الجمعة ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

حينما الإنسان يريد

لفت الأم ذيل ثوبها وطوته تحتها، ثم تنحنحت قليلاً وقالت:

الحقيقة... أعني أنا وأبوك بتنا نخاف على مستقبل كمال كثيراً، والحياة هنا ليست كما في العراق...

الضعيف منا لا يؤمن بالقوة، كسلاح فتاك؛ ليس لأن القوة ليست كذلك، بل لأنه لا يمتلكها!! ثم يتباهى ويتفاخر ويعوّل ويعزى حين ذاك أقوله إلى أمور غيبية غير مرئية، كالله مثلاً، أو شكلية، كالنزاهة والشرف والإيمان والصبر والتقوى!! لتبقى مشكلته معلقة، حيث ينافق كلما دعت الحاجة إلى النفاق، ويكذب عندما يتوجب عليه الكذب، ويقترف الخطيئة عندما لا يجد أمامه طريقاً آخر سواها!! في حين يبقى عابثاً، يبحث عن الفوز والشهرة، رغم عدم النطق أو التلميح بهما!! وهذه هي طبيعة الإنسان الشرقي دون رتوش أو ثياب!! وعلينا تقبلها رغم مرارتها، لأنه ومنذ أمد بعيد تولى بنفسه، خداع نفسه، فغالباً ما نراه يتجمل بقناع التقي النقي ويخفي خلفه صورة الدجال المحتال!! صاننا الله من أهوال وشرور ما كان يخفي.
جلست نهال وحيدة، كشهاب يهوى وحشته، بثياب البيت البسيطة، الجريئة، المثيرة والتي تصلح للنهار والمساء وللنوم أيضاً، في إحدى ساعات العصر المملة، الثقيلة في شقتها العتيقة، ذات الشبابيك الواسعة والتي تقف خلفها ستائر سميكة، كثيفة، قاتمة، كالجدران؛ والواقعة في الدور الرابع من منزل يبدو أيلا للسقوط والمدفون فوق تله، تطهرها الأمطار وتكنسها الرياح في الأيام العاصفة الممطرة، تلك التي تطل على نهر الراين الذي يشق مدينة كولن الألمانية بجسارة؛ تلك المدينة التي تشتهر بكثرة الأتراك الساكنين والمقيمين فيها في السر والعلن؛ جلست بمفردها تحادث نفسها وهي تستذكر يوم تعرفت على زوجها آدم، وكيف كانت الواقعة عند سماع أهلها، خبر صحبتها وعلاقتها به قبل الخطوبة...

ما أن رآها كمال أخوها وهي بصحبة آدم، فتوقعت أن يكون مساؤها، عزاء... أخبرت آدم بذلك بكل صراحة وحثته أن لا يحاول الاتصال بها في الأيام القادمة، حيث لا تعلم ما ستأتي به الأيام، وفرت من يديه هاربة، كأنها سارقة، متوجهة إلى منزلها الغائص بين حفنة من بيوت المسيحيين غرب بغداد آنذاك...

وما أن خطت أرجلها عتبة دارهم، حتى تلقفتها الأيادي القاسية، الغليظة، الخشنة، الصماء التي لا تعرف في حياتها الرحمة... الأم والأخ الذي يصغرها بسنوات-لأنه الذكر الذي لا يخطأ وإن أخطأ فهو الذكر- والأب المتزمت، السكير الذي لا يخون زوجته ولا يأتي بخطيئة، والذي لم يذكر كلمة الله يوماً على لسانه!! نزلت عليها الصفعات والركلات من كل صوب وجانب، كصفعات الريح المجنونة... وتناثرت على مسامعها الشتائم والكلمات الجارحة، البذيئة من فمهم، كالمطر...

سالت دماؤها الحارة، النقية وتورم وجهها الأبيض الصافي الذي يشبه صفحة النور، خدش حياؤها العذري البريء، تمزقت ثيابها وهي تبكي بصوت مكتوم وتتوجع ولكنها لم تكن تصرخ، فصراخها كان بمثابة كبريائها الذي لا تتنازل عنه مهما حصل!! كل ذلك حدث بعد أن وشى أخوها بها لأهله فقط لأنه رآها مع آدم الذي من دينها تسير في إحدى شوارع بغداد بوضح النهار... وكأن بخروجها مع آدم لتحتسي الشاي في إحدى المقاهي المكشوفة، تكون قد سلمت شرفها الذي تهان وتضرب وتركل من أجله!!

وعت نهال، التي كانت تتمتع بحس فني رائع، وبصوت ملائكي عذب، لها عينان، كفصين من زمرد، وأنف دقيق، كأنه خلق لشم الورد، وطيبتها كانت غالبة على شخصيتها وتصرفاتها، كراهبة... وعت على نفسها وهي مازالت جالسة بمفردها تشهق، وكأنها وخزت بإبرة الذكريات... فخاطبت نفسها بصوت مسموع: إنه العرف الشرقي!! ولم تسمع إلا صوتها، وفنجان قهوتها ينظر إليها بصمت، كأنه يعطف عليها. ثم سمعت جرس الباب يقرع... لتدخل أمها- التي هجرت العراق قبل فترة ليست طويلة مع زوجها وابنها كمال وجاءت حيث تعيش ابنتها - مهمومة، مخنوقة بالغيظ ووجهها مكفهر...

تزوجت نهال بآدم بعد تلك الواقعة المؤلمة... تلك التي دخلت بسببها المستشفى لتلقي العلاج ضد التسمم، حيث قامت بعد الصراع الدامي الذي خاضته مع أهلها... دخلت غرفتها وأوصدت بابها عليها، بشرب كمية لأبأس بها من علبة حبوب وجدتها في حينها أمامها، ولم تكذب خبراً... تناولتها وكانت كافية لإدخالها المستشفى... ورغم ذلك فقد ظل حبها لآدم في قلبها لم ينخلع أو يتزعزع؛ وعندما سمع آدم ما حصل لها، تقدم للفور، طالباً يدها من أهلها، رغم أنه مازال طالباً في الكلية، فأثبت لأهلها ولفتاته، بأنه رجل جاد، لا يعرف المزح، خاصة في الحب، وها هي اليوم نهال تتذكر بجلستها الانفرادية تلك الصور المؤلمة الحزينة... لتتلقفها كلمات أمها وتعيدها إلى أرض الواقع، وهي تسألها بصوت منفر حاد:
أرجوكِ يا ابنتي، أشيري عليّ، ماذا أفعل؟!

 باقتضاب، وهي مازالت سارحة في عالمها الخاص قبل نحو عشرين عاماً: تفعلين في ماذا يا أمي؟

 بنبرة ساخرة: عجباً!! أخوك كمال طبعاً... ومن يكون غيره أقلق عليه وأخاف؟ وأضافت بقسوة، وهل لي في الحياة وهذه الغربة اللعينة الغدارة، غيره؟!

 بأنوثة: وأنا؟ أين أكون من كل هذا الحب؟

 بحنان مفتعل: أنتِ الخير والبركة يا بنتي، ولكنك تزوجت ممن أحببتِ، وها أنت أراك- ما شاء لله - مستقرة وسعيدة في حياتك، الدور والباقي على كمال!!

 ما به؟ لقد قلقت عليه فعلاً... ثم أردفت بتوتر صادق: أخبريني ما القصة؟
لفت الأم ذيل ثوبها وطوته تحتها، ثم تنحنحت قليلاً وقالت: الحقيقة... أعني أنا وأبوك بتنا نخاف على مستقبل كمال كثيراً، والحياة هنا ليست كما في العراق، وطبائع الناس تختلف عن طبائعنا، والحرية المتاحة... ثم سكتت، وكأنها وصلت إلى النقطة الخجلة التي لا تستطيع البوح بها!!

 لماذا سكتَّ يا أمي؟ أرجوكِ أنت تعذبينني هكذا!!

 ماذا أقول؟ أستغفر الله، أقصد من وراء زيارتي إليكِ أن تساعديننا وتقنعي كمال!!

 أقنعه!!

 بصوت خافت، وكأنها تسرها: نعم، تقنعينه... وتابعت بحنية: ومن لنا في الغربة غيرك؟ أنت أخته الكبيرة، الحكيمة، العاقلة، صاحبة القلب الطيب...

 لكنك لم تقولي بعد، أقنعه في ماذا؟

 نوهت باستحياء: أن يتعرف على ابنة عمك، سمر، أخت زوجك آدم الصغيرة... فهي فتاة جميلة، ومتعلمة وفي سنه، ونحن في غربة، والأمر ليس كما هو في العراق كما قلت، فما أراه بأم عيني يصرعني ويجعلني لا أنام الليل غيظاً وقلقاً... وتابعت وهي منقبضة الصدر:
ما أن تبتسم الفتاة الأوربية إلى شاب شرقي، حتى ينسى أهله ومن أنجبوه... ويذهب وراءها بغية امتلاكها، وكأنها سلعة، وهي ليست كذلك! ثم يعمل المستحيل لإرضائها، للنيل منها بأسرع وقت ممكن!! وعندها سوف يتعلق بها، كما يتعلق الطفل بأمه... حينها لا نستطيع أن نفعل شيئاً إزاءه، ويكون الوقت قد فات، كما يترك القطار المحطة، وكما تعرفين، فهو لن يرجع إلى الوراء أبداً!!

 عجيب أمركم يا أمي!!

 بثقة زائدة وتندر: وما هو العجيب فينا يا بنتي؟

 لا شيء!! وهي تنظر إلى الأرض بحزن...

 رفعت الأم حاجبها في دهشة أشبه بالاحتقار، وأعادت سؤالها، وكأنها لم تسمع جواب ابنتها:

ما هو العجيب؟

 قبل لحظات، وقبل أن تحضري لزيارتي، كنت أعيش قصة حبي لآدم، في حياة كنا فيها محبوسين بين صياح مؤذن وصراخ ناقوس كنيسة وهو يلطم نفسه! لقد كانت حياة، كأعشاش العصافير، مستباحة للهر والنسر والبشر!! وكيف جعلتم تلك القصة مأساة، وقضية شرف مطعون، وربما منهوب، وكيف تصرفتم معي بوحشية وقسوة دون مبرر، فقط لأن كمال رآني أسير مع آدم في إحدى شوارع بغداد وضح النهار ونتحدث لنتعرف على بعضنا البعض قبل الارتباط الرسمي!! فبقيت تلك الذكرى في نفسي محفورة، كوشم الجمر... واليوم(لحظة صمت) وكأنها عادت تتذكر ما حصل لها، واستطردت بعد برهة بشفقة:

سامحكم الله وغفر لكم... تطلبون مني أن أتدخل وأقنع أخي كي يقيم علاقة مع فتاة، لمنعه من الانحراف أو الزواج بأجنبية!! ثم سألت أمها مباغتة، كأنها تسخر منها:

أليس عجيبا أن نفكر بأمر كنا قد جعلناه في عرفنا خطيئة وجرما لا يغتفر ثم نأتي بمثله؟! ثم أضافت باقتضاب موجزة، بحسرة وألم: فقط لأن الوضع والبيئة قد تغيرتا؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى