الأربعاء ٢٠ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

الفوز العظيم

كم هم سهلو الانقياد، سريعيو التأثر؟! جهلاء، وكأن عقولهم، كعقول دجاجهم!! لقد كذبت، فصدقوا، ثم آمنوا...

ادعى صالح يوماً بعد أن كان عاطلاً، وهو يسكن أحد الأحياء الفقيرة من الشرق، بأنه من أولياء الله الصالحين...

فأطلق لحيته تنمو كما تحب وتشاء... فطالت وأصبحت كلحية شيخ صيني، وظهر الشيب الأبيض فيها واضحاً كلون الرصاص، لبس الجلباب الأبيض، وعقد رأسه بلفافة بيضاء، وأقتنى عصا معقوفة، مثل تلك التي يستعملها الندافون؛ وهام في الأرجاء يوهم الناس بأقواله وأفعاله وأحلامه ورؤاه التي لا ينفك من ذكر جلساته الوهمية مع أنبياء وأتقياء وأولياء الله ورسله باستمرار... فصدقه الناس قانعين، راغبين، ومع الوقت، غدا قديساً يتوسط بين الله وعبادة وهو يدر عليهم الخير والبركات... فارتفعت مكانته الاجتماعية والدينية والاقتصادية، وبات يعيش في نعيم يحلم به حتى الزعيم!!

عرف صالح بطلعته الوقورة وضحكته المسرورة؛ له أنف دقيق، وعينان براقتان تلمعان، وشفتان عريضتان، متورمتان، مفلطحتان، وكأنهما ملتصقتان اصطناعياً في وجهه...
اتسم بالهدوء والرزانة، وقلة الصحبة، والانطواء والوحدة؛ ترك التعليم مبكراً وتنقل للعمل هنا وهناك، وظل هكذا في عوز وفاقة... حتى قرر قراره الرهيب ليأتي بكل ما هو غريب وعجيب.
كبر الرجل الصالح ومرض، وكأن دمه نضب، تقوس ظهره، ولونه شحب، نحف هيكله، وأصبح كالشبح؛ ولكن لم تنزل من عيون الناس هيبته، ولا عن أسماعهم سمعته... فظل شامخاً، عالياً، عملاقاً رغم تهدمه وتقدمه في السن، رمزاً دينياً تخافه وتهابه الناس، تسعى جاهدة إلى رضاه ما وسعها إلى ذلك سبيلا...

فكر صالح يوماً، وهو يشعر بالوهن والملل، وقال مختلجاً، مخاطباً نفسه:
لماذا لا أذيع في الناس خبر مماتي؟ ولأر ما سيحصل؟! فما رأيته بأم عيني وأنا حي، ربما غير ما سأراه وأنا ميت؟ لأجرب وسوف لن أخسر شيئاً!! واختار يوماً ماطراً لنشر خبر وفاته، عن طريق خادمه...

انتشر الخبر بين الناس سريعاً، كالحريق... فناحوا وصاحوا:

مات الرجل في يوم ماطر، والسماء أبت إلا أن تنتحب هي الأخرى باكية، راثية، ناعية لموته وعلى طريقتها وهي تودعه!! يا له من رجل صالح، كريم، تقي ونقي ولم يخب ظننا فيه يوماً، سبحان الخالق، كان اسماً على مسمى!!

تجمهر الناس حول رفاته وقرروا بأن يبنوا له ضريحاً، غالياً، كبيراً، واسعاً، فخماً يليق بذكراه العزيزة وقدرته الفائقة العجيبة، فالمرحوم صالح، أحد أولياء الله الصالحين، وأعماله كانت تمضي في نفوس الناس، كالسحر، ويخرجون من ورطاتهم سالمين، غانمين، وكله بفضله!!
سكن صالح الضريح مفكراً، مهموماً وحزينا... يستلقي وينام في التابوت نهاراً، ويظهر في الليل ماشياً، مترجلاً، ساهراً، متنزهاً، وكأنه في داره، وهو يتلمظ بريقه ويردد:

ماذا فعلت بنفسك يا صالح؟! لقد قبرت نفسك قبل موتها وبإرادتك!! ثم وبخ نفسه ساخطاً، شاتماً:

يا لك من وغد، جاهل وغبي... لقد أفسدت حياتك بفعلتك هذه، وها أنت اليوم تعيش ميتاً في قبر، كالفأر!!

في حين ظل الناس في كل مسألة إليه يسعون، زائرين، سائلين، يطلبون منه النصح وبدموعهم يغتسلون... حتى أصبحت زيارة ضريحه من المسلمات البديهية التي يركن إليها الناس في كل مناسبة دينية تصبح عليهم!! ناهيك عن القرابين التي تقدم عند بابه، وأعواد البخور التي تحرق في عتبة شباكه، والخراف والدجاج التي تذبح نذراً على قدم جداره؛ وهكذا عاش ومات صالح وهو يتمتع بحياة وموت قل من تمتع بها، ومن هم على شاكلته، والقوم حقيقته يجهلون، وبهذا الجهل ينامون ويستيقظون.

لم يرتح صالح في مماته، كما كان ينعم في حياته!! رغم وفاء خادمه وعنايته به ليلاً، فهو الذي كان يأتيه بالطعام والشراب والثياب... وظل مخلصاً وعلى سره مغلقاً.
أنبه ضميره الراقد تحته ومعه في القبر، وظل ينتابه شعور بالأسى والندم، وهمس يخاطب نفسه، مسبل الأجفان:

لم أعد أمتلك شيئاً كي أخسره، لقد عشت حياتي طولاً بعرض، وأنا أتمتع بنعم وهبات وسمعة... حتى ولا في الأحلام يمكن لها أن تراودني، ومع ذلك كانت لي واستمتعت بها وكنت من الصالحين!! لكنني اليوم في الضريح، والناس يقلقون راحتي، ويوسخون بأقدامهم بيتي! أقصد... تربتي وهم لا يعلمون، بأنني مثلهم حي أرزق، ولا أريد منهم شيئاً الآن سوى تركي وشأني!! ثم رفع درجة صوته قليلاً وقال ساخطاً، محتداً، ممتعضاً:

ما هذا الذي يحصل؟ سامحهم الله... عندها اتخذ قراراً لا رجعة فيه:

" أن يخرج لهم ويخطب فيهم من جديد كما كان، وليقول لهم بكل صراحة ووضوح، بأنه قد كذب عليهم كذبتين، الأولى صالح والأخرى ميت "

ثم ناح، وشفته العليا المنتفخة تلطم أختها السفلى:

وليكن ما يكون، فأنا قد ودعت الحياة في نظرهم، ولم تعد تهمني بشيء... وليذهبوا إن أرادوا إلى الشيطان أو الجحيم؛ وارتاح لقراره، ونام مطمئن في نهاره.

اختار صالح أول أيام العيد للظهور... فتوافد الناس والغبار والتراب يكسو الوجوه والأبدان بعدة ألوان، فرادى وجماعات، وكأنهم ينوون الغزو!! بكباشهم ودجاجهم وسمكهم وعنبهم وتمرهم ولبنهم ونقودهم وبخورهم وشموعهم وصغارهم وكلابهم وماعزهم... فضج المكان وضاق بهم، وزلزلت الأرض من تحتهم، لوزنهم ولعددهم.

فلم يطق صاحبنا الصبر، فتح تابوته وخرج منه، نكث عنه التراب والغبار، واتجه صوب الباب، فتحه بعنف وقوة، فأحدث صخباً وضجيجا وصريراً، كما يحدثه باب السجن، وهم خاطباً بالقوم، كما قرر وخطط له، وصاح:

يا قوم، تجمعوا أمامي، فلي حديث جاد، صادق نابع من القلب أحب أن أحدثكم بشأنه...
انبهر الناس عند سماع صوته ورؤية رسمه، فركضوا ملبين، كالمسحورين، وهم يدمدمون ويتمتمون:

يا الله، لقد بعث رجلنا الصالح وظهر من جديد، سبحان الله الباري عز وجل، يميت ويقعد من يشاء وبقدرته هذه مؤمنون، ثم هتف نفر منهم، بخبل:

هبوا يا رجال، تعالوا وانظروا المعجزة... ولي الله ظهر، وها نحن نراه بأم أعيننا منتصرا... هبوا يا رجال ويا نساء...

وتجمهر الناس حوله، سجدوا أمامه منحين، وكأنهم لإقامة الصلاة راغبين، جالسين، مقرفصين... وبعد أن خف الصياح وعم السكون وخيم الصمت عليهم، كالسحب، فقال متأتاً، زاعماً، خاطباً:

لا تجادلوا فيما سأقوله، فبعض الجدل كفر... وهذا لا نرتضيه!! ثم بتعنت غمغم:
الجميع هنا يعرفني، فأنا صالح الطيب، تقي الله ووليه... ورنا ببصره حول الجموع المتجمهرة، فرآها بالمئات... وحيواناتهم تمعمع وتهدهد وتنبش وتهبش وتصيح وترغى وبجانبهم ترعى وهي مرحى؛ وقال يسر ذاته:

كم هم سهلو الانقياد، سريعو التأثر؟! جهلاء، وكأن عقولهم، كعقول دجاجهم!! لقد كذبت، فصدقوا، ثم آمنوا... وسأل نفسه مستفسراً:
ترى هل يؤمن الإنسان بالأشياء التي حوله بهذه البساطة وبهذا القدر من السذاجة؟! ثم أردف:

ماذا عن تراثنا الديني القديم إذن؟! فنحن نعيش في هذا الزمن المتحضر وهم يفعلون كل هذا عن طيب خاطر عجيب؟! وتابع مسترسلاً:

كنت صعلوكا، لا أجد ما أسد به رمقي، وما أن مثلت دور الولي التقي، حتى انهال الناس علي بالكثير واللذيذ الثري!! يا لهم من مجانين... ثم دعا عليهم قائلاً، أصدع الله رؤوسهم على تفاهتهم!! وما أن وعى على نفسه، حتى لوح صائحاً، مردداً بثقة عالية والجد يعلو محياه، وشفاهه الثقيلة الكبيرة المنتفخة تهتز لكل كلمة ينطق بها:

جاء الأوان أن نكشف الأسرار ونفسر الأوهام ونرفع الغطاء عن حقيقة الأحلام.

 فصاح القوم مجلجلين: الله أكبر.

 بتململ: اسمعوا أولاً ما أريد قوله، ثم اهتفوا...(قال ذلك وهو يمطرهم بسباب مكتوم )
 هتفوا مجدداً: الله أكبر... له نصلي وبه نستعين.

 (بصوت مبحوح، مخنوق بالعبرة وهو يزفر زفرة ملتهبة) همس، وكأن شجاعته خانته، مواجها بقوله:

أريد أن أقول، أقصد... لقد كذبت عليكم والسلام!!

 همهم الناس يسألون أنفسهم وبعضهم: ماذا يقول؟

 بصدق وغيض وبصوت مرتفع:

لقد كذبت عليكم جهراً، فأنا صالح صحيح، لكني لست بتقي ولا ولي ولا من أحباب الله ولا من الصالحين... أرجوكم، لا تذبحوا لي شيئاً، ولا تقربوا قرابينكم، فأولادكم أولى بها، خذوا ما جئتهم به واذهبوا من هنا، فأنا لا استحق منكم كل هذا، لا تشعلوا الشموع والبخور على قبري، ولا تقبلوا شبابيك ضريحي، فأنا وكما قلت لكم، مجرد عبد الله الذي كذب عليكم... ثم نوه مصرحاً:

أنا أصلاً لم أمت!! أعني... لقد مثلت عليكم دور الميت أيضاً، لقد كانت مجرد مزحة!! لا أكثر ولا أقل.

 فعلى اللغط، وارتفع النواح والصياح والصراخ، اهتزت الأرض من تحت أقدامهم بعد أن نهضوا ناقمين، مذعورين لما يسمعون ويرون، ثم قفز أحدهم من مكانه هاتفاً، لاعناً:

لا تصدقوا هذا الوغد، الشرير، القبيح الذي فعله أشد كفراً من فسقه... ونحن هنا في حضرة ضريح رجلنا السيد صالح الطيب، تقي الله ووليه، ثم عوى متابعاً، وهو يرنو بنظره صوب الضريح:

نرجو رحمتك يا صالح ونخشى نقمتك... فلا تغضب منا على ما يفعله بنا هذا الصعلوك الكافر؟!

 بتشفي خطب رجل آخر، هائجاً، ناطحناً من كان بجانبه واقفاً، كالثور:

لنرجم هذا المس، فأن فيه روحا من عزرائيل قابض الأرواح، لعنة الله عليه.

 رد عليهم ثالث بتبلد غاضباً متبرماً وهو يزبد من بين أسنانه الأمامية الكبيرة البارزة:

بل لنقتله، ليكون عبرة، لكل من تراود له نفسه، ويدعي بأنه الرجل صالح.

تراجع صالح إلى الوراء متقهقراً، خائفاً، مستغرباً مما يسمع ويرى... فإنه أعترف أمامهم جهراً بكذبه، وهم لا يصدقون!! ترى أين وصل غباؤهم؟ وما هي نسبة جهلهم؟!(قال لنفسه ذلك وهو يستعد للهرب)

ثم بدأ القوم برميه بالحجارة أولاً، ومن ثم مسكوه ومزقوا ثيابه البيضاء التي كانت قبل شهور، رمزاً لوقاره، وهيبته وعلمه ودينه وصدق حدسه، ثم نتفوا لحيته البيضاء التي ما كانت تنزل يده من تمسيدها وتسريحها وتمشيطها... وبدلاً من تقبيل يده كما في السابق، تسارعوا للبصق عليها وعضها!! وهمَّ الأطفال بالركض وراءه وهم يصيحون ويضحكون: انظروا إليه... إنه ساحر، شيطان، عفريت بهيئة رجل!!

والرجال والنساء مغبري الوجوه يصرخون لشحذ وحزم الهمم وهم يرددون:

امسكوه، لا تجعلوه يهرب منكم... انظروا إلى صورته كما صوته يشبهان سيدنا وشيخ منطقتنا وحبيبنا، الذي يريد إيهامنا منتحلاً شخصيته؟! يخلق الله من الشبه أربعين!! اضربوا هذا الكذاب، الدجال، الذي يدعي بأنه شيخنا الذي نحبه ويحبنا... هيا اضربوه يا أولاد وافعلوا هذا من أجل رجلنا التقي صالح، ولي الله... فهو حتماً سيرى ويسمع كل ما نفعله الآن، لأن ذلك من أجله فقط، فهو الخير والطمأنينة والبركة... جعلنا الله نقدر ونستطيع على رد الجميل له؟! في حين ظلَّ الذباب والبعوض يحوم فوقهم ويتبعهم، وكأنه يحميهم، وهم يلوحون بأيدهم بقرب النصر والفوز العظيم!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى