الجمعة ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم أحمد توفيق أنوس

سعاد والخريف

الغربة الحمقاء

سَهت عيوني عن الدّنيا وما فيها، وشعرت بالنّوم وهو يتسلل بخفة ورفق إلى عينيَّ وأنا قابعٌ في كرسيّ، وما تنبهت منه إلآ وسُعاد تهزّ كتفي وتوقظني لتُخبرني بأنها عادت لتوها من منزل أخيها، غريبٌ أمرها هذي الفتاة، ذهبت لتعود وحيدةً وحقيبةُ السفرِ الغريبة.

غادرَ سمير متوجهًا إلى عملهِ، فيما بقيت ليزا والطفلينِ ليمضيا اليومَ برفقةِ عمتهما فهي ستغادرهما يومَ الغد، كانت ليزا متفهمةً للأمرِ أكثر مِن سمير بطبيعةِ الحال، فهي تعرفُ خبايا الأمر أكثرَ منهُ، -لا أدري إلى أي حد لكن بدا لي أنها تعلمُ كلَ شيء-، عندَ الثانيةِ مِن بعدَ الظُهر إستيقظت سُعادُ من نومها، وفوجئت بوجودِ ليزا والأطفال الذينَ إشتاقت لرؤيتهم لكنها بادرتني بالسؤال:
  ألم تتناول طعامَ الإفطار - وهي تنظرُ إليَّ وكأنها تعتذر-
  لا لستُ جائعًا، إكتفيتُ بالقهوة
  أنا آسفة، لم أكُن متواجدة، لم أستطع النومَ ليلةَ الأمسِ
  أعلم، وكانَ سمير يسألُ عمّا سنفعلهُ
  وماذا أخبرتهُ؟
  لم نُخطط للأمرِ بعد، سُعاد ليزا هُنا والصغيران معها، سنتكلمُ بالأمرِ لاحِقًا هه
  فهمتني خطأ، لستُ أجادلكَ بالأمرِ، سأكتفي بما تريدُ قولهُ إما نعم أو لا، فكرتُ بالأمرِ كثيرًا ليلةَ البارحة، معكَ حق ربما تسرعتُ أنا في الأمرِ وفرضتُ عليكَ نفسي، لكنَ عُذري أنني أحبَبتُكَ - وعينيها تدمُعان - ومع هذا
..وهي تضحكُ..

هل تُنكرُ أنَنا أمضينا أيامًا جميلةً معًا؟ ..وهي تمسكُ بيدي وتضغطُ عليها برفقٍ فيما ليزا تتابعُ الأمرَ بصمتٍ ..
إحتضنتها فبدأت دموعها تنسكبُ على وجنتيها، - أتعبتني سُعاد – أتعبتني، عاطفتها الجارفةُ تأخذني بعنفٍ إليها وتقتلني سُعاد بحبها، - تزرع الأمل لتحصد الألم - أي قسوةٍ تلكَ التي بينَ الضلوع زرعها الماضي في قلبكَ؟ .. كل هذا تبدّدَ في لحظةِ إنكسارِ سُعاد أمام مرفأ صدري .. نحيبها .. شعرتُ بالقلبِ الذي يحتويه صدرها ينتفضُ مُتألِمً يستصرخُ بي الحب .. لكنهُ ماتَ في قلبي .. ألَمْ تبكي عالية مِن قبلها على صدركَ آلآف المرات؟، ألم يتبدّل الحبُ وأمسى صارخًا بالخيانةِ والجحود؟
  الأولاد يا سُعاد، وليزا هُنا
  لأبقى قليلاً، لن أبكي - تحضنني بقوة -
أخرجت ليزا الأطفالَ ليلعبوا قليلاً معَ الكلب فيما جلست سُعاد في حضني، وألقت برفقٍ رأسها على صدري تنظرُ إلى وجهي حينًا، وتقبلني حينًا آخرَ وكأنها تستعطفُ ما تبقى مِن إنسانيتي .. ولكن هل تبقى مني شيء؟ لآ أعلم .. وكلُ ما شعرتُ بهِ كانَ ألم .. ألمٌ لأنها كانت تتعذب .. لكن ليسَ لي ذنب بهذا .. نعم، لا ذنب لي بهذا.
  أرجوكِ أن تفهمي .. أنا لا أكرهُكِ بل أحببتُ فيكِ كلَ شيء .. كلَ شيء لكنني لا أستطيعُ المُضي فيما تريدين
  لا أريدُ ايّ شيء - تمسح دموعها -
لنبقى الليلةً معًا، فهذا ما أريده، لنجعلها ليلةً الوداع .. هه حبيبي
..وأشهقت بالبكاءِ مِن جديد..

قبّلتُ رأسها وأجبتها لِمَ تُريد وسألتها أن لا تُظهرَ أمرَ بُكاءها للصغيرينِ .. إبتسمتُ بوجهها وقبّلتُ الشفاه، ورجوتها أن تُسيطرَ على نفسها فاليومُ ليزا هُنا والأطفالُ يتوقونَ لرؤيتها والجلوسُ معها فأجابتني لِمَ أريد.

إتفقتْ ليزا وسعاد على أن تمُرّ عليها هي وأخاها سمير في الثامنةِ مِن صباح الغد، فيما كانتا تأكُلانِ البيتزا التي أرسلها سمير، كي يتسنى لهما إصطحابها إلى مطار أورلاندا، فطائرتها لن تُغادر قبلَ الثانية مِن بعد ظهر الغد، سيكون لديهم متسعٌ مِن الوقت لتناول القهوة هُنا ومِن ثمَّ الإنطلاقُ والوصول إلى المطارِ قبل مغادرة الطائرةِ إلى أمستردام، ومنها إلى مينسك بثلاثِ ساعاتٍ على الأقل.

أمضيتُ ما تبقى مِن نهارِ اليوم في القراءة والإستماعِ لبعضِ الموسيقى، فيما كانت سُعاد ترافقها ليزا تقومانِ بالتنزّه أمامَ الكوخِ ومُلاعبة الصغيرين.

كانت سُعاد تختلسُ إليَّ النظرات في الوقتِ الذي كنتُ أحاولُ فيه القراءة، لم أفهمُ شيئًا مما قرأت، فكنتُ أُعيدُ قراءة الصفحات مرة تلو الأخرى وكأنني اقرأها مِن جديد، أهي النظراتُ ما يُقلقني، أم ما يدور في رأسي يُسقمني ويُحيد بي عن التركيزِ عمّا أقومُ بهِ؟ ألقيتُ الكتابَ مِن يدي لا زهدًا فيه، وأصغيتُ للحنِ الجميل لا حباً فيه، وأغمضتُ في الأسى عيوني أحاولُ إرضاءَ شيء بي، وكأن ما يُسقمُني أمامَ عينيّ، بينما الصرخاتُ في جوفي تُعذّبني، أهو الضميرُ ما يؤلمني؟

سَهت عيوني عَنِ الدُنيا وما فيها، وشعرت بالنوم وهو يتسلل بخفة ورفقٍ إلى عينيَّ وأنا قابع في كرسيّ، وما تنبهتُ منه إلآ وسُعاد تهزّ كتفي وتوقظني لتُخبرني بأنها عادت لتوها مِن منزلِ أخيها، غريبٌ أمرها هذي الفتاة، ذهبت لتعودَ وحيدةً وحقيبةُ السفرِ الغريبة .. بينَ يديها .. وارتجافُ الشفتانِ .. ولهاثٌ كالشريدة .. عادت مشيًا على الأقدامِ .. لِمَ؟، سألتها وأينَ كانَ أخاكِ؟ فيما هي تُديرُ وجهها بعيدًا عَن عيوني وتذرفُ الدمعَ شجون
أتُرانا يا سُعادُ في غُربةٍ حمقاء؟ سوداءٌ وهَذا الثلجُ يا سُعاد .. لِمَ الجفاء .. هل الغربةُ تقبعُ في نفوسنا، أم أننا نقبعُ بها وبها نتمثلُ غرباءُ؟، .. اشارت إليَّ أن لا تعبأ بما لا يهم .. فقلتُ: وما المهم .. أجابَت: أن نكون معًا، هذا المهم، وأن نكون سعداء، وأردفت وأنا أحملُ حقيبتها .. هل سيبقى شيء؟ لم ألقي لها بال .. لم ألقي لها بال، كأنّها الدّنْيا تُنازعني وتدورُ بي وكلّ ما حوْلي أصْبحَ خصْمٌ يُقارعني

كانَتْ بذهْنِ اللّيْلِ تَنْتَحِبُ
ينْتابها الحزْنُ والأشْجانُ والأرقُ
تهْفوْ إلى الْحلْمِ لتسْترهُ فيكْشفها
جمْر الْعيوْن وفيْهِا الْدّمْعُ منْسَكِبُ
حيْرى فما حلْمٌ يؤنِّسها
والْحلْمَ كالأطْفال تحْتَضِنُ
ولا أملٌ في الْدّنْيا تُعاتِبها
كأنّ الْعمْر والآمال تَخْتَصِمُ
فيْ الْوجْدِ صَرْعَى تَغيْبُ منْ لواعِجه
سكْرى بخَمْرِ العِشْق والْهَيّم
مَرّتْ بها كمروْر الْنّسْم لا تأْلوْ
جُهْداً ولا تَرْضى بها الْسّقَمُ
كانَتْ سُعاد كما الْأحْلامُ تَعْرفها
نَبْعٌ مِنَ الْعِشْقِ فيْهِ الْشّهْدُ والْعَسَلُ
بزَّتْ ربّات الْحُبِّ قاطبةً
فخلّوا لها التّيْجانَ وارْتَحَلوا
هذيْ سُعادُ الّتيْ ما فَتأتْ
تقْتاتُ منّيْ ومِنْها أنْهَلُ الْسُّكْر
وأقْبلَ الْفجْرُ على عَجلٍ
كأنَّ لله أعْوانٌ بهِ حَضَروا
كأنَّ الْسّويْعات مرّتْ بنا صرْعى
وفيْها الثّلْجُ كالْنيْرانِ يَجْتَمِرُ
وأقْبلتْ ثوانِ الْهَجْر تمْتَشِقُ
حدَّ السّيوْفِ وفيْها الْموْتُ ينْتَصِرُ
كانَتْ سُعادُ منْ وجْدٍ بِها ثَمْلُ
ومِنْ روْضاتها الْأحْزانُ والْقَهَرُ
الغربة الحمقاء

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى