السبت ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم محمد هيبي

ويكون في الربيع القادم

لم يكن غريبا ذلك الشعور بالسعادة والانطلاق الذي أحسّ به وهو خارج من مقرّ عمله بعد يوم عمل طويل وشاقّ، وبعد عشرات السنين من العمل والصمت المتواصلين! هل كان طيلة كل تلك السنين، راضيا بحياته، وظروف عمله، ومعيشته القاسية، أم كان يرى ويسمع ويعاني بصمت، صمت من لم تحن الفرصة ليتكلّم، أو حتى لينفجر؟ ولماذا الآن؟ ذلك كان بعض ما هجس به شعبان، ذلك اليوم، وهو يسير في الشارع، في طريق عودته إلى البيت، وقد أدّت به هواجسه إلى استعراض حاضر أوضاعه، فوجد نفسه قد تجاوز الستين من عمره، ولا أحد من المسؤولين عنه يفكر بإحالته على المعاش، وهو بكل تأكيد لا يستطيع التفكير بذلك، رغم أنّ آثار السنين أخذت تبدو واضحة في معالم وجهه، لكنّ ظهره لم ينحنِ، والغريب أنه هو أيضا، كان يفكر دائما بأنّ ذلك لن يحدث أبدا. فهو يسير دائما كابن العشرين، بقامة منتصبة وهامة مرفوعة، وصدر مندفع إلى الأمام، رغم المعاناة الصعبة والظروف القاسية التي يعيشها، وسيل الإهانات اليومية التي تهطل عليه، من حيث يدري ولا يدري، هطول المطر في شتاء عاصف. وهو دائما، يقابل تلك الإهانات، ببسمة تحمل في رأي من يراها ألف معنى، أما في رأيه هو، فلا تحمل غير معنى واحد.

يعمل شعبان في مؤسسة حكومية شبه رسمية، ليس مديرا، ولا حتى موظفا صغيرا يحمل قلما. بصفة رسمية، يعمل حارسا وآذناً، وبصفة غير رسمية، تضطره ظروف عمله إلى تنفيذ طلباتٍ، تخصّ أو لا تخصّ مجال عمله، ما دامت تلك الطلبات تأتي من رئيس المجلس، أو ممن يحظون برضاه، من أعضاء وموظفين وضيوف. يقوم شعبان على خدمتهم جميعا، يقدّم لهم عند الحاجة، ما يطلبونه من القهوة أو الشاي أو العصير. وأحيانا يرسلونه خارج المؤسسة، غير آبهين بسنّه، لقضاء كل حاجاتهم، من مشتريات ونقل بضائع ورسائل وغيرها. يبدأ يوم عمله في السابعة صباحا، ويكون أول الحاضرين، وينتهي منه في السادسة مساء، ويكون آخر الخارجين. لكنه لا يخرج كغيره من العاملين في المؤسسة، لاستراحة الغداء بين الواحدة والثالثة بعد الظهر، وذلك لأسباب خطيرة، لا يدركها شعبان، كما يدّعي رئيس المجلس، تتعلق بأمن المجلس وسلامة ممتلكاته، والأهمّ من ذلك كله، تتعلّق بالمصلحة الوطنية العليا. لذلك وغيره، لا يُسمح له بالخروج.

في ذلك اليوم، بعد أن انصرف الجميع، وبعد انتهائه من يوم عمله الطويل الشّاقّ، راح شعبان يستعيد بذاكرته وهو يجوب الشارع، شريط يومه، الذي استدعاه في صباحه، لوركا العربي، رئيس المجلس، وأمره أن يتأخر بعد انتهاء دوامه، لأنّ مؤتمرا هامّاً سيعقد في السادسة من مساء اليوم نفسه، سيحضره كبار فنّاني البلد ومشاهير مبدعيه. بالطبع، لم يفرح شعبان للخبر، لأنّ التأخّر والعمل الإضافي، لا يعنيان له إلّا التعب المضاعف، من غير أيّة زيادة في المعاش، ناهيك عن القلق الذي سينتاب زوجته وأولاده جرّاء تأخره. ولكنه لا يملك الرفض، مهما كانت الأسباب، لأنه سوف يفقد مكان عمله إذا فعل، رغم أنه في المجلس، أقدم من الرئيس بسنوات طويلة.

نفّذ شعبان، كما يليق بعامل نشيط، ومواطن مخلص، ما طلب منه الرئيس تماما، فرافق جلستي المؤتمر إلى نهايتهما، كان يجلس صامتا لا يفكّر إلّا بما كان يفكّر به في سرّه دائما، كلما رأى مسؤولا أو ضيفا ثقيل الظلّ، داخلا أو خارجا من المجلس، أو كلما رأى زعيم البلاد أو أحد أتباعه من وزراء وغيرهم على شاشة التلفاز: "يا أولاد الكلب ... يا ظالم لك يوم"، ودائما كان يستعيد في سرّه دعاءه الذي لا يتغيّر: "يا ربّ فرجك، يا ربّ ألهمني الصبر حتى تزول هذي الغُمّة عن صدري وصدر الأمّة"، إلّا أنّ نظراته ذلك المساء، كانت تخترق سقف القاعة، والكلمات تتفجّر في نفسه "قريب.. قريب.. أقرب من عقلي إلى قلبي.. أقرب من حبل الوريد".

لوركا العربي المذكور أعلاه، هو رئيس المجلس الذي يعمل فيه شعبان. ولوركا هذا، شاعر عربي ملتزم، بكل ما للالتزام في العالم العربي من معنى ... له عدّة دواوين لا يقرأها إلا الملتزمون أمثاله. يجيد اثنتين وعشرين لغة، ليس بينها لغة أجنبية واحدة، يتكلّمها جميعا، بطلاقة بعض الزعماء العرب في خطاباتهم المرتجلة، وحتى المكتوبة أحيانا. ولأنه كذلك، ولأنّ صلة قرابة بعيدة تربطه بزعيم البلاد، عيّنه هذا الأخير رئيسا للمجلس الوطني العربي الأعلى للثقافة والترجمة والطباعة والنشر والتوزيع. وقد أضاف لوركا العربي إلى المجلس، من باب المصلحة والتجديد، ولضمان اللحاق بركب العولمة، أقساما جديدة، معظمها لا يتلاءم مع طبيعة عمل المجلس، مثل: قسم للنقْحرة وآخر للنقْبرة وثالث للنقْبحة ورابع للنقجوة، وخامس وسادس ... عيّنه الزعيم، رغم معرفته أنّ مؤهلاته لا تكفي لإدارة مكتبة أطفال متواضعة في قرية صغيرة نائية. لكنّ لوركا العربي، بمفهوم الزعيم على الأقلّ، يتمتّع بمؤهلات أهمّ من المؤهلات المطلوبة للمنصب، فهو، بتجربته الغنية، يدرك صعوبة المرحلة، ومتطلباتها الثقيلة في الوقوف أمام هجمات الرجعية والاستعمار، والإمبريالية والصهيونية، وغيرها من الأعداء المتربصين بالزعيم والوطن. ويدرك أيضا، وهذا الأهمّ، ما يكابده الزعيم من جهد وتضحيات للحفاظ على رأس الوطن مرفوعا عاليا بين الأمم. وأكثر من ذلك، فقد صار يدرك أيضا، بعد أن همس في أذنه أحد مقرّبي الزعيم، أنّ الفنّ سلاح له مكانته وفاعليته في المعركة. ولأنّ ثقة الزعيم غالية، كان لا بدّ له من كسب ثقة الشعب، بكسب ثقة الزعيم، أهمّ مؤهلاته. لذلك، بادر ذات يوم من أيام الوطن، المشمسة بفضل الزعيم، إلى عقد مؤتمر للفنانين والمبدعين، الملتزمين فقط، يتداولون فيما بينهم: كيف يمكن أن يجنّدوا فنّهم وإبداعهم في المعركة، دفاعا عن الزعيم والوطن والشعب، وكيف يمكن أن يساهموا بنصيبهم في معركة البناء، وفي المعركة ضد أعداء الوطن، من الداخل والخارج، ويساهموا أيضا في لمّ شمل الشعب وحثّه على الالتفاف حول الزعيم، في وحدة تفقأ أعين الحاسدين من أعداء الوطن ومصّاصي دماء شعبه.

مساء ذلك اليوم، وفي السادسة تماما، لم يتوانَ المدعوون، حضر المؤتمر، الذي عُقد في القاعة الكبرى للمجلس، والتي تزيّن جدرانها صور الزعيم، عدد كبير من الفنانين والمبدعين، المشهود لهم بالتزامهم بمصلحة الوطن وتخفيف همومه، وخاصة هموم زعيمه. وبعد كلمة ترحيب قصيرة، ونقاش لم يدم بضع دقائق، صفّق الحضور بحماس شديد لاقتراح لوركا العربي، تصفيقا حادّا وصاخبا، استغرق وقتا أطول من وقت النقاش، ثم انتدبوا من بينهم فنانا مبدعا واحدا عن كل مجموعة، كان اسمه مدوّنا في مسوّدة اقتراح لوركا العربي. انتدبوا شاعرا عن شعراء الوطن، رساما عن الرسامين، موسيقيا عن الموسيقيين وهكذا، لينوب كل مندوب عن مجموعته بعمل إبداعي تجود به قدراته الإبداعية لخدمة الوطن وتحقيقا لوحدته.
أثناء الجلسة الأولى للمؤتمر، كان شعبان يجلس بجانب باب القاعة، صامتا، مستغربا أنّ أحدا من الحاضرين، على غير عادتهم، لم يصرخ به، ولم يأمره بإحضار أيّ شيء، أو تنفيذ أيّ عمل. بعد انتهاء الجلسة، انتقل مندوبو الفنانين إلى قاعة الاجتماعات الصغرى، التي تزينها هي الأخرى صورة واحدة للزعيم، ولكن بحجم الحائط الذي يلي المنصة، يشعر من يجلس عليها كأنه جالس في حضن الزعيم. وبطبيعة الحال، انتقل شعبان مع المنتقلين، ليقوم على خدمتهم إذا احتاج أحدهم وطلب منه أيّ شيء، ولكنّ أحدا لم يفعل. بدأ المندوبون اجتماعهم المصغّر، وأخذ كل واحد منهم يفكر بالعمل الإبداعي الذي سوف يقدّمه للوطن، بينما شعبان يجلس صامتا بجانب باب القاعة. بعد وشوشة سريعة، لم تدم لحظات، وقف لوركا العربي وألقى خطابا قصيرا، بدأه بمقدمة طويلة، مدح فيها الزعيم، فرانكو العربي، وشخصيته الفذّة، ووضاحة وجهه، وصلابة عوده، وثقافته الواسعة، وحنكته السياسية، وسعة اطلاعه على الأمور، ثم ذكر ما له من أيادٍ بيضاء على الفرد والشعب والوطن. ولم يدرك أحد من الحاضرين: لماذا أطال لوركا العربي مقدمته؟ ولا لماذا كان وجهه يصفرّ ويحمرّ ويزخّ عرقا أثناء حديثه؟ أما هو فيعرف، فقد تذكّر أنّ هذه المقدمة في مآثر الزعيم، كان يجب أن يقدّمها في الجلسة الأولى، أمام الجمع الحاشد من المبدعين الملتزمين، أمّا وقد نسي ذلك، فقد راح أثناء خطابه، يتمنى ألّا يكون أحد من الحاضرين قد انتبه للخطأ القاتل الذي وقع فيه. بصعوبة، بعد مقدمته الطويلة، عرّج على ما يجب أن يأخذه المبدعون بعين الاعتبار في إبداعاتهم، مثل ضرورة التركيز على وحدة الشعب، وعلى الوحدة العربية كذلك، آخذين بعين الاعتبار أيضا، صعوبة المرحلة، وخطورة التحدّيات، ودقّة الظروف التي يمرّ بها الوطن. وخصوصا، ألّا ينسوا ضخامة التحديات التي تواجه الزعيم، وعظيم التضحيات التي يقدّمها، من أجل الصمود والتصدّي، ودوام الممانعة واستمراريتها، بوجه السياسة الإمبريالية، الغربية عامة والأمريكية خاصة، المسانِدة للعنجهية الصهيونية، المتمثلة بإسرائيل وممارساتها ضد الشعوب العربية، وبشكل خاص ضد الشعب الفلسطيني الشقيق، الذي يتمتع، حسب رأي قادة إسرائيل، ورأي بعض حلفائهم، العرب وغير العرب، باحتلالها العطوف المستنير.

بعد تفكير عميق بما قاله الخطيب، لم يتجاوز عمقه عمق الوحدة العربية، ولم يستغرق هو الآخر أكثر من بضع ثوانٍ، بدأ مندوبو الفنانين والمبدعين الملتزمين بالوقوف، الواحد تلو الآخر، يعرض كل منهم على زملائه، الفكرة الأولية للعمل الإبداعي، الذي سيعمل على أنجازه، وبأقصى سرعة ممكنة، من أجل متعة الزعيم وراحة الوطن.

كان أول المتحدّثين بيتهوفن العربي، الذي شنّف آذان الحاضرين، بصوت أبعد ما يكون عن أن يكون موسيقيا، ولكن ذلك ليس مهمّا، المهمّ إبداعه وليس صوته. قال إنه سيبدع سيمفونية، يمزج فيها كل الأصوات والألحان، مما عرفه وما لم يعرفه التراث الموسيقي، العربي وغير العربي، القديم والحديث، في عصر الحداثة وعصر ما بعد الحداثة كذلك، يُخلّد بها الشخصية الفذّة للزعيم، وبطولاته غير المسبوقة. سيسميها "بحر الزعيم"، وسيحرص فيها على أن يفضح فيها، بيتهوفن الشهير وأشهر سيمفونياته التسع: الثالثة والخامسة والسابعة، التي ستكون أمام "بحر الزعيم"، مجرّد مجموعة من الأصوات النشاز. ولا يشكّ كذلك، أنّ بحيرة تشايكوفسكي التي ذاع صيتها، سيجفّ ماؤها، وسيهاجر، إن لم يَمتْ، بجعها.

بعد تصفيق حاد، جلس بيتهوفن العربي، فوقف بيكاسو العربي، بسترته التي اختفى لونها الأصلي من كثرة ما علق بها من أصباغ، وببنطاله الجينز، الذي أخرج من جيبه الخلفي، ريشة، تصلح لأيّ شيء ما عدا الرسم، كنس الغبار مثلا. أشار بها إلى الحاضرين وقال: بريشتي هذه، سوف أملأ جدران الوطن، برسومات الزعيم، ولن أدّخر جهدا في تنويع الرسومات لتشمل كل "بوزاته"، التي رأيناها والتي لم نرها كذلك، وخصوصا، تلك التي يقف فيها منتصبا، رافعا يده يحيي الجماهير التي تعشقه. وسوف أحرص على أن تعلو شفتيه بسمته العذبة، الصفراء كالذهب، التي يعشقها الشعب، كما سأجعلها تفوق بجمالها، جمال بسمة موناليزا دفينشي، وسأجعل "عباد شمس" فان جوخ، ذا الصفرة الكالحة والعنق المحنية، يحني هامته إجلالا للزعيم. وسأسمي المشروع الذي سأبدأ بإنجازه هذه الليلة: "جدران الوطن، ألبوم الزعيم".

لم يبخل الحضور على بيكاسو العربي بالتصفيق، الذي استمر ريثما وقف أنجلو العربي. انتبهوا إلى روعة "ريثما" هذه، استعمالها نادر في الوطن العربي، من قبل أن يدخل بروفيسور غازي القصيبي عصفوريته بزمن طويل، إذ لا مجال للريث والتريّث ومشتقّاتهما، في عملية بناء الوطن والإنسان. فور وقوفه، أخرج أنجلو العربي، من جيب معطفه الذي تعلوه غبار الصخور والأيام، إزميلا صغيرا، وأشار به إلى الحضور ثم قال: سأبحث في جبال الوطن، وسهوله وبحوره، عن أجود أنواع الصخور، وأطهرها، وأشدّها صلابة، وإن كنت أعلم جيدا أنها تتفتّتُ أمام صلابة الزعيم. وبإزميلي هذا، سوف أنحت منها تمثالا لفخامته، يفوق بدقّته، وجماله وكماله، تماثيل فلورنسا والفاتيكان. وسأجعل بسمة الزعيم، على شفتي التمثال، تطغى شموخا على شموخ مشعل تمثال الحرية. سأجعله، التمثال لا الرئيس، يتحدّث إلى الشعب، ينطق بحكمة الزعيم، وحسن تدبيره للأمور، وعمق درايته العلمية، وثعلبوية حنكته السياسية، ويروي للشعب قصص بطولاته، وتاريخ انتصاراته، أعني انتصارات الزعيم لا الشعب. وسأسمي التمثال: "زعيم العصر من نصر إلى نصر".

خلال التصفيق الحاد جلس أنجلو العربي، فقام موباسان العربي بقامته التي تشبه تمثالا بالحجم الطبيعي ذهب ثلثه، وصلعته التي تتكسّر عليها أضواء القاعة. لم يتأتئ، دخل في الموضوع مباشرة. قال: لن أطيل عليكم، أنا قاصّ قصير، أعني كاتب قصة قصيرة. لن أفلسف لكم الأمور، سأترك الفلسفة لمجموعتي القصصية، ولكن الآن ...، أقول لكم بمنتهى البساطة، سأكتب مجموعة قصصية، سأسميها "معطف الزعيم"، تشمل عددا لا يُحصى من القصص. كل قصة فيها، سيكون الزعيم بطلها الأوحد كامل البطولة. وسينطوي مضمون كل قصة، على مأثرة من مآثره، التي لا تُحصى هي أيضا. مجموعتي هذه، ستكون عملا قصصيا نادرا يرجع إليه القراء والنقّاد في عصرنا، وفي كل العصور اللاحقة. وسأثبت للقراء والنقّاد والتاريخ، أنّ "معطف غوغول"، ذلك الكالح البالي، لا يمكن أن يخرج منه شيء، وأن كل القاصّين وقصصهم، قد خرجوا جميعا، من "معطف الزعيم".

علا التصفيق، وبينما جلس موباسان العربي، كان دستويفسكي العربي قد وقف، ولم يفلسف الأمور هو أيضا، تاركا ذلك لروايته، التي كما قال، سيفوق عدد صفحاتها عدد صفحات كل الروايات التي كُتبت حتى الآن مجتمعة. وتابع مترحّما على عبد الرحمن منيف: سأطلعكم في روايتي على حقيقة الأمر، "الآن.. هنا". ستكون روايتي التي سأسميها "رواية روايات زعيم الزعماء"، شاهدة في هذا العصر وكل العصور، على عصر الزعيم وبطولاته الخارقة التي عجز عنها كل من سبقه وعاصره، وسيعجز عنها زعماء قادمون، لم يحالفهم الحظ بالعيش في عصره، عصر الزعيم. ولا أشكّ في أنّ روايتي ستصل إلى العالم الآخر، وستطبع هناك طبعات عديدة، وسوف يقرأها صاحب "الجريمة والعقاب"، وسيجد فيها عقابه على جريمته. أما ماركيز، إذا كان ما زال بيننا، فسيندم على ما كل كتب، وإذا طال به العمر، بعد قراءة روايتي، سوف يعيش "مائة عام من العزلة، بعد أن يهدم "ماكوندو" على رأس الكولونيل "أورليانو".

انتهي الحاضرون من عروضهم، التي حظي كل منها بتصفيق حاد، ثم أجمعوا وبإصرار، على أن يسمعوا لوركا العربي، الذي ما زال يفكّر بعواقب الخطأ الذي وقع فيه، ويتخيّل عقاب الزعيم، أصرّوا أن يحدّثهم عن مساهمته، وعمّا سيبدعه من شعر، من أجل معركة الوطن، فيكون ما سيعرضه مسك ختام المؤتمر. وقف لوركا وقفة فيها شموخ مصطنع ومهزوز، يفضح زيف أفكاره وتصرّفاته، لكنّ ذلك لم يزعج أحدا من الحاضرين، رغم انتباههم لما في شموخه من اضطراب وزيف. قال بإيجاز مفتعل أيضا: بما أنني حريص كل الحرص على وحدة الشعب، وعلو مصلحته على مصالح الفرد، سأقوم بكتابة شينيّة عصماء - أراد أن يقول سينية، لقربها من السنا والسناء، لكن بسبب اضطرابه خرجت أقرب إلى الواقع - تمجّد الزعيم، وتنفع الشعب في حاضره ومستقبله، فتوحّد صفوفه إلى الأبد. قرّرت أن أرسي قواعد تاريخ الزعيم شعرا، في قصيدة مطولة فريدة، سأنشرها في ديوان يُطبع بماء الذهب، وسأسميها، فَشَر ابن مالك، "مليونية الزعيم".

بعد تصفيق حاد وصاخب، فاق كل تصفيق سبقه، كان خلاله لوركا العربي ينظر إلى المصفّقين نظرة من يريد أكثر، لعله يتماثل للشفاء من هواجس خطئه، بينما كان شعبان لا يزال يجلس بجانب باب القاعة صامتا. وقبل أن يعلن لوركا العربي عن انتهاء المؤتمر، شكر الحضور واستعدادهم للتضحيات من أجل الزعيم والوطن والشعب، ثم تلا على مسامعهم موجز مقترحاتهم، التي حوّلها، دون استشارتهم، إلى قرارات بالإجماع، يخرج بها المؤتمر إلى الصحافة، الصحافة الداخلية الوطنية الملتزمة فقط، وإلى الصحافة الخارجية، العدوّة قبل الصديقة، ثم أغلق المؤتمر بقوله: هنيئا للشعب بزعيمه وهنيئا للفن والفنانين والإبداع والمبدعين، بالزعيم الملهم (بفتح الهاء وكسرها).

بجانب باب القاعة، كان شعبان يجلس طيلة الاجتماع صامتا، ولكنه كان دائما جاهزا لتقديم الخدمات من قهوة وشاي وعصير، للمجتمعين، الذين نسوا في خضمّ حماسهم للفن في خدمة الشعب، نسوا وجوده، ووجود القهوة والشاي والعصير، فلم يطلبوا شيئا منه ومنها. شعبان، الذي كان صامتا طيلة الاجتماع، سمع قسرا كل ما دار فيه، كانت عيناه تتسعان أحيانا، وهو يحملق في المتكلمين، وكان يهزّ رأسه من حين لآخر، هزّات لها في رأي من يراها، ألف معنى، ولكنها في سرّه لا تحمل إلّا معنى واحدا. ولكن، بعد سماعه، القسري أيضا، لقرارات المؤتمر، خرج عن صمته، انفجر، صاح بصوت كادت تقتله بحّة الصمت، صوت يشبه صوت كتلة ضخمة تسقط في بئر عميق، يتعاظم ويتعاظم ثم يرتطم: يحيا الزعيم، تحيا الجامعة العربية، تحيا الثقافة الملتزمة، يحيا الفنّ الملتزم!!!! وصرخ في نفسه بصوت يسمعه هو فقط: يا أولاد الكلب... التزام ها... التزام... !!!

ربما يكون المجتمعون قد فهموا، وليس مهمّا إذا لم يفهموا، ما رمى إليه شعبان بشعاراته التي بدا وكأنه حضّرها سلفا، ويدّخرها منذ زمن بعيد لمثل هذه اللحظة، فقد حرص على أن يبدو وكأنه يحفظها عن ظهر قلب. وسواء فهموا أم لم يفهموا، لم يبخلوا عليه بتصفيق متواضع، وببسمة لا تخلو من نفاق، ومن خبث لا يخلو من غباء، ثم خرجوا واحدا تلو الآخر، يجهلون ما ينتظرهم في الخارج، خرجوا فرحين بإنجازاتهم، موهمين أنفسهم أنّهم قد أخرجوا الشعب من الظلمات إلى النور، فراحَ الشعب يتفاعل مع بِدَعهم. آسف، زلة قلم، إبداعاتهم...

كان شعبان آخر من ترك المجلس، بعد أن أغلق أبوابه بنفسه، إلّا أنه ترك بوابته الخارجية مشرّعة، وراح، يسير في الشارع، وهو يستعيد أحداث يومه. لم يستغرب أنّ جموعا غفيرة من الناس تجوب الشارع، تتقدّمهم مجموعة من الشباب، خلفهم مجموعة من الضباط بلباسهم العسكري، كان الشباب يمسكون بالزعيم، وببعض مستشاريه ووزرائه ومقرّبيه، بينهم لوركا العربي، يجرونهم من نواصيهم. راح شعبان، بعد أن رأى المنظر، يزاحم حتى بلغ تلك المجموعة من الشباب، وشاركهم الإمساك بالنواصي، بيد ناصية الزعيم وبالأخرى ناصية لوركا العربي، وراح يجرّهما ويتنفّس بعمق، وبسكينة لم يعرفها من قبل، يتنفّس هواء الحرية والوطن، وكان يخالجه شعور بسعادة لا توصف، لم يستغربه رغم أنه يشعر به لأول مرة.
على مسافة قصيرة، بالاتجاه الذي يسير فيه الشباب، كانت هناك حاوية كبيرة تنتظر، حاوية زبالة كبيرة مشوهة، نقشت عليها كلمة، كانت عن بعد غير واضحة، أخذت معالمها تتضح كلما اقتربوا منها أكثر.. "ال.. التا.. التار.. التاريخ".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى