السبت ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم فيصل سليم التلاوي

العدّادة...

رغم انقضاء ما يزيد على خمسين عاما على تلك الأيام التي روعتنا فيها خيل العدّادة، وفظاظة فرسانها، وهم ينتزعون منا أبقارنا وشويهاتنا. يسوقونها أمامهم بينما نتراكض للحاق بهم، متشبثين بطرف خيط يدلنا على الجهة التي يسوقون ماشيتنا صوبها، غير مبالين بلسعـات سياطهم.

لم نكن غير صبية صغار دون سن المدرسة، يرسلنا آباؤنا في أمسيات الصيف خلف أبقارهم أو أغنامهم إلى الحقول التي حُصدت حديثا، لتلتقط مما علق في أرضها من بقايا الحصيد، من سنبل متساقطٍ أو قش أو عشب جافٍ، فتوفر عليهم بعض مؤونتها، التي يدخرونها لفصل الشتاء.

كنا نأنس للقاء بعضنا مثلما تأنس مواشينا للقاء بعضها، فتختلط في قطيع واحد متآلف، بينما ننشغل عنها ببعض الألعاب الريفية البدائية، وكنا نخشى أحيانا أن لا نستطيع تمييز أغنامنا من بعضها، عندما يحين أوان العودة للقرية بعد الغروب. ولدهشتنا فقد كانت شياهنا تعرفنا أكثر مما نعرفها، وتميزنا عن بعضنا أكثر مما نستطيع نحن أن نميزها، فما إن يتأهب أحدنا للمسير أو يعتلي ظهر حماره، حتى تجد شياهه قد انفصلت فورا عن هذا الخليط، وانتظمت وراء راعيها في صف بديع.

ولو اخترنا العودة سويا وقطيعنا مختلط حتى ندخل القرية، نواكبه مجتمعين أو نتأخر عـنه أحيانا من أجل جولة سباق على ظهور حميرنا. فعندما نصل القرية فإن شاة واحدة ما كانت لتضل عن بيت صاحبها. يتناقص هذا القطيع عددا كلما اجتزنا حارة من حارات القرية، وتتسارع خطاه في نهاية المسيرة، وهو يقترب من مداخل البيوت، كأنه يحمل لها حنينا وألفة تفوق حنين وألفة أهلها.

لم يكن ينغص علينا تلك الأمسيات الصيفية، ويكدر صفوها غير رؤية خيول العدّادة، عندما نلمحها من بعيد فنسارع إلى دفع قطعاننا، و سوقها بأقصى سرعة ممكنة عائدين إلى القرية. ولكن أنّى للأبقار والأغنام أن تسابق الخيل في عدوها؟ إذ نادرا ما كنا نفلت من قبضاتهم، إن أدركنا الحزام الأخضر من أشجار التين والزيتون الملتف حول القرية، وأحسنَّا التفرق في طرقات متعددة، عندها كان بعضنا ينجو بجلده من لسع سياطهم، وبشويهاته من أن يقتادوها أمامهم.

كانت مهمة فرسان العدّادة تختص بعدّ المواشي وإحصائها، والتأكد من ملكية أصحابها لها، وأنها غير مسروقة. وكان لهم زيهم المميز، بسراويلهم الفضفاضة المنتفخة من الأعلى عند الفخذين، بينما تضيق من أسفلها عند السيقان، مع أحذية طويلة تصل إلى الركبتين وقد انحشرت فيها نهايات سراويلهم، إلى جانب كوفياتهم الصفراء المبلطة على هيئة المربعات، والتي تعمم وجوهـهم السمراء العابسة، التي ركبت على رؤوس كأنها القدور، بينما تتوسط أبدانهم كروش منتفخة.

كان منظرهم جديرا بأن يبعث على السخرية، لكنه بالنسبة لنا ولأمثالنا من أهالي الريف، كان يثير الرعب في النفوس، والجزع على قطيعك الصغير، الذي تعيش على لبنه وصوفه، أو ثمن ما تبيعه منه، من أن يضيع منك في طرفة عين، ينهبه منك فرسان العدّادة إن كنت لا تحمل

"كوشانا" يثبت ملكيتك له. و الكوشان عندنا ليس سوى وثيقة رسمية، شهادة ميلاد مثلا، أو إيصال بيع وشراء، ومن أين لك أن تأتي بشهادة ميلاد لبقراتك، أو سند شراء لأغنامك؟ ومنذ متى كان الناس في بلادنا يوثقون لبيع المواشي، أو يستخرجون لها شهادات ميلاد؟ وحتى لو وُجدت لها وثائق، فمن الذي سيأمن على وثائقه، ويغامر بإرسالها إلى البراري مع طفل صغير، ولا يخشى عليها التلف والضياع؟

معظم الرجال عندنا و جُلُّ النساء لا شهادات ميلاد لهم، هذا يؤرخ بسنة الثلجة، وذاك بسنة " الطوشة " وآخر بسنة الهزة الأرضية، لا تلزمهم الوثائق والشهادات في شيء. إن خطر على بال أحدهم أن يستخرج جواز سفر لأنه عزم على الهجرة لضيق ذات اليد، وانقطاع سبل الرزق، أتى بشاهدين أمام المختار فمنحه وثيقة تقدير سن تسهل له أموره.

أما أن يسألنا فرسان العدّادة عن "كواشين" لمواشينا، نثبت بها ملكيتنا لها أو يسوقونها معهم، فهذا هو اللغز الذي حيرنا طويلا، ولم نستطع له حلا . وإن كنا قد دفعنا له ثمنا باهظا من أفضل خرافنا، التي كان ينتقيها الفرسان لنذبحها لهم غداءً وعشاءً، ولأيام عديدة طوال مكوثهم المشؤوم بيننا، ينتقلون من بيت صاحب شويهات إلى بيت آخر. أو شعيرا صافيا غير مختلط بتبن نملأ به مخالي خيولهم، من أفضل ما ادخرناه مؤونة لمواشينا أيام الشتاء، نرشه على وجه التبن لإغراء مواشينا والتحايل عليها إذا لم تستسغ طعم التبن بمفرده.

وربما كان لهم بعد ذلك أن تلين قلوبهم، فيصرفوا النظر عن مصادرة المواشي، مكتفين بما ملؤوا به بطونهم وبطون خيولهم، متظاهرين بأنهم قد اقتنعوا أخيرا بشهادة المختار، ومصدقين الأيمان المغلظة التي يقسمها أمامهم الجميع بأنهم أصحاب هذه المواشي، ووارثوها أبا عن جد.

حيرتني قصة فرسان العدّادة طويلا، وحتى بعد ان غرُبت وجوههم عنا منذ أمد بعيد، فما رأيت لها شبيها في أي مكان وطئته قدماي، و - ما أكثر ما وطئت- عبر السنين. اشتريت خرافا وتيوسا في مناسبات عديدة، وفي أماكن مختلفة، للذبح والاستهلاك وليس لتربيتها ورعيها كما كنت أصنع أيام صباي. ما سمعت عن شهادة ميلاد، ولا كوشان ملكية لبقرة في كل أرض الله الواسعة، إلا في قريتنا عندما كنت صغيرا، وأمام العدّادة دون سواهم.

صحيح أنني عرفت أن مزارع الأبقار النموذجية الحديثة في الدول الأوروبية، وفي بعض الدول العربية، تحتفظ بسجلات لسلالات أبقارها للحفاظ على نوعيتها، و متابعة تحسينها بصورة مستمرة، ومثل ذلك وقبله للخيول الأصيلة وسلالاتها الكريمة وأنسابها.

لكن خيول العدّادة وفرسانها الغلاظ الشداد، ظلت لغزا استعصى عليّ فهمه، مثلما كانت كابوسا يجثم على صـدورنا أيام طفولتنا، رغـم توالي السنين وخضوع قريتنا وسائر بلادنا لاحتلال الأعداء. حتى كان اليوم الذي زرت فيه قريتي وأنا على أبواب الشيخوخة، وقد تبدل الحال غير الحال، وعقدنا مع أعدائنا ومحتلينا اتفاقات سلام و وئام، صرنا بموجبها حُرّاسا لأمن أعدائنا وسارقي أرضنا، وشكلنا أجهزة وطنية متعددة: هذا متخصص في تتبع من لم يجد قوت يومه فاضطر للمخاطرة بحياته، وامتدت يداه لتسرق سيارة أو جرارا زراعيا من بلاد الأعداء، وذاك متخصص في تكميم أفواه من يهمسون بالدعاء على أعدائهم وعلى من صالحوهم، وثالث يحاسب الناس على ما ينوون عمله، إن فكروا في صنع عبوة ناسفة يلقونها على دورية معادية، أو نووا

إصدار بيان يستنكر الحالة التي انحدر إليها مجتمعهم من الرشوة والفساد، ولا ضير في الحساب على النوايا عند هذا الجهاز، فشعاره المؤيد والمُغرض" إنما الأعمال بالنيات"، وجهاز رابع يختص في مسح ما علق بالذاكرة من حكايات الأجداد والجدات، مما يتضمن معلومات تاريخية أو دينية، أو إشارات تشي بتجاوز الحدود التي رسمها لنا أعداؤنا، والتي لا تتعدى عشر معشار وطننا. ومن خطر بباله أو أرسل نظرة إلى ما هو أبعد من ذلك، عُدّ محرضا وطامحا إلى تغيير الحدود وخرق الاتفاقيات، وتعريض الأمن والسلام للخطر، فقد استحق أشد عقوبة، أو سُلم للأعداء. كل هذا يُصنع على رؤوس الأشهاد، وتتسابق أجهزة الإعلام إلى إعلانه والتباهي به، وتزين به الصحف صدور صفحاتها الأولى.

أمام هول ما رأيت وما سمعت، وفي غمرة هذا السيل العارم من الإجراءات المرعبة، قفزت إلى ذهني مجددا من أعماق بئر الذاكرة العميق، وطفت على السطح مرة ثانية حكاية فرسان العدّادة القديمة، وانكشفت الحجب أمام بصيرتي، لتحل اللغز الذي حيرني خمسين عاما.

فلم يكن فرسان العدّادة إلا جهازا من هذه الأجهزة الساهرة على حراسة أبقار وأغنام الأعداء، تطبيقا لاتفاقات أمنية. فلم يكونوا يبحثون إلا عن بقرة أو شاة، ألقى صاحبها بنفسه إلى التهلكة، وعرّض نفسه لرصاص الأعداء، لاختطافها واقتيادها ليلا عبر الحدود، عله يسد بها رمق أطفاله، وربما كانت هذه المواشي في أغلب الأحيان هي ماشيته، التي ذ ُهل عنها وخلفها وراءه فيما خلف، عندما فـرّ بنفسه وولده من قريته التي احتلها الأعداء، وهو يحاول أن يتسلل عبر الحدود، التي لم تكن قد ضُبطت بعدُ في أوائل عهدها، ليعود ببعض ماشيته أو لا يعود أبدا.

بينما فرسان العدّادة يؤدون واجبهم في البحث عن المواشي المسروقة من حظائر الأعداء تطبيقا للاتفاقيات المبرمة، دون أن يعلنوا على الملأ طبيعة عملهم.

عندما فهمت ذلك بعد ما ينوف على خمسين عاما، سامحتهم، وأكبرت فيهم فضيلة الاستحياء، وأنهم ما كانوا يجرؤون على المجاهرة بطبيعة عملهم، وربما كانوا هم أيضا يجهلون الدافع الحقيقي لعملهـم، ولا يرون منه إلا جانب الفروسية، وضبط الأمن وملء البطون بما لذ وطاب. أما الغاية الحقيقية فما كان يعرفها إلا رؤساؤهم الذين وقّعوا تلك الاتفاقيات.

وفهمت معها أن خمسين عاما و زيادة، قد لزم انقضاؤها لتدجيننا نحن، حتى نصبح مؤهلين لأن نقبل في العلن، ما كانت تقوم به أجهزتنا في السر فقط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى