الخميس ١٦ أيار (مايو) ٢٠١٣
من مجموعة
بقلم محمد متبولي

روائح فلورنسية زجاجة عطر

أخذ يجمع أشياءه استعدادا لرحلة أخرى من تلك الرحلات التي ما أن يسمع بها قراءه حول العالم يستعدون لاستقبال مقالات وحكايات وأفكار جديدة، وربما يحالفهم الحظ برواية حول تلك الشخصيات الخرافية التي برع على تجسيدها كما لو كانت حقيقية، كان يضع نفس الأغراض في نفس الحقائب تماما مثلما فعل في المرة الأولى التي غادر فيها الحدود، وقعت عينيه عليها، بحجمها الصغير، ورائحتها التي تفوح من خارجها، والشريط المربوط على عنقها تماما مثلما كانت منذ المرة الاولى، زجاجة عطر فلورنسية اشتراها من أول أسفاره آملا أن يقدمها لها، شرد بعيدا بالذكريات، ثم جلس على المقعد في مشهد مماثل يتكرر مع كل سفرة جديدة.

كان قلبه يدق دون توقف كلما قابلها مصادفة، يسترق النظر إليها، أحيانا تبادره بنظرة أو ابتسامة، أسعد لحظات حياته كانت عندما ترد عليه السلام، أو يركب بجوارها المصعد رغم خوفه منه، أو يسير معها بضع خطوات حتى أول الطريق، وأتعس لحظات حياته كانت عندما يراها مرتدية على غير عادتها ملابس داكنة ومقطبة الوجه، وعينيها تنظران نظرات ممتلئة بالحزن والتعاسة، حينها كان يتصاعد من أعماقه المختلطة المتوترة إلى طرف لسانه سؤال حائر ملهوف عن أحوالها، لكن قبل أن تتحرك شفتاه وتنطلق من بينها الكلمات، قوة خارقة تجعله يصمت ولا يفتح فمه، ثم يمضى نهاره مكتئبا.

كان يخشى مواجهة نفسه بحبها، ويخاف من الوقوف أمامها معبرا عنه، ولكن لم تكن هي فقط ما يخشاه، كان يخشى المصاعد والأدوار المرتفعة، والطائرات والقطارات، كان يخاف من التعبير عن نفسه وأحلامه وأفكاره، ويخاف من أن ينتقد السلطة، أو أن يقرأ الناس ما يكتب ويفسرونه على طريقتهم فيفضل أن يبقيه حبيس الأدراج، لكن لحظة حاسمة غيرت كل شئ، زلزال مدو هزه من داخله، وحطم تلك القيود والأغلال التي وضع نفسه فيها طيلة الأعوام السابقة، زحف مع عشرات وألوف وملايين البشر نحو الشوارع ليغطونها كما السيل، مزلزلين بهتافاتهم أرجاء المدينة، داقين طبول الحرب على المستبدين وأركان النظام.

ووسط ذلك المشهد المهيب، ومع صوته الذي تحشرج من كثرة الهتاف، وأنفاسه اللاهثة من الركض، رأى وجهها كما لو كانت بجواره، ود لو شاهدها بأحد تلك المسيرات ليعلن لها وسط هذه اللحظة الاستثنائية من حياته عن حبه، ولكنه لم يعرف قط إن كانت قد شاركت بها أم لا، وتماما مثلما أسقطت تلك الثورة الرهبة من بطش الطغاة، أسقطت بداخله حاجز الخوف من حبها، وتخطى كل حدود الرهبة، أخذ يعبر عن نفسه بحرية، ويظهر إبداعاته بلا خوف، فبدأ صيته في الذيوع، بداية بين من عرفوه بينهم في الميدان، ثم في كل مكان كما لو كانت أفكاره نسمات تحملها الرياح، وفى وسط كل ذلك كان ينتظر الفرصة التي يشعر فيها بالانتصار ليقف أمامها ويحكى لها كل ما يخالجه من مشاعر، ثم يصارحها بكل حسم وقوة (إنني أحبك).

لم يمضى وقت طويل، سرعان ما جاءته الفرصة ليقضى على أحد هواجسه القديمة، ويصعد إلى سلم الطائرة لينقل أفكاره خارج الحدود للمرة الأولى، قرر أن يستغلها ليودعها ويعبر لها عن مشاعره، فاجأته بنظراتها الحائرة، وعينيها الزائغتين وحالة ارتباك لم يستطع تفسيرها إن كانت فرحة شلت تفكيرها، أم أنها تعبير عن حرجها في رفض ذلك الحب، علقت ردها لحين عودته، سكنته الحيرة التي صعدت معه الطائرة، وصارت معه وهو يشاهد الساحات والميادين العامة الممتلئة بالتماثيل النادرة والخضرة، وحجبت عينيه عن رؤية عشرات الجميلات اللاتي سرن بجواره، أو ناقشنه في تجربته وكتاباته، كانت الحيرة شبحا يخيم على رحلته وشغل تفكيره ليل مع نهار، لكنه في نهاية المطاف تشبث بالأمل الأخير، وقبل أن يغادر مباشرة كان آخر شئ يفعله هو أن يشترى لها زجاجة العطر ليعبر لها عن مشاعره تجاهها.

عاد مرة أخرى للأرض الدافئة، كان يتوقع رؤيتها فور وصوله لكن ذلك لم يحدث، سأل عليها من حوله، أصابتهم الدهشة، كانت المرة الأولى التي يسأل فيها عنها أو عن أي امرأة على الإطلاق، ترددوا في الإجابة عليه ثم قرروا أن يصدموه (لقد رحلت ولا يعرف أحد أين ذهبت)، بحث عنها كالمجنون دون جدوى، لم يعرف متى ولماذا رحلت وأين ذهبت، ولم تجدي محاولاته المستميتة في البحث وتتبع الأخبار في الوصول إليها، فعندما فارت مشاعره ووصلت لدرجة الغليان تبخر حلمه وتبخرت هي معه.

أبتعد عن كل الأماكن التي كان يلقاها بها، لم يكن ذلك كافيا لينساها، قرر أن يرحل حتى لا يتذكرها، لكن رابطة قوية بينه وبين الأرض منعته من ذلك، أتخذ قرارا وسطا، أن يمضى حياته بين السفر والعودة، أن يعيش في حالة رحيل دائم، محاولا الابتعاد والنسيان، لكن الحقيقة التي لم يجرؤ أبدا على الاعتراف بها، أنه كان يلف العالم باحثا عن وجهها بين ألوف الوجوه التي يراها، حالما باللحظة التي سيقابلها فيها، ويقف أمامها من جديد قائلا (أحبك)، ثم يقدم لها هديتها التي لم تأخذها أبدا، زجاجة العطر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى