الاثنين ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم فراس حج محمد

رسائل من لدن قهوتها الصباحية

هي الريحُ التي هبت لتعيد ضبط إشارة القلوب، أو الحظّ الذي جمح ذات لقاء ليقول ما يقول، وربما الصدفة، على الرغم من أنني لا أومن بمنطق الصدف، فلا شيء يمكن أن يقع صدفه، قناعة تولدت لديّ وترسخت مذ كنت يافعا، فلا عبث فيما سيحصل، هي رسائل من نوع ما، وفي وقت ما، تأتي لتخبرنا بأخبارها وتُعْلِمَنا بعض أسرارها، كالحلم تماما، فلا أضغاث أحلام كذلك، كل شيء مرتب ومعدّ سلفا، وما علينا إلا أن نسير لنلاقي كل شيء ينتظرنا في موعده ومكانه المقررين، فلا شيء لك سيفلت منك أو يتوه عنك، سيأتيك راغما أو طائعا.
تلك رسائل الأحداث غير المتوقعة، فهي تقول بتشكلها الحدثي الراهن ما نعجز عن فهم المرامي، إن تلك الرسائل آنية وسريعة، وما علينا إلا نخزنها لنعود إليها ربما استطعنا أن نفسرها، إنها تشبه ذلك الرجل الصارم الواثق مما يتحدث به، فهو يقول الكلام القليل ولكن ما يقوله لا يمكن أن يُنسى. جميلة تلك الأحداث التي تصطفّ قامتها رويدا رويدا لتنتصب أخيرا محدثة بحديثها.

كيف يمكن أن تفسر حدثا ربما كان طارئا، ولولا ما ارتبط به من طقوس لم يكن ليؤثر قليلا أو كثيرا، فهل لانسكاب فنجان قهوة الصباح من دلالة، لاحظوا المشهد الآتي:

"في الصباح الباكر، تعدّ قهوتها وقد تأنقت وأعدتها بشهية كاملة، ولكن الوقت يفاجئها، فقد تأخرت، فالدوام وعقارب الساعة لا تنتظر أحدا، أخذت معها فنجان قهوتها لتشربه خلال الطريق، أو ربما لتشربه في مكان عملها من على مكتبها، فلم تكد تفتح باب السيارة وتستقل بكامل استعدادها وجاهزيتها وأناقتها وحبها للعمل خلف المقود حتى انسكب نصف الفنجان، اعتبرت ذلك حدثا عاديا، بالتأكيد مسحت ما ساح من قهوة على كرسي السيارة بلفافة ورقية، ولأنها تحترم ذاتها، وضعت تلك اللفافة الورقية المشبعة بقهوة الصباح في سلة صغيرة للمهملات، اطمأنت على ما تبقى من القهوة في الفنجان، وتابعت سيرها حتى وصلت مكتبها، ما زال الفنجان بين يديها بما تبقى فيه من القهوة، لا تريد أن تتنازل عن ذلك المشهد، تريد له أن يكتمل، فتشرب قهوة الصباح بتلك الشهية المعدة، تعدّ ماء ساخنا جديدا وتسكب قليلا منه في الفنجان، تستعد لتشربه، تعدل جلستها، وتضع الفنجان على المكتب، ولم تكد تضع الفنجان حتى انسكب بالكامل"

لعلها ضحكت، أو غضبت، أو تذكرتني، وربما نادت علي بسرها أين أنا، وماذا سأفعل لو كنت موجودا؟

مشهد قد يبدو عابرا، ولكن للقهوة رسائلها، فهل سيفسد التفسير هذا المشهد، أفضل ألا أحاول أن أحمل المشهد أكثر مما يحتمل، ربما غضبت القهوة من صاحبة الطقوس عندما اصطحبت معها الفنجان للعمل، فالقهوة وصاحبتها لا تؤخذان إلا بطقس من الهدوء والانتظار والتأمل، فانسكب النصف الأول مع أول مخالفة لتلك الطقوس، واستشاطت القهوة غضبا عندما حاولت أن تفسد المذاق الأصلي المصنوع بعناية بشيء من مدارة الماء الساخن في مكان العمل، فاحتجاجا على ما أفسدته من تلك الشهية الباذخة، انسكب النصف الثاني، فحرّمت القهوةُ نفسها على صاحبتها، ولعلها أرسلت لها رسالتها القوية أنني لا أكون إلا حيث تكون الطقوس الهادئة التي ينضجها الانتظار والشوق.

ماذا بإمكاني أن أفعل لو حضرت ذلك المشهد؟ لعلني لا أسمح بابتذال القهوة وشربها على عجل، فأكفي نفسي وأكفي صاحبة الطقوس شر الأفعال والتوقعات، ولكنني بالتأكيد إن صادفت ذلك وحدث بالرغم مني فإنني سأنهي يوم العمل، ونعود إلى حيث كنا، فأعد لنا فنجانا ثانيا من القهوة، وأُرشفه إياها رشفةً بعد رشفة، متأملاً ملامحها وعينيها وهما تبسمان لأن القهوة لم تكن لتضيع أو تغضب مني أو منها، وستحافظ على أسرارنا. إذن فلتطمئني فيوما ما ستكون عيناك قهوتي وهمساتك كل حكاياتي، وستكتب القهوة حكايتها في سفر الحب الذي صنعناها رغما عن البعد، فلا بعدٌ وهجرٌ ولا غضبٌ سينهي حكاياتي، وسأكون صديق قهوتي حتى بعد أن تستظلي بظلي، وأستنير بنور قلبك الذي لن يخونني!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى