الاثنين ١٣ أيار (مايو) ٢٠١٣
سميحة خريس
بقلم توفيق عابد

لا أملك شجاعة الاعتراف

يكرر ناقدون أن العمل الأدبي الناجح هو الذي يثير الأسئلة ويحفز المتابعين والمهتمين على التفكير والاستنباط لسبر غور النص وكشف ما يريده الكاتب إذا كان مضمرا أو يجنح نحو رفض الاعتراف أو الهروب من الإجابات.

هذا ما ينطبق تماما على النص"على جناح الطير .. سيرة المدائن" للروائية سميحة خريس الذي خضع لمبضع وجولات عدد من الذين حضروا جلسة قراءة لهذا النص مؤخرا فمنهم من صنف النص بأنه أقرب إلى أدب الرحلات والبعض رأى انه بوح كاتبة تخفت وراء الأمكنة لكن الكاتبة نفت استنتاجاتهم وقالت "لا املك شجاعة الاعتراف .. ولم أكتب عن نفسي بل أردت الإطلال على مساحة أوسع من خفايا الحياة".

وتقول سميحة خريس: في هذا النص جئت بذلك الوهج الغريب الذي نراه من نور النار حين تشب أو اللفح البارد المتأتي من مرور الريح ومن وجيب القلب الواقع بين الخوف والمتعة كلما دفعت أرجوحة الطفولة المعلقة في شجرة البلوط عاليا وخيل اليّ أني أمسكت العالم.

العمل الأدبي "على جناح الطير.. سيرة الأماكن" 306 صفحات صادر عن دار الحوار للنشر والتوزيع بمدينة اللاذقية السورية يتناول تسجيلا وتفاصيل للأماكن التي تواجدت فيها المؤلفة برفقة والدها الدبلوماسي المرحوم علي خريس لكنها تركز بالدرجة الأولى على ثلاث عواصم عربية هي الدوحة وأبو ظبي والخرطوم وخاصة التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما يدور حول المرأة في هذه المجتمعات.

حياتي خفية

تقول سميحة خريس في مقدمة مؤلفها" كانت السعادة على الطريق لا في الوصول ..عثرت في دربي على سعادة جزئية متخيلة أو حقيقية لست أدري ولكنها مؤثرة فاعلة في نفسي..يروعني أن أمضي قبل فتح جعبة الحياة للعيون القادمة بعدي .. لا أحبذ طمر الذخائر التي لملمتها على الطريق لكني استمتع بنبشها معنية بتعبئة النفس بكل الثقل الحسي الذي مر بها في زمان ومكان مختلفين".

وتجيب على الذين رأوا أن " على جناح الطير" سيرة ذاتية بالقول: هذا النص سيرة الأماكن لا سيرتي

الذاتية .. لا علاقة له بما مر معي كفرد إذ ستظل سيرة حياتي خفية لأني لم أكتبها ولن أفعل لا في الروايات التي تحمل شظايا وكسرا ونتفا منها ولا في هذا النص .. وإن تجرأت يوما على تلك الكتابة الفذة "الاعتراف" فأظن أنني سأخفي الكثير وأنسى الكثير وأتجاهل الأساسي.
أبو ظبي 1978

وتقول في "على جناح الطير" ربطتني أبو ظبي بالجمال وكنه بصورة وثيقة بت حقا ابنة "الخيّام".. تعلمت أبجدية الشعور الخالص من وجه طفلتي وهي ترضع في أحضاني.. من هدهدة الموج ليّ وأنا أسبح على ظهري .. من لحظات المودة التي شدتني إلى أصدقاء كثر لن يعوضني الزمان بمثلهم .. من فيض الدروس الدنيوية التي تكشف ليّ تقلب البشر وفداحة المخفي لهذا كله كنت أعتنق " الخيّام " القلب قد أضناه عشق الجمال ., والصدر قد ضاق بما لا يقال".

وتتحدث الكاتبة عن ترك أبناء البلاد مهنة الأجداد للعمال الهنود منصرفين لعالم الإدارة والمال الذي صنعته ثورة النفط ولم تعد ترى تلك المظاهر القديمة المتعلقة بالصيد البحري أو الغوص على اللؤلؤ إلا في المهرجانات التي تعنى بالتراث الشعبي وعبر فرق تتقاضى رواتب من وزارة الإعلام.

وتشير لتسارع الحركة التنموية التي وصفتها بأنها مصدر رزق العاملين العرب وغيرهم ممّن ساءت ظروف بلادهم وضاقت عليهم مسارب الرزق وسبل الحياة الكريمة "العولمة تهجم بشراسة على بلاد النفط وتخلق أنواعا جديدة من الأسواق على شكل "المول".

العمل الأدبي"على جناح الطير" يقتحم علاقات الجالية الأردنية بدولة الأمارات العربية المتحدة والمنازعات العقيمة .. بعضها مصدره الغيرة النسوية وقد يشارك الرجال بنصيب من الانتصار لنسائهم أو الدفع لافتعال مشكلات صغيرة وعلاقة المؤسسة الاجتماعية بالسفارة الأردنية إضافة لشرخ ساذج بين من هم من أصول فلسطينية أو أردنية وتصرفات اجتماعية نفورة تتعلق بالطبقات الاجتماعية والغنى والفقر والجنوب والشمال كأننا اصطحبنا مشاكلنا معنا لشاطئ الخليج وفيما نرى المصريين والسودانيين يتكاتفون ويتوسطون لحماية أبناء وطنهم يتخلى الأردنيون سريعا.

وتشير إلى دور المدرسين والأطباء والقضاة والصحافيين الذين قدموا سيرة عطرة لبلادهم في الإمارات "لا أنسى تجربة الصحفية المشهورة شهيرة أحمد الخاصة الذكية" وتأثير المجمع الثقافي الإماراتي بقيادة محمد السويدي على المشهد الثقافي واتحاد كتاب وأدباء الإمارات وصالون سلطان القاسمي الثقافي.

الدوحة .. أول السفر

وتصف الكاتبة ذكرياتها وتخيلاتها المرتقبة قبيل سفرها الأول على متن طائرة الخطوط الجوية اللبنانية وهي في السادسة من عمرها ووالدتها لمرافقة الزوج في الدوحة عام 1963 وخاصة تأجيل ديون "أبو حسين" لفصل الصيف وما يعنيه السفر للخليج الذي كان مطمحا لكثيرين ينظرون للثروة الجديدة ويحلمون بتغيير العالم هناك وتغيير حياتهم الشخصية في بلادهم.

والسفر من وجهة نظرها يعني أيضا استعدادا للغربة التي بدأت تنهش قلبها ظاهريا لكنها في الحقيقة تخفي سعادتها وتتحرق للسفر واصفة متعة الجلوس في كرسي الطائرة والمضيفات اللبنانيات الجميلات الأنيقات يعاملنك معاملة خاصة بعد إصابتها بدوخة السفر.

وعقب انفتاح باب الطائرة شعرنا بهجوم لزج لهواء مثقل بالرطوبة .. لم نكن نعرف ماذا تعني الرطوبة لكن أمي قالت باستنكار "الحمام التركي أرحم".

كما تصف أولى خطواتها لمدرسة "خديجة بنت خويلد" بالدوحة وهي لا تخلف كثيرا في تفاصيلها عن أي طفل يدرج بخطواته نحو رياض الأطفال أو المدرسة " الأطفال يتساوون في زوبعاتهم" وتقول سميحة خريس: لم أكن طفلة مغرمة بالمدرسة والمدرسات ولم تعترف لمعلمة اللغة العربية أنها تستمتع بدرس المحفوظات .. كنت طفلة سمراء مزعجة تمشط أمها شعرها بجديلتين فتفكهما ثم تعيد ربطهما حتى تحوّل الرطوبة رأسها إلى كرة شعر منفوش.
وتكشف الكاتبة سر انتشار الاسم "موزة"في دولة قطر وتقول إن اللبنانيين يسمون بناتهم " تفاحة" فيما يطلق القطريون على بناتهم اسم فاكهتهم " موزة" ويحلون مائدتهم بالحلوى العمانية التي تفوح منها رائحة المسك والزعفران.

جيفارا .. الذي عشقت

كما تصف مشاعرها وهي تقدم سلسلتها الذهبية في حملة تبرعات لدعم الثورة الفلسطينية وكيف نثرت الورد في استقبال أشبال الثورة الفلسطينية وهم يدخلون بخطوات محيين الجماهير تحية عسكرية!! وكيف هامت ولم تفارق عيونها الفتى الأسمر الذي يتقدم بوجه جاد وابتسامة خفية .. إنه أجمل من أن يكون حقيقيا بثيابه المرقطة كأنه قادم من فلسطين للتو.

وتقول في "على جناح الطير" كنت أترصد حركته بين الجموع وأتلصص على كلماته وكل حديث يخصه .. علق اسمه الحركي في القلب بللا يروي بتلة زهر تتفتح.. جيفارا.. ولا يجدر بي عشق اسم سواه .. كل شيء يهتز كما هديل الحمام وأنا أحب .. القلب الطفل الجاهل البكر يحب.. أحب جيفارا .. فجأة يصبح المحارب والفدائي حلم الصبايا بدلا من عبد الحليم حافظ وأحمد رمزي".

وتفرش بحسها الإنساني ان جيفارا يجتاز النهر ليقوم بعملية فدائية ضد المحتلين ويعود شهيدا فأبكيه ويكتشف العالم أني حبيبة الشهيد .. أحببت أن أكون حبيبة الشهيد ولكني لم أقو على النظر للفتى في عينيه أو محادثته أو الإفصاح عن حرائق القلب لأي كائن على وجه الأرض لكنني فكرت مرات ومرات بالهروب إلى مراكز تدريب الأشبال في عمان أثناء الإجازة الصيفية.. سألتحق بالثورة الفلسطينية وقد يكون حظي كبيرا فتجمعني وجيفارا وحدة واحدة .. حكاية خرافية تفوق حكاية قيس وليلى.

حكاية شادية

وتستحضر الكاتبة حكاية قدوم الفنانة شادية معبودة الجماهير العربية .. نموذج المرأة الفاتنة الدلوعة الطيبة والمحبوبة والمتمناة في حين كان إسماعيل ياسين نجم الكوميديا العبيط المحبوب وكيف منعت شادية من الهبوط من الطائرة في مطار الدوحة باعتبارها غانية لا يجوز شرعا استقبالها فيما قضى إسماعيل ياسين ليلته في بيتنا يجوح وينوح على زميلته الممنوعة من دخول البلاد وهو يسرد النكات التي كانت في معظمها بذيئة.

كمال ناصر والصراصير

وتكشف الروائية عن أن الروائي الفلسطيني كمال ناصر الذي اغتالته إسرائيل بعملية فردان في قلب بيروت" صديق العائلة" كان يخاف الصراصير ونحن كأطفال بما أوتينا من فكاهة وخبث وشر نتسلى بخوف الكبار وقد حمل أخي صرصارا وألقى به بين قدمي كمال ناصر فزعق الرجل واهتاج مرعوبا وضرب أبي أخي علقة ساخنة على فعلته البعيدة عن التهذيب.. والعجب لما في الحياة من تناقض فالرجل الفدائي الصامد الخطير يخاف الصراصير!!.

وهناك حديث مطول عن ذكرياتها في دمشق والخرطوم والقاهرة وجنيف.

وبعد .. فإذا كانت الكتابة سرا فما الذي هربت منه سميحة خريس!! وإذا وصف الكاتب بالزاهد فما الذي زهدت عن البوح به!! فالنص "على جناح الطير" بلغته الجميلة ورشاقته واستنطاقه ذكريات المكان والإنسان حيرنا وأدهشنا وأثار الكثير من الأسئلة وهذا سر تفوق الكاتبة!!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى