الأربعاء ٢٠ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم عثمان آيت مهدي

الحركى يعودون هذا الأسبوع

كان لقاء سعيد بسليم حميميا للغاية، عكسها هذا العناق الشديد والتربيت على الكتف لمرات، ثمّ تبادل لقبلات حارة.

إنّها الأيام يا سعيد.. ترفع هذا وتحطّ ذاك، تبعد هذا وتقرب ذاك.. آه، أيتها الأيام، لو يفشي الزمان بأسراره، بأيّ وجه تقابله هذه الأيام الصعاب؟

أجل، يا سليم، يجب أن نعيش أقدارنا، إنّه مكتوب على الجبين. لكن ما هذه الوريقات التي تكتب عليها، أراك تريد أن تصبح كاتبا؟ أليس كذلك؟

يقرأ سعيد العنوان "الحركى يعودون هذا الأسبوع" ثمّ يعقب: يوحي هذا العنوان دون شك إلى "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للطاهر وطار.

هو كذلك، يا سعيد، فقط، أريد لقصتي أن تكون معقوفة، مقلوبة. أردت التعبير عن سعادة الحركى وهم يختارون وطنا يقال لهم هذا ليس وطنكم. وكأن الوطن الحقيقي هو من أنجب آباءنا وأجدادنا الذين نجهل الكثير عن أصولهم. إنه خطأ كبير، ياسعيد، نحن لم نخلق لوطن بعينه، وقد قال الإمام عليّ: خير الأوطان ما حملك" "الفقر في الوطن غربة". هل بقي للإنسان في عصر العولمة وطن وإن جار عليه عزيزا، وأهل وإن ضنوا عليه كراما؟ وهل تصدق قول الأحمق: "وطني عندي غالي الثمن" وإن كان هذا الوطن متجها إلى الهاوية؟ ألا تشم راحة العصبية النتنة من قولهم: بلادي، بلادي لا أهوى سواك؟

كان سعيد الحركي يتابع حديث زميله سليم، ولا يقوى على الردّ عليه، كان شديد الصراحة، بالغ الوضوح، تتسرب كلماته الساحرة إلى أعماق نفسه المتألمة من جور الأوطان وظلم أهل القربى. عصر حرّر الإنسان من وطنيته بالرغم مما يكتبه المتعصبون المؤمنون المزيفون بروح الوطن.

كلامك حقّ يا سليم. عصرك لم أتصوره يوما، بالرغم من الفقر المدقع الذي كنت أعيشه إبان فترة الاحتلال، كنّا نقتات من فتات الأرض، وما تجوده علينا موائد الميسورين، كنّا حفاة عراة، لا نقوى على مقاومة الأمراض التي كانت تفتك بنا الواحد تلو الآخر، لم نكن مواطنين من الدرجة الثالثة ولا الرابعة، كنا في ذيل القائمة. وعندما اندلعت الثورة التحريرية، حملت السلاح عنوة وقهرا في وجه إخواني، كنا نعتقد أنّ فرنسا أم الدنيا، قوة عظمى لا سبيل لمقاومتها والخروج عن طاعتها. إنه جنون أو انتحار. اضطررت لحمل السلاح اضطرارا، وها هي التبعة تلازمني طوال حياتي وحياة أبنائي من بعدي، حركي بن حركي بن حركي..

صحيح يا سعيد، كثيرا ما تتحكم الأقدار في مصائرنا. لكن، ماذا لو قمت بزيارة إلى وطنك السابق الذي تركته اضطرارا؟ وماذا لو تعود إليه ثانية؟ وماذا لو تعانقه شوقا وحنينا، وتحدثه عن سنوات هجرك أو نفيك أو تخليك عنه؟ سيفتح لك قلبه، سيستمع إليك، قد يكون هو الآخر في انتظارك، قد يشكو إليك همومه وأحزانه، وما أكثرها في بلد جريح تتقطع أوصاله من ظلم أبنائه ! قد يبادلك نفس العواطف، قد يعفو عنك ويعانقك عناق الأم لابنها..

لم يكن سعيد يصدق أنّ وطنه الذي تخلى عنه يوما ما، سيعفو عنه ويحن إليه، إنه كلام فارغ، لقد اختار وطنا احتضنه لسنوات، وفّر له عملا ومسكنا، وعيشا كريما، منحه الدفء والأمن والحرية، وهل يجد وطنا أغلى وأعزّ منه؟ هراء، هراء.

لم تنفع محاولات سليم إقناع سعيد بزيارة وطنه ولو للحظات، باءت محاولاته كلها بالفشل، أمام إصرار سعيد على البقاء للأبد بموطنه الذي اختاره له القدر.

لقد تركت وطني رغم أنفي، وهمت لسنوات تائها حزينا مضطربا بلا هوية ولا أصل، ورغم ذلك استطعت أن أتخطى كلّ الحواجز وأصنع من نفسي وأسرتي سلالة ووطنا وجنسية وهوية. لا أريد أن أتذكر هذا الماضي الأليم، هذا الوطن الحزين، هذا الشعب السجين.. إنّني أحيا وأتنفس الحرية والكرامة، أسير وأتجول ليلا ونهارا ولا من رقيب أو حاكم يتهددني، أنام وأستيقظ على آخر صيحات التكنولوجية والتقدم العلمي والاقتصادي، إنّني أحيا كإنسان وأموت كإنسان.

أراد سليم من موضوعه الذي افتتحه مع صديقه الحركي، أن يمسح عنه مسحة الحزن والندم التي ما زالت تؤرق مضاجع الحركى، كان يعتقد أنه باستطاعته أن يؤثر فيه ويعيده لوطنه ولو لأيام، ليشاهد ما بقي من هذا الوطن الذي استسلم للفقر والذل والضياع، واختلط فيه الشريف بالدنيء، المخلص بالخائن، السارق بالبريء. وطن يئن من ظلم أبنائه. سلالة واحدة، ومواطنة برتب مختلفة ومتفاوتة. كلام عسلي وجميل تلوكه ألسنة المسئولين، وواقع مرّ يفر منه كلّ مواطن بسيط. مدارس تعدّ بالآلاف وثانويات بالآلاف وجامعات بالمئات، وجهل يعمّ الوطن من جهاته الأربع.

أراد سليم أن يحمل شكوى هذا الوطن الجريح للحركى مما فعله أشباه أبنائه الضالين، الذين استباحوا خيراته ونهبوا خزائنه ثمّ ألقوه على قارعة الطريق شريدا طريدا عليلا، منهوك القوى. أيّ وطن هذا الذي يرتِّبك في الدرجة الثانية أو الثالثة، ويرتِّب غيرك في الدرجة الأولى؟ لا لكفاءة تشهد له ولا عمل جليل تقدم به قربانا لوطنه، وإنما لمنطقة ينتمي إليها، أو لنفوذ أب في جهاز الدولة، أو لأموال مكدسة في البنك.. أيّ وطن هذا الذي تمتلأ جرائده بأخبار الفساد، والرشوة..؟ أيّ وطن هذا الذي يستبيح قتل الصغار واختطاف الكبار وإذلال الشرفاء، وإعلاء الجبناء والخونة؟ أيّ وطن هذا الذي يحرم عليك الكلام والتجمع والمسيرة والكتابة..؟
نظر سليم إلى صديقه، لم يجد كلمات أخرى يقنعه بها، وغاب ذهنه للحظات كأنه يكلم نفسه:

هل كانت للحركى بصيرة بعيدة الغور؟ ونظرة تمتد في الزمان المستقبل تستشف مكامنه؟ هل كان الحركى على صواب وأشباه أبناء هذا الوطن الذين عاثوا في بلدهم فسادا على خطأ؟. فإن كان من أجل هذا حمل الحركى سلاحهم ضد أبناء جلدتهم، فالوطن سيسامحهم ويغفر لهم، ويحضنهم شوقا إليهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى