الثلاثاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم عبد الزهرة شباري

جثث الفريح تبحث عن الأسئلة

يمتاز الشاعر جمال الفريح بالبحث الدائم عن المفردة التي تغني وتنبه فكر القارئ وترشده إلى ميناء السياق الشعري الذي ينوء به المتلمس في هذا العصر، فهو ينزل في خطابه الشعري إلى المستوى السائد في الشارع المشاع الذي نعيشه جميعاً، محصناً هذا الخطاب من شوائب التجارب التي سبقته، ومنبهاً عن حالة ما يعيشها هو وشعبه فيما إذا قلنا أن هذه الحالة قد نسيت من قبل الآخرين!

والفريح أتى حقيقة في مرحلة عاش فيها الانهزام السياسي في كل مراحله، عاش مرحلة الأخطبوط في عقود ثلاثة، ورأى ملاحم القتل والتعذيب والمقابر الجماعية، وتشبع حلمه الدافيء بقلق السنين الخوالي التي لم ير فيها قيمة للإنسان كما يرى ويسمع عن معنى أحترام الحيوان في عوالم أخرى!

عليه أرى أن الفريح يبحث عن نص شعري يكتب ويترجم الحياة المعاصرة ويقدمها لنا في طبق، فهو يحسن أن يقدم نصه مترجماً حالة مأساوية عاشها وشعبه هذه المراحل من التسلط القمعي تحت يد الجلادين الذين تجلببوا بالسياسة الطائشة الأمية المنعزلة عن قوانين الأرض.

والفريح يتفنن في بناء قصيدته بصورة ملحوظة لا يمكن تجاهلها، بحيث تصل إلى حد التكلف والذوبان في عنفوان مزاج القاريء فيما إذا لو أتقن قراءة النص الذي بين يديه.

عليه أرى أن مثل هذه القدرة على التفنن والهندسة في طرح هذا النص الشعري الذي يترجم الحالة النفسية للقاريء يدخل في ذائقة المقال لدا الناس، فنصوصه حقاً نصوص تفلت من قيد الزمن لتعتلي رابية النفس البشرية وتطل بها إلى موقعها الأصيل لتمثل الجزء الأمثل من المستقبل!

فقصائد الشاعر جمال الفريح بصورة عامة تنتمي إلى هوية عربية أصيلة منفتحة على منجزات الحداثة وتجلياتها المختلفة، في الصورة الشعرية واللغة والبناء والطرح لما لها من بحث في الشؤون الداخلية للحياة الاجتماعية التي يعيشها الفرد في مجتمعه سوى أن كان سعيداً أم شقيا!

فهو أذن يسمر لوحتيه المفقودتين في خضم الأمواج التي حطت من سفينه إلى قاع ليس له قرار، وراحت بربانها الذي كان يوماً رمزاً لمسيرة دربه والفضيلة التي كان ينشدها يوماً ما.
راح وهو يتابع طيور البحر وقد يزدري هيامها لما تعبث في طيرانها فوق أمواج تتخذ منها لهواً في صعودها وهبوطها وهي تغني أغاني الهولو لتسمع ربان سفينته الخائرة!

في حين يعتلي هذا الصمت وهذه السمفونية الصاخبة من رفيف ونعيق ويهزأ لطيرانها الذي قد لا يجدي نفعاً كما يراه، يصرخ صاخباً ويمور مارداً لا تثنيه الرياح ولا العواصف ويسير هازئا ً بالريح فوق سطح سفينته السكرى، الذي يرى أنها لا تعدو أن ترضخ يوماً إلى جرف ترسو عليه ولا فنار تتخذه ملجئاً لتغدو منه وتسترشد إلى مينائه وتغفو عليه وهي ماردة في عنفوانها التي اتخذت منه يوماً ملجئاً يأوي البائسين إليه!

كان يؤمن به إيماناً لا لبس فيه أنه الفضيلة والقرار الذي ينشده الجميع ويؤمن به النازحين، كان يراه في يومه وليلته في نومه ويقضته، كان يراه مارداً فاضلاً معلماً بل فناراً تسترشد به السفن الضائعة في لجي البحار المظلمة، كان هنا يوماً يرشد ويعلم ويبني ويعمر، ألاَ أنه يا للخيبة غاب دون اعتذار، غاب وهو يحمل حلمه الذي عاش من أجله بل قدم الغالي والرخيص ((وطن مر ٌ.. وشعب ٌ حزين ْ))!!

فيقول: (جثث... لهم .. كانوا الفضيلة والمسيرة والقرار
كانوا هنا يوماً
وغابوا بين بدء ٍ واعتذار
كانوا هنا يوماً
وغابوا حالمين
وطن ٌ مر ٌ.. وشعب ٌ حزين ْ)

فها هو يناغي جثثه الحزينة التي اتخذت من البكاء رداء ً ترتديه في حلها وترحالها على جوهرة كان يضمها بين شغاف قلبه، جوهرة كان يسميها الوطن الذي عبثوا به سنيناً وعقوداً ولا زالوا يسْتمرون هذا العبث وهذا القتل والدمار، والفريح أتخذ من جثثه عوداً يعزف عليه مواويل البكاء والحزن على وطنه المفقود، إلاَ أنه ينثني من جديد ويعيد حنينه إليه متذكراً كل ويلات وعذاب السنين وظلم العقود المظلمة التي مرَت ْ على هذا الشعب الحزين ومن راح منهم متذكراً أحبائه وأصدقائه واحداً واحد ((عبدا لخالق محمود، صباح شرهان، معد فياض، جواد سوادي، وعبد الزهرة وداعه)) حيث لا صيف فيه ولا شتاء دون طين، فيقول:

(جثث حزينة كان يعلوها البكاء
على وطن ٍ عبثوا به يا ما،
ولا زال الحنين إليه يتقد أحر من الجمر،
لا صيف شهي ٌ ولا شتاء دون طين)

حقاً هذا هو حال شعبنا ولا يزال في هذه المحنة القاتلة يناشد الفضيلة أن تهب من رقدتها وتنفض عنها غبار الأتربة التي دفنت فيها!!

ويذهب الفريح مهموماً تقلب به الليالي في الدروب الشقية متحسراً لما حدث ويحدث في أزمات أتخذها من يريد العيش خداعاً ونفاقاً كما الثعالب تعيش في غابات الصمت الموحش لتتخذ ملاذها وخداعها قصوراً شامخة على جماجم القتلى من أبناء الجياع!

وتكبر الحسرة عند الشاعر ليذكرْ بهم في قصيدته الصغيرة التي أسماها (إنه.. إنهم) التي يقول فيها:

(أنه آخر الخونة
لص صغير،
بصقت
كل الحضارات في وجهه
بعدما طارده (بالنعال)
حمورابي،
ففر... وصار بعد عشرين عاماً
سياسي !!!)

وهكذا يحمل جمال الفريح نصه الشعري بتشكيلة من الأنساق الصورية المتداخلة مع الأنساق الحياتية واليومية إلى جانب ما تملي عليه من ترجمة لحياة القارئ والمتتبع لهذه الصور الشعرية !
فهو يبيح أن يستوعب بشعره تفاصيل الشارع إلى جانب هواجس الأفراد الذين يرزحون تحت طائلة الفقر والعوز والمرض، فيقول في قصيدته (الحيَانية) التي يشرح فيها الحالة المأساوية لشعب هذه المدينة البائسة التي جعلت من شعبها مستلباً مفرغاً من القدرة التي تؤهله في أختيار نوع الحياة التي يحياها كبقية خلق الله تعالى !

(أتعب أمكنة الأرض للمكفوفين
ورواد الفقر،
ومن غسل يديه من الدستور،
وللعاطل من حلم العيش،
وللمهمومين بأمراض
لم تختر غير الحيانية)

وهكذا يسطر الفريح هذه الهموم وهذه المداخلات التي يعيشها وشعبه على رقعة وطنه العراق، في صور وقصائد هذه المجموعة التي تنم عن أسمها الغريب ((جثث الأسئلة)) التي بلغت أربعة وثلاثون نصاً، فسر فيها لنا جوانب من هواجس الانسان وما يلم به في وطن الحضارات والثقافة، حيث يرى المتلمس لهذه القصائد جل همومه فيها.

قصائد هذه المجموعة حقاً تمثل براكين تتنفس عبر قشرة الأرض التي يعيش عليها الفريح والتي تنذر بالدمار لما تمليه على فكر القارئ من إنذار يجب الانتباه إليه.

فهذه القصائد مأخوذة بروعة حمى اشتغال الشاعر في حسه الصادق وعمق معرفته بالكوارث التي يسبر غورها ثعالب هذا العصر!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى