الأحد ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم أحمد توفيق أنوس

سعاد والخريف

فتنة النساء

لم يُفارقُ ذهني خيالها، ذاكَ الذي بدا لي شاحِبًا وراءَ النافذة، وهي تُحدِّقُ بي، ونيرانُ أدمُعها تَنسابُ على خَدها، كأنها بعدَ مضييِّ تلحّفت وجهها بيديها وانسابت تنتحبُ كطفلٍ صغير، أم تُراها مازالت هناكَ تُعانقُ الأفقَ بعينيها، حيثُ الظلامُ يفترسُ المحيط،

ليندا، هذه السمفونية الكامنة في أرضِ الشّمال، تُجدّلُ خصلاتَ الذّهب الموشّح بالألماسِ شعرها، ويدور في محْجريها الزمرّد، بدت في ناظري وفستانها الأسودُ الصغير كنحيتة مرمرٍ صُبّت في أبنوس أسود، وهذا المبسمُ الذي يجاورُ فمي بدا كزُرارِ وردٍ أزهرَ في حقلِ الياسمين، لم أرى ما يُضاهيها في محفلِ إنسٍ ولا جان، دَنت لبُرهة مِن أذني ونحنُ نرقصُ هامسة:
  ليندا: ماذا لديكَ الليلة؟ ..
شعرتُ بدبيب الخدر يسري بأوصالي، وكأنّ للنّارِ مكامنَ في عروقي حيثُ بدأت نيرانها تسري مع دمي إلى عقلي وقلبي، .. أجبتها دونَ وعي ..
  أنتِ ما لديَّ، .. لا شيئ إلآكِ .. لِمَ؟
لم تُجب، لكنها وضعت ذراعًا حول عنقي، وطبعت في صمتٍ قبلةً على شفتيّ، بعدما أرخت للفتنةِ جفنها

وكأنَّ للريحِ أنسامًا تهادت
وعطورًا ندت مِن أضلُعي
فبدا الْحفْلُ أماميْ كفرْدٍ
ينْظرُ جمْعًا وقسْرًا معيْ
وإذا الغيثُ تبدَّل صحوًا
وإذا الْرّعْدُ صدى أوْجعيْ
ونما الْقيْظُ بجوْفي الْنّديِّ
وفرَّتْ دمائيَ مِنْ أذْرعيْ

كانت هيلين لا تَزالُ قُربَ سُعاد، تلك التي بدت أمامَ ناظري مُتكئة على طَرف المائدة تَسندُ رأسها بكلتا يديها حينما توجهتُ وليندا إلى مجلسنا، وما أن رأت هيلين حتى أقبلت عليها تُكلمها بالسويدية التي لم أكُن أتقنُ معاني كلِمَاتها، وبينما كانتا تتحادثان رأيتُ سُعاد وهي جاثية في مقعدها لا تنبسُ بشفة، تنظرُ إلى أسفلِ قدميها غير عابئة كما بدت لوجودنا، أهو الكبرياءُ ما يمنعها أم الغيرة ما تُعانيه، لا أدري لِمَاذا احسستُ بدغدغة بسيطة وإرتجاف في قلبي، شعرتُ بالشفقةِ عليها فتوجهتُ بالحديثِ إليها قائلاً:
  سُعاد هل أنتِ بخير؟ ..لكنها لم تُجب تساؤلي..
فأعدتُ السؤالَ عليها .. ولم تُجب، لكنها تململت عندما وضعتُ يدي على ظهرها ولا أعلم لِمَاذا تبادر إلى ذهني مقولة طالِمَا سمعتها "يتمنعنَ وهُنّ الراغبات" حينما أدارت لبرهةٍ وجهها صوبي مغمضة العينين ويدها تمس بحنو ذراعي قائلة:
  لا تلمسني..أرجوك ..
جلستُ قربها أبحثُ عن وسيلة لإخرجها مما هي به، فإذ بها تردفُ قائلة:
  أريدُ العودة إلى المنزلِ الآن
  لكننا لم نرقصُ بعد
وهي ترفعُ رأسها وقد بدت عيناها كياقوت مشبّع الإحمرار..
  رقصتَ معها .. ألآ يكفيك؟
  مَنْ ليندا؟ هذه جارتنا .. هي صديقة لهيلين .. وأنتِ شاهدتِ ما حصل
  نعم، ورأيتها تُقبلكَ..
أترى ما جرى أيقظَ مشاعرَ الغيرة والتنافس الكامنة في صبغتها؟، غريب أمرها أم تُراني مازلتُ عاجزاً عن حلّ ألغاز النساء
  إذًا .. وأينَ المشكل؟، سُعاد أنتِ تعلمينَ كيفَ الأمرَ هُنا، هي مُجرد صديقة طلبت الرقصَ وحصل ما حصل لكِنَ موعدي للرقصِ مازالَ مَعكِ أنتِ وليس هي .. ألآ تريدينَ الرقصَ معي؟
  لا... ليسَ الآن، عليَّ أن أغسل وجهي و... أينَ الحمام؟
وقد أفرجت شفتاها عن إبتسامة هي أقرب للإنتصار، ورمت ليندا بأسهم لحظها فيما دنت من فمي تنتزع منه القبلات ..
كانت هيلين تُحادث ليندا وتُراقب ما يَدورُ بيني وبينَ سُعاد وما أن لاحظتَ الإنفراج الذي بدا على سُعاد حتى أقبلت عليّ مُبتسمة، أخذت تشرحُ لي أنَ سُعاد مريضة بعض الشيء ليسَ إلآ، فطلبتُ منها أن ُترافقها إلى الحمام. جلست ليندا بجانبي بينما توجهت سُعاد تُرافقها هيلين التي أومأت لزوجها وهي تُشير صوبَ المائدة حيثُ نجلس، بدا لي من إشارتها أنها لا تريدُ لليندا أن تستفردَ بي، لكنَّ ليندا التي لاحظت هذا الأمر أجابت عن حَيرتي بأنها قد اتفقت مع هيلين على إعادة سُعاد إلى منزلِ أخيها بعدَ الحفلِ مباشرةً، وأن نُكملَ نحن الأمسية في منزلها، أخبرتني أنهُ لا داع لإخبار سُعاد بهذا إذ أنها مُفرطة الحساسية كما تبدو، بدى حُسام مُبتهجًا حينما وصلَ قادمًا من جانبِ البار الأيمن وفي حوزتهِ بعضَ المشروبات.
  حُسام: الهوينا يا خال الهوينا
..واردف قائلاً بعد جلوسه ببرهة..
  يبدو أنها مُتعِبة
  مَن؟
  سُعاد... خال يبدو أنها ستسببُ لكَ مشاكلٌ أنتَ في غِنىً عنها... هل هذا ما كُنتَ تسألُني عنه؟
  ولِمَاذا تُسببُ لي المشاكلَ يا حُسام؟
  يبدو أنكَ لم تُلاحظ ما جرى؟
  لا... لقد رأيتُ ما فعلت... لا أدري يا حُسام أشعرُ بحزنٍ من أجلها، لكنني لا أفهمها، غريبٌ أمرها
  ..وهو يُخاطبُ ليندا ويعتذرُ عن التكلم باللغة العربية.. خال، صدقني أنا لا أُحاولُ التدخلَ في حياتكَ، وأنتَ تعلمُ هذا ولكن مِما أراهُ .. وهو يُشيرُ صوبَ ليندا بطرفه.. لديّكَ صديقة رائعة هنا، ولا أحسبُكَ تبحثُ عن الزواج..
  لا أفهمُ ماذا تقصد بالزواج، هل شعرتَ بأنني افكرُ بالزواج يا حُسام ممِن، سُعاد مثلاً؟
  لا يا خال... لم أقصدُ المعنى الحرفي للزواج كزواج، ولكن أقصدُ ما ينتجُ عنهُ من مسؤوليات
  هذا أمرٌ لا أفكرُ بهِ مطلقاً، وأنتَ تعلمُ هذا جيدًا، دعكَ من هذا الأمر الآن وأخبرني بما تريد قوله
  حسنًا بعدَ الحفل سنذهبُ إلى منزل ليندا و...
  أخبرتني ليندا بهذا .. ولكن ما ادراكَ بهذا الأمر، لم اركَ تُحدثُ هيلين أو ليندا؟
  لا .. نعم لقد كلمتني هيلين بهذا ..وهو يُظهرُ هاتفهُ النقَّال.. قبلَ قليل وهي مُتجهة إلى الحمامِ مع سُعاد
شعرتُ بالضيقِ مِن هذا الأمرُ الذي يُدبرُ في ليل، وتبادرَ إلى ذهني مجموعة من الضُباط وهم يتآمرون على أحدهم، الخيانة طعمها لا يُطاق، لكنني مع هذا شعرتُ بالراحة في أن تدعني سُعاد أمضي لشأني، فيما تستعيدُ هي حياتها من جديد
أقبلت سُعاد تُرافقها هيلين وقد بدت زاهية الوجه موردة الخدين، جلست عن يميني فيما أشارت لليندا بيدها وهي تبتسم، تأبطت ذراعي وهي تُلقمني بعضَ الطعام فيما كنتُ أهمّ بإشعال لفافة تبغ قامت بإختطافها من يدي
  ليسَ الآن، يجب أن تعتني بطعامكَ أولاً ..والقت على هيلين نظرةً سريعة وهي تضحكُ.. أفهمتني هيلين بصعوبة عن هذهِ التي بجانبكَ وبأنها لا تعدو عن كونها صديقة لها وبأنه لا يوجد من ترافقه هذا المساء، المُهم يجب أن نمرحَ هذهِ الليلة و... أنا آسفة لِمَ بدرَ مني سابِقًا ..نظرت إليَّ وفي يدها شوكة بها قطعة مِن اللحمِ.. إذن هل سامحتني؟ ..فوجئت بقطعة اللحمِ التي ألقمتني إياها، فأشرتُ إليها بإيماءةٍ مِن رأسي أنني أسامحك فأكملت حديثها..، إذن اريدكَ أن ترقص الرومانسي معي، هه رقصة كالتي رقصتها معها ..وهي تشيرُ إلى ليندا بالسكين..
  لا بأس، فأنا لا أجيدُ غيرَ هذا النوع من الرقص ..
إندمجتُ وإياها في أحاديثٍ شتى، ومن ثم .. بدأ حُسام يُلاعبنا بالفوازير، كانَ يُلقيها علينا باللغة العربية ومن ثَم يُترجمها إلى السويدية كي يكون الجميع مشترك بها، ومن يفوز في حلها أولاً يطلب طلبًا وعلى من يختاره هو ..أي الفائز.. أن يحققَ لهُ ما يشاء، ومن ثم يدخل الفائزُ بفوازيرٍ من عندهِ وهكذا إستمرت الأمسية في ضحكٍ والفة حتى ظننتُ أن سُعاد نسيت الرقصَ وما جرى في بدءِ الحفل، لكن ما أن بدأت الفرقة الموسيقية تعزفُ لحنها الختامي حتى سمعتُ ..
  نعم هذهِ، الآن، لنرقص
توجهتُ وسُعاد إلى الحلبة، وما أن بدأنا في الرقصِ حتى وضعت ذراعها على كتفي وألقت برأسها على صدري قائلة:
  هل أنتَ سعيدٌ بهذهِ الرقصة؟
  لا بأس بها، جميلة
نظرت إلى وجهي وهي تُحيط بذراعيها عنقي قائلة:
  أحضني إليكَ، أريدكَ أن تكونَ لي هذهِ الليلة، أنت ملكي أنا، لا تنسى هذا
بدأ الأمرُ يأخذُ منحى جديدًا فهذهِ الكلِمَات مخيفة وهي تصدرُ عن امرأةٍ لم أراها قبلَ اليوم، .. كانت تداعبُ وجهي بشعرها الأسود بادئَ الأمر، تبتسمُ لي بينَ الفينة والأخرى وهي تنظرُ في عينيّ نظرات ملؤها الرغبة والشوق، وما أن بدأت تلامسُ أنفها بأنفي حتى ألقت شفتيها على فمي وأقبلت عليه تقبله قبلات خفيفة متقطعة، إرتفعت وتيرتها إلى أن اصبحت وكأنها تعانق في الهوى فمي، وذلك الجسد الذي عهدته قبل هذا لها، أصبح كأنه في يدي عسجدا..
ما أن انتهت الفرقة من عزفها حتى دوى التصفيقُ من قِبل الحاضرين، وبدأت أضواءُ الصالة تنيرُ المكانَ وتُبدد ظُلماته، وما خفي منهُ بدا ظاهرًا للعيانِ، وسُعاد في كلِ هذا ليست هنا، وكأنما هي في مكانِ لم تزرهُ من قبل قدميها ولا لمست روحها سماؤه، بدأ الحفلُ يودعُ بعضهم بعضا فمنهم من هو يتندرُ مع صديقهِ ومنهم من يُشاكسهُ في مرحٍ وحبور، وتلكَ النِسوة يتهامسنَ وينظرنَ إلى سُعاد، التي افاقت مما هي فيه غيرَ عابئة بما يدورُ حولها، وكأنني رأيتُ في عينيها بريق المنتصر وعودة الثقة إلى نفسها.
في طريقِ العودة إلى المنزل وبعدَ أن تناولنا وأصدقاءَ حُسام بعضَ الأحاديث الخفيفة، بدا على سُعاد السرور، وهي تختلسُ النظرات صوبي كلما سنحت لها الفرصة وأنار ضوء الشارع وجهي، كانَ الجميع صامتًا بينما كنتُ أفكرُ بها، سُعاد تلكَ الحوريةُ التي كانَ يحتويها حُضني قبلَ قليل، والتي مازالَ شذى عطرها يجولُ في أنفي، ورحيقُ شفتاها ينضحُ مسكًا في فمي، أهو الشوقُ ما يداعبني إليها؟، ما أصعب أن يعيش المرءُ لحظات الذكريات، وما أصعبكِ أيتها الحياة.
  هل لي بهاتفكَ قليلاً
  هل تريدينَ مهاتفة أحد ما، ما هو الرقم؟
  كما تريد
أخرجت من حقيبتها ورقة وأملتني الرقم، وما أن بدأ يدق حتى دوى رنين هاتف في السيارة.
  حسنًا أغلقهُ الآن .. شكراً
وعادت إلى إستنشاقِ هواء الخريف، ترسمُ على وجهها إبتسامة طفولية.
وصلت السيارة بنا إلى منزلِ سمير الكائن في الأطراف الجنوبية للقرية، بجانبِ الطريق السريع، الذي يربط فوجيشتا بغيرها من البلدات المختلفة، ألقيتُ نظرةً على سُعاد وهي تفتح الباب الخلفي وتهم بمغادرة السيارة تُرافقها هيلين، فيما أنارَ ضوء الكشاف الآلي الحديقة الأمامية، رأيت العتابَ واضحًا على محياها وكأنها تطلبُ مني أن أُلقي عليها تحيةَ المساء.
خرجَ سمير من بابِ المنزل تُرافقهُ زوجته يُرحبان بنا، فيما كانت عينايَ تُتابعان سُعاد وهي تهمّ بالدخول إلى المنزل، وما لبثت أن عادت بعدَ قليل وفي يدها البلوز الأحمر الذي استعارتهُ من هيلين بعدما ألقت على كتفيها شال لم أتبين لونه، أقبلت من جهتي وفتحت بابَ السيارة الخلفي لتضعَ يداً على كتفي والأخرى تُودعُ بها البلوز على الكرسي، كانت النِسوة يتبادلنَ الحديث فيما كانَ سمير يحاولُ إستضافتنا لتكملة الأمسية في منزله.
إنطلقت السيارة ببطئ إلى الخلف لتكمل نصف إستدارة جانبية للعودة بها إلى نفس الطريق الذي جئنا منه، فأضاءَ نور السيارة الأمامي جانبًا من المنزلِ، في الوقتِ الذي أضاءَ نور غرفة في الطابقِ العلوي منه، لا أدري لِمَاذا شعرتُ بأنها تنظرُ إليَّ
توجهت عينايَ إلى الغرفةِ العُلوية المشابهة لغرفتي، كانت تقفُ بالفعل وراء نافذة الغرفة تلوِّحُ لي بيدها، فيما بدت عيناها وهي تفيضُ بالدموع، أخرجتُ يدي من نافذةِ السيارة ملوِّحًا لها، ومضينا في طريقنا إلى منزلِ ليندا، .. وما ينتظرني ..
لم يُفارقُ ذهني خيالها، ذاكَ الذي بدا لي شاحِبًا وراءَ النافذة، وهي تُحدِّقُ بي، ونيرانُ أدمُعها تَنسابُ على خَدها، كأنها بعدَ مضييِّ تلحّفت وجهها بيديها وانسابت تنتحبُ كطفلٍ صغير، أم تُراها مازالت هناكَ تُعانقُ الأفقَ بعينيها، حيثُ الظلامُ يفترسُ المحيط، وحيثُ سكون الليل أمسى كالغريق،... كيفَ هي يا تُرى؟، تراءت لي بعضَ شجيراتٍ بعيدةٍ كأخيلةِ جانٍ يرتصفون الأفق، وبعض أكواخٍ بدت من بين الضبابِ أضواؤها الثّكلى تُنير بخجلٍ بحيرةٍ ساجيةٍ على يمين الطريق...

وكأنَّ للّيْلِ شخوْصاً بدتْ
خيالاً وجانًا تسْريْ معيْ
وفكْريْ أراهُ وراءَ الْنّجوْمِ
وخلْفَ الكوْنِ بدا مضْجعيْ
ألا ليْتَ حُلْمًا تغشَّاهُ ليْليْ
فأبْقى لفجْرِ الْنّدى أدْمُعيْ...
فتنة النساء

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى