الشعراء أحمد شوقي، فقال:

يقولون إن الشوق نار ولوعــة
فما بال شوقي أصبح اليوم بارداً

فما كان من شوقي إلا أن رد، قائلاً:

استأمنت الكلب والانسان امانة
فالانسان خان والكلب حافظـــا

وأراد أحمد شوقي، مداعبه صديقه الدكتور محجوب ثابت، الذي اشترى سيارة قديمة، فقال له:

لكم في الخط سيارة
حديث الجار والجارة
اذا حركتها مالت
على الجنبين منهارة
وقد تحزن احيانا
وتمشي وحدها تارة

ومن الشعراء من كان يدرس التاريخ، ويستوحي منه اشعاره..

فقد كان المصريون القدماء، يعاقبون الزاني بسمل عينيه، وكان الرومانيون يعاقبون الزانية بجدع انفها.. فقال الشاعر اللبناني طانيوس عبده في هذا:

فلو وصلت شرائعكم الينا
على ما نحن فيه من مجون
لاصبحت النساء بلا أنوف
واصبحت الرجال بلا عيون

والبعض يستوحيها من القصص الطريفة، ومنها:

كان ذئب ينتاب بعض القرى، ويعيث فيها فساداً واضراراً؛ فترصده أهلها حتى صادوه، وتشاوروا في تعذيبه:

فقال بعضهم: نقطع يداه ورجلاه وتدق اسنانه ويخلع لسانه.

وقال بعضهم: بل يصلب ويرشق بالنبال.

وقال بعضهم: بل توقد نار عظيمة، ويلقى فيها.

وقال بعض الممتحنين بنسائه: لا، بل يُزوّج، وكفى بالتزويج تعذيباً!

وفي هذه الأسطورة، يقول الشاعر:

رب ذئب اخذوه
وتماروا في عقابه
ثم قالوا: زوجوه
وذروه فـي عذابه

ومنها من كان بنت الموقف:

فقد خرج ابودلامة مع المهدي وبعض حاشيته في رحلة صيد، فعنّ لهم ظبي. رماه المهدي فاصابه، ورماه على بن سليمان، فاخطأه، واصاب الكلب الذي معهم، فضحك المهدي، وقال لأبي دلامة الشاعر: قل في هذا الذي رأيته، فقال:

قد رمى المهدي ظبيا
شك بالسهم فؤاده
وعلى بن سليمان
رمى كلبا فصـاده
فهنيئا لهما
كل امرء يأكل زاده

دعا احدهم الشيخ ناصيف اليازجي؛ لتناول الطعام على مائدة افرنجية، وقدمت له الشوكة والسكين، فقال:

وبأنملي ـ فرتيكة ـ أو شوكـــة
أبداً تدب كأرجل السرطــــان
أهوى بها فتكاد تسقط من يدي
لو لم اداركها بكفي الثانـــــي
فكأنها وكأنني سنيورة
تمشي على القبقاب بالفسطان

وذات مرة، زارالشيخ اليازجي، ابراهيم سركيس في منزله، فلما قدمت القهوة، قال ابراهيم سركيس، مباسطاً: كيف تشرب القهوة، والشاعر يقول فيها:

قهـوة البن حــرام
قد نهى الناهون عنها

فقال الشيخ اليازجي:

كيف تدعوها حراماً

وأنا اشرب منها؟!

وكان ابن المعتز، مولعاً بجارية غاية في القبح والدمامة، فسأله بعض ندمائه: ماذا تحب في هذه الجارية؟!..

فأنشد، يقول:

قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئاً فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحـم القبح فيهـواه

عندما انتهى ابوالعلاء صاعد من تأليف كتابه: "الفصوص"، كلف غلاماً له بأن يعبر بالكتاب نهر قرطبة. وحدث أن زلت قدم الغلام، فسقط هو والكتاب في الماء. والتقى ابو العلاء باحد الشعراء في حضرة الخليفة المنصور، الذي علق على تلك الحادثة ساخراً:

قد غاص في البحر كتاب الفصوص

وهكذا كل ثقيل يغوص

فضحك المنصور والحاضرون، مما اوحى إلى ابي العلاء بهذا البيت:

عاد إلى معدنـه انما

توجد في قعر البحار الفصوص

،...،...،...

واذ نعود من الماضي البعيد، والقريب.. بتلكم القطوف الثرية، فإلى الشعر الضاحك: ادعو، على الرغم من أن: "شر البلية مايضحك"!...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى