السبت ٦ تموز (يوليو) ٢٠١٣
رُؤى ثقافيّة«61»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

عُروبةٌ من قوارير!||

-1-

عاميَّة اليوم مستشريةٌ، ومؤدلَجةٌ، ومؤكدمةٌ، ومرسَّخةٌ بالتقنية وشبكات المعلومات. إن ما تشهده العاميَّة اليوم من إنتاجٍ أدبيٍّ، شِعريٍّ وسرديٍّ، من المشرق إلى المغرب، ومن تسخيرٍ إعلاميٍّ في بثّها ونشرها وتربية الأجيال عليها، ومن تثبيت جذورها أكاديميًّا، واصطناع الكوادر المثقَّفة و"العالِمة" لتأصيلها وتنظيرها وتدوينها ومعجمتها وتقعيدها، كلّ ذلك يمثِّل مرحلةً يشهدها العالم العربي سَيْرًا على خُطى اللغات اللاتينيَّة التي بدأت على نحوٍ بدائيٍّ، لا يملك وسائلنا الحديثة، فأصبحت لغة طقوسٍ، وانبثقت عاميَّاتُها لغاتٍ أوربيَّةً متباينة. وعندئذٍ سوف تصبح العربيَّة لغةَ قرآنٍ حقًّا، لا لغة حضارة. أي سوف تصبح لغة دِين فقط، كاللاتينيَّة، لا لغة دنيا.

إنه، على الرغم من أن الفصحى ما زالت في نزعها الأخير تتشبَّث بالحياة، فإن تلك المعطيات جميعًا تُصِرّ على وأدها بكُلِّ الوسائل. هذا هو الواقع، وذاك هو المستقبل المتوقَّع، رضيناه أم رفضناه.
وإذا كان التلكُّؤ قد تعثَّر في دهاليزه إنشاءُ مَجْمَعٍ للغة العربيَّة في شِبه الجزيرة العربيَّة، فإن عصر الإنترنت قد كَسَر كُلّ قيود القرار، وكُلّ القيود الإعلاميَّة، أو العلميَّة، وسحب البساط من تحت عقول التكلُّس المؤسَّسي. دَعْ الإعلام الرسمي في ضلاله القديم، إنْ بقي من متابعيه أحد، دَعْ الكِتاب الورقي التقليدي بغُباره؛ فالمعلومة ستصل إلى أقطار الدنيا، دون وَصِيٍّ أو رقيب، ودَعْ القابعين في عالمهم السُّفلي يتساءلون: أ نُنشئ مجمعًا للغة العربيَّة، أم لا؟ أنفتح على أنفسنا بابًا يصعب غلقه، أم أن "كُلَّ شيءٍ تمام التمام"، وليس في الإمكان أخيب ممَّا كان؟ دَعْهم، فهاهم أولاء ثُلَّة من الأكاديميِّين المهتمِّين باللغة العربيِّة يُنشئون مؤخَّرًا «أوَّل مَجْمَعٍ للغة العربيَّة على الشبكة العالميَّة (الإنترنت)، بتمويلٍ من رجل الأعمال السعودي مشعل سرور الزايدي، الذي وَعَدَ ببناء صرحٍ للمَجْمَع في مكَّة المكرَّمة، شعورًا منه بعظمة هذه اللغة وبحقِّها العظيم على أبنائها، ممّا دفعه للمسارعة لتبنِّي المَجْمَع بعد أن اطَّلع على خطته وأهدافه ورسالته. وكانت فكرة المَجْمَع قد نَبعت من الدكتور عبدالعزيز بن علي الحربي، حرصًا منه على الحفاظ على اللغة وخوفًا عليها من الضياع بين اللغات الأخرى، والتفَّ حوله عددٌ من الحادبين على اللغة، وتكوَّنت على إثر ذلك الهيئة الاستشاريَّة للمَجْمَع، متضمِّنة 16 أكاديميًا من المهتمِّين باللغة العربية من عددٍ من الدول العربيَّة والإسلاميَّة، ليصدر العدد الأول من مجلَّة المَجْمَع، تتصدَّره كلمة افتتاحيَّة بقلم الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، عضو هيئة كبار العلماء [في السعوديَّة] والمستشار بالديوان الملكي وإمام وخطيب المسجد الحرام.»(1) وأنا على يقينٍ أن مثل هذا المشروع العصري، إن فُعِّل كما ينبغي، هو الجواب الشافي، والردّ القاطع لقول كُلِّ خطيب، وأن التقنية هي السبيل الأنجع لمعالجة مثل هذه القضايا، والأقدر على تحقيق ما لم تحقِّقه معظم الجهود في المجامع اللغويَّة السابقة، بسبب عزلتها، وتقليديَّتها، وغياب الأذرعة الإعلاميَّة عنها. لأجل هذا، فإن بوسع هذا المَجْمَع الوليد أن يتَّخذ وسائل إعلاميَّة كثيرة متاحة الآن، ولاسيما لو بادر بإنشاء قناة فضائيَّة؛ لأن اللغة في أصلها هي تلقٍّ حيٌّ، سماعًا واستعمالًا، قبل أن تكون كتابة وقراءة، وحتى لا تتحوَّل الجهود المنشودة من مَجْمَع الإنترنت إلى أضابير نخبويَّة غافية أيضًا، لا يحفل بها إلَّا بعض ذوي الاختصاص.

-2-

لقد ذكرنا في مقالنا السابق أن العاميَّة كانت منقصة، وأن مصطلحَي «النَّبَطي» و«الأنباط»- على سبيل الشاهد- لا نكاد نجدهما في الشِّعر العربي، منذ الجاهليَّة، إلّا نَبْزًا، وفي الإشارة إلى غير عرب الجزيرة. وإليك بعض الشواهد. منذ الجاهلية نظر العرب شزرًا إلى النَّبَط، فصوَّر الشعراء تبابين الأنباط أو سراويلاتهم، ولم تكُ من ملبوس العرب، فقال (الأعشى)، مثلًا:

كَأَنَّ ثِيابَ القَومِ حَولَ عَرينِهِ
تَبابينُ أَنباطٍ لَدى جَنبِ مُحصَدِ

ويقول (ابن مقبل):

أَصْوَاتُ نِسْوَانِ أَنْبَاطٍ بِمَصْنَعَةٍ
بَجَّدْنَ لِلنَّوْحِ واجْتَبْنَ التَّبَابِينَا

وقال (بِشْر بن أبي خازم):

وَلَو جاراكَ أَبيَضُ مُتلَئِبٌّ
قُرى نَبَطِ السَّوادِ لَهُ عِيالُ

كما قال (بِشْرٌ) في صوامعهم أو برانسهم:

تَمَشَّى بِها الثيرانُ تَردي كَأَنَّها
دَهاقينُ أَنباطٍ عَلَيها الصَّوامِعُ

ويقول (ابن مقبل) كذلك:

واسْتَقْبَلُوا وَادِيًا جَرْسُ الحَمَامِ بِهِ
كَأَنَّهُ نَوْحُ أَنْبَاطٍ مَثَاكِيلُ

وجاءت الإشارة إلى النبطيَّة في القرآن الكريم، كما ذهب إلى ذلك بعض من فسَّروا قوله تعالى: «وادْخُلُوا الباب سُجَّدًا، وقولوا حِطَّة»- كالفراء وغيره، ورووا ذلك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- حيث زعموا أن بني إسرائيل حرَّفوا «حِطَّة» إلى «حِنْطة»، أو نَحْوِها من الكلام بالنبطيَّة، تمويهًا، ودخلوا على أَسْتاهِهم؛ فذلك قوله تعالى: «فبدَّل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم».(2) وفي هذا نظرٌ، على كلِّ حال.

وفي العصر الأموي استمرَّت النظرة الدونيَّة إلى ما يتعلَّق بنعت (نَبَطِيّ). يدلّ على ذلك قول (الفرزدق) مثلًا:

تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَبَطِيُّ بَحْرٍ
وَأَنَّ لَهُ اللَئيمَ مِنَ الدِّيارِ

وقال (بشَّار بن بُرد):

وَمُوارٍ بِالدِّينِ لا يَذكُرُ الديـ
ــنَ إِذا ما خَلا مِنَ الأَرصادِ
نَبَطِيٌّ يُدعَى زِيادًا وَقَد عــا
شَ زَماناً يُدعى بِغَيرِ زِيــادِ

كما قال:

ارفُق بِعَــمرٍو إِذا حَرَّكتَ نِسبَتَهُ
فَــإِنَّــهُ عَــرَبـِيٌّ مِـن قَـــــواريـــــرِ
مـــا زالَ في كـــيرِ حَــدَّادٍ يُــرَدِّدُهُ
حَــتّى بَـــــدا عَرَبــِيًّـا مُظــلِمَ الــنورِ
إِنْ جازَ آباؤُهُ الأَنذالُ في مُضَرٍ
جازَت فُلوسُ بُخارى في الدَّنانيرِ
وَاشـــدُد يَدَيكَ بِحَمَّادٍ أَبي عُــمَــرٍ
فَـــإِنَّــهُ نَــبَـــطِــيٌّ مــِن دَنــانــــيرِ

أمَّا (ابن الرومي)، فقال:

فيه تأنيثٌ وتَخنيـ
ـــثٌ وحِلمٌ أحْنَفيُّ
قـــيل لــي إنَّ أبـاه
شــــِيروِيٌّ نَبَــــطِيُّ

أو قوله:

لا تحســبِ النَّـبطُ الأوغادُ أنَّهُمُ
أولَــى مِــنَ العَــــرَبِ الأمْجـادِ بالقَـلَـمِ
هذا أبو الصقـرِ فردٌ في كتابتِهِ
وهو ابنُ شَيبانَ بَيْنَ الطَّلحِ والسَّلمِ
ما جــاورتْ نَبَطِــيَّ الزلِّ نَبعتُـهُ
بل جـاورتْ [عَرَبِــيَّ] النَّبـعِ والبَشَــمِ(3)

فسبحان مغيِّر الأحوال، ما كان منقصةً بالأمس، بات منقبةً اليوم، ودليلًا على الأصالة والعروبة!

(1) صحيفة المدينة (السعودية)، الأربعاء 10 شعبان 1434هـ= 19 يونيو 2013م، الصفحات الثقافية.

(2) انظر: ابن منظور، (حطط).

(3) وَرَدَ البيتُ في ديوانه ((2002)، شرح: أحمد حسن بَسَج (بيروت: دار الكتب العلمية)، 3: 354)، ومحلّ كلمة «العربيّ» بياض، ولم يعلِّق عليه الشارح. ونُقدِّر أن الكلمة الساقطة هي: «العربيّ»، ليستقيم بها المعنى والوزن.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «عُروبةٌ من قوارير!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12419، الثلاثاء 2 يوليو 2013، ص40]


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى