الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم حسن توفيق

في طرابلس..جبراني أعدائي

كان أبناء جيلي في كل أرض عربية يحلمون- بصورة جماعية- أن تتحقق الوحدة العربية، وكانوا يتعلقون بكل الرموز السياسية والأدبية والفنية التي تتحدث عن وحدة الجغرافيا والتاريخ واللغة وعن الإسلام باعتباره دين الأغلبية من أبناء العروبة، وكانوا يرددون من أعماق قلوبهم: وطني حبيبي .. وطني الأكبر، وكانت الوقائع على الأرض تشير إلى إمكانية أن بتحقق الحلم الجماعي- حلم الوحدة العربية، خصوصا بعد الإعلان عن قيام الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي- سوريا والجنوبي- مصر، لكن أبناء جيلي ما لبثوا أن أفاقوا على كابوس خانق، حين قام الانفصاليون بما ارتكبوه ضد هذا الحلم الجماعي الجميل والنبيل.

لم يكن الانفصال هو الكابوس الوحيد الذي جثم على صدور أبناء جيلي، فقد تلاحقت من بعده كوابيس تثير في النهار القلق، وفي الليل تزرع الأرق، وظلت السنوات تنقضي ما بين إحباط ثقيل وبارقة أمل سرعان ما تتلاشى كأن لم تكن، إلى أن حاول جيل عربي جديد أن يغير صورة المواطن العربي الذليل والمستسلم لما يحاك ضده، وهكذا انطلقت الانتفاضة الشبابية في تونس ابتداء من ديسمبر 2010 وتلتها الانتفاضة في مصر ابتداء من 25 يناير 2011 وبعدها انتفض شباب ليبيا واليمن وسوريا، وقد رفع المنتفضون الشباب شعارا واحدا كان يتكرر مع بداية كل انتفاضة: الشعب يريد إسقاط النظام، وقد تحقق هذا الشعار كليا أو جزئيا خلال ما أطلق عليه الإعلام الغربي اسم الربيع العربي.

كنت بالطبع واحدا ممن ابتهجوا بما جرى وما يزال يجري، لكني كنت- في نفس الوقت- أحس أن الحلم الجماعي لأبناء جيلي يتراجع تماما كأنه أصبح نسيا منسيا، وقد ألمحت إلى هذا عدة مرات في جريدة الشرق القطرية وهنا في ديوان العرب ، خصوصا بعد أن أحسست أن الأرض العربية توشك أن تتحول إلى شظايا تتبعثر في كل الزوايا، وقد استقر داخلي هذا الإحساس وأنا أرصد الكثير من الظواهر السلبية في كل انتفاضة شبابية، وعلى سبيل المثال فإن مدينة جربة التونسية شهدت مؤتمرا للغة الأمازيغية، كان ممنوعا فيه الحديث باللغة العربية نهائيا، كما كانت هناك جمعة في سوريا بعنوان جمعة آزادي- أي الحرية باللغة الكردية، وفي مصر هناك من دعوا إلى إحياء اللغة القبطية، وهناك من يدعون الآن إلى تدريس اللغة النوبية- الكنزية في المدارس، وأما فلسطين فإن اسمها قد طواه النسيان!
منذ فترة قريبة شاهدت حلقة من حلقات ما وراء الخبر في قناة الجزيرة، وكان موضوع الحلقة الوضع الأمني المتوتر في طرابلس اللبنانية، وتحدث فيها كل من عبد الوهاب بدرخان وأحمد الموصللي وراشد فايد، ومنذ ليلتين شاهدت حلقة من حلقات برنامج عن قرب في قناة أل بي بي سي- عربي، وكان عنوان الحلقة: جيراني أعدائي، ولكن لم يكن المتحدثون من الإعلاميين المحترفين، وإنما كانوا أناسا عاديين من أبناء مدينة طرابلس، لكن قسما منهم يسكنون في باب التبانة، وهم من السنة، أما القسم الثاني من هؤلاء الناس العاديين فهم الذين يسكنون في جبل محسن وينتمون إلى الطائفة العلوية، وأعترف بأن الرعب قد انتابني وأنا أسمع ما قاله أفراد كل قسم من أبناء هذه المدينة الواحدة تجاه أفراد القسم الآخر، بعد أن تحولوا جميعا - نتيجة للانقسام السياسي الذي غذاه الاختلاف الطائفي المذهبي- من جيران أحباء إلى أعداء ألداء!

طرابلس اللبنانية الجميلة هي صورة مصغرة لما يحدث من كوارث مذهبية أو دينية أو عرقية في مدن عربية غيرها، بل في دول عربية عديدة، وإذا كنت أبدو متجهما أو متشائما، فإن على المتفائلين أن يتذكروا كيف تشظت يوغوسلاقيا إلى ست دويلات هزيلة، وأعود فأقول إن أبناء جيلي كانوا في كل أرض عربية يحلمون بأن تتحقق الوحدة العربية، أما الآن فإن كل ما أتمناه يتمثل في ألا تتشظى الأرض العربية أكثر وأكثر مما هي عليه لحد الآن!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى