الأحد ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم رشا السرميطي

فونولوجيا القلم

ما هو القلم؟ سؤال غريب بعض الشَّيء! مثير للتأمُّل، يتحرَّش بالصَّمت الراقد في أغوار النَّفس التي ملأتها غبار الوقت الفائت بلا إنجاز، ولا ركيزة تعكِّز المستقبل الآتي، وما إن ننفثُ عليها، حتَّى تولِّي مسرعة بلا استئذان كوحي من غيم ودخان. تلك اللَّحظات الخامدة في سبات قبور ضمَّت الأحياء، بلا أثر ولا حياة. ربَّما يلقاه القارئ للوهلة الأولى ضرب مستهجن من الكلام، لأنَّنا في معترك حياة تضجُّ بما يُلهينا عن أجمل وأبسط تفاصيل السَّعادة الحقيقيَّة، ذلك لأنَّنا نعيش في عصر التِّكنولوجيا والفونولوجيا.

والبعض منَّا قد يطرح على نفسه ذات السؤال خفاءً، ويتابع بصوتٍ خجلٍ سائلاً قلمه المرتجف، من أنت؟ حينها، ربما يقتاده الفضول لأن يعرف ما يرنو إليه ذاك الاستفهام، أو قد لا يكترث بعمق المعنى، فينأى عن تلك الثُّلة من الأفكار غير العاديَّة، مقتنعاً بالقشور لسدِّ جوعه المعرفيِّ.

وما دُمنا نتحدَّث عن القلم، سيتطرَّق بنا الحديث عن الورق وسنسأل أنفسنا: ما هي الورقة؟ سؤال آخر، قد يعتبره السَّطر بداية لحكاية مشوِّقة، مليئة بالمغامرة، عندما تكتنفها الأحداث الغامضة، وتكثر بها الأسرار المعقَّدة، التِّي لا يقوى على حلِّها سوى من يكتبون بالأقلام. بيد أنَّها تجمع حبيبين، على مقعد كلمة مكوَّنة من حرفين: حبٌّ، وأحداث أعظم، في رواية سرقت العمر من أيام الذين كتبوها، لتهب أبطالها الحياة. نشبت بجرة قلم مثخن بالحمَّى، يهذي شعوره على رقاع شاسع البياض، ويتمادى في الكذب، بينما الكاتب مستمراً في الغواية، والمغامر في اللَّعب، إلى أن تنتهي آمالهم الحبرية، برصاصة قلم أودت بحياة الأبطال، فصرير الأقلام أشدُّ من صليل الحسام، والسؤال ذاته يتكرَّر صداه، ما هو القلم؟

لو فكرنَّا قليلاً، لوجدنا أنَّ صعوبة الإجابة السَّهلة في هذا المقام، على أسئلة كهذه، رغم بساطة الأفكار في تكوينها، وسلاسة الصَّدى الفونولوجي المنبعث من داخل كلماتها، تستحق التَّوقف، لنطرح على ذاتنا، سؤال شفيف: لماذا؟

أما هو الاختراع الذي نكتب به! وأمره معروف لدينا. إذن، لم لا نستطيع الإجابة فوراً ؟ دون تريُّث أو تفكير رغم معرفتنا بحقيقة ماهيَّته التِّي لا تخفى على أحد، وبأنَّه الوسيلة التي يستعملها النَّاس، ويصنعونها بأشكال مختلفة، كي يختار كل منِّا ما يُناسب أوراق حياته من الألوان.

ربما لأنَّ القلم هو النَّاطق الذي يفتق بلا لسان، والسيَّد ذو السُّلطان، على كل حرف كان وما هان. ولأنَّه أمير كلِّ انسان، والفارس المغوار على ورق النِّسيان، فما من كلمة كُتبت إلا وحُفظت مئات الأعوام، بل وارتفعت مكانتها مع مرور الوقت، لتصبح أثراً مشهوداً، وآثاراً خالدةً.

إنَّه القلم.. ذاك النَّبض المتدفِّق كما الجداول، بعذوبتها وصفائها، بلا صرر ولا أتربة، تراه جارياً، وعلى ضفتيّْه تنمو أزهار المعاني الرقيقة، مهما اختلف عنوان النَّص، في شتَّى أبواب الكتابة، حزناً كان أو فرحاً. يبقى العازف الفتَّان، الذي لوقع موسيقى حروفه لمسة من الإتقان. وهو الحجَّة والبرهان، والدَّليل الثابت باعتراف اللّسان، وبه التمرُّد والتحرُّر، عندما تستوحش النَّفس لتلك الأماكن، ويملؤها الحنين، وقت تسأم الرُّوح من تاريخ ملأته الهزائم. إنَّه الخليل الوفيّ، ومخبئ الهموم، وكهف الحكايات الغامضة، بشغف اللَّحظات، وعذوبة المناسبات، بقسوة المحافل، وانتفاضة الصَّوت الثَّائر، على صمت الكلام. وهو المعين على الحياة بلا أثقال المواقف التي تقسو على كاهل ذكرياتنا، وتجور بحملها على ذاكرتنا، حتَّى نلجأ إليه؛ كي يجبر كسرات السِّنين الفائتة بأدب الكلام، الذي يطببُّ آلام الغياب، فنتداوى به من وجع الرَّاحلين، ونبرأ من حزن الغافلين.

بالعلم والقلم، تُبنى الأمم. إذن، هيَّا لنكتب معاً.. ويعرِّف كلٌّ منَّا عن قلمه، وأفراحه وأتراحه، لنطلق سراح الكلمات السَّجينة، داخل عوالمنا الخاصة، فتطير بأحلامنا عنان السَّماء، وتجلجل في الأفق صيحات إباء. فلا نتوَّقف عن الكتابة أبداً، ما دامت فينا حياة. لنخرج ما في بطون الخاطر، من تخمة الحديث، الذي امتلأت به آبار الحبر من شهد الكلام وحنظله، وأعذب الألحان الصَّادقة والكاذبة، ولنبحث جميعاً عن دفاتر أيامنا، ونزرعها بمشاعرنا المتنوعة، لتزهر رياض النَّفس بحروفنا، وتتفتَّح الآمال، ملوِّنة ربيع الأسطر المقفرة منذ أعوام، لنُرح ضمائرنا، ونفشي ما نضمر للعلم من أقلام سئمت السُّكون، والأوقات الخاوية في قيعان الحرمان. وأذكروا معي أروع ما كتب الشاعر أحمد مطر عن الأقلام: .. هذا يدٌ وفمٌ، سلاحٌ ودمٌ، تهمةٌ سافرةٌ، تمشي بلا قدم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى