السبت ١٣ تموز (يوليو) ٢٠١٣
بقلم أمينة شرادي

صراخ صامت

في ذلك الجوالمشحون بالرياح العاتية والضباب الغاضب الذي يزمجر بين كل لحظة ولحظة، لم ننتبه إلى مرور الوقت بتلك السرعة الغريبة، كأنه لص تسلل بيننا ونحن نيام واختفى كالبرق عند سماعه إلى أولى تحركاتنا . كنا نلتقي كل ما سنحت لنا ظروفنا اليومية البئيسة، ونترك الحرية لحواسنا وتفكيرنا أن تخرج من سجنها وتتصارع في فضاء الغرفة فيما بينها كأنها أصوات هائجة ولم تتكلم منذ زمن. كان لقاءا باهتا ذلك اليوم الذي تغيبت فيه صديقتنا صاحبة الوجه البشوش والتي بدونها لا تحلوالجلسات. كنا دائما نسألها عن سر ابتسامتها التي لا تنبض كشلال هارب من بين أعالي الجبال. تضحك كالعادة وتقول مرحة: هذا سر لن أبوح به أبدا. اسألوا عن "ارضات الوالدين".

ونسخر منها وتحاول كل واحدة منا أن تسمعها رأيها قبل الأخرى بأننا نحن أيضا "مرضيات الوالدين" ونعود إلى ضحكاتنا وأسئلتنا التي لا تنتهي إلا بحلول ساعة الانصراف. جمال تلك الجلسة كان ناقصا بغيابها. حاولنا السؤال عنها لم نتوصل إلى نتيجة. فقررت الذهاب إلى بيتها في اليوم الموالي. طرقت الباب. صمت رهيب ممزوج بأنين كأنه آت من بئر عميقة. انتظرت قليلا ثم أعدت الطرق. قلت ربما تهيأ لي ذلك وانصرفت. التقينا من جديد، كنا بدونها لكن هذه المرة لا رغبة لنا في الحديث. كل واحدة منا في ركنها صامتة تفكر أولا تفكر لكنه جمود في لحظة يساوي الموت. لأننا لم نتعود أن تتغيب إحدانا دون أن نعلم عنها شيئا. خاصة جميلة صاحبة الوجه البشوش. وماهي إلى لحظات بين أحضان الحزن والكرب، حتى هلت علينا جميلة بابتسامة مصطنعة وخفة دم ثقيلة على الروح. أخبرتها بأننا كنا منزعجات من غيابها المفاجئ وبأنني قد مررت بالبيت حتى أطمئن عليها ولم أجد أحدا.

سحابة حزن تلف وجهها البشوش، تحاول أن تداريها بضحكة أوابتسامة. قالت باقتضاب: التزامات عائلية. وحولت دفة الكلام إلى أي شيء. طلبنا قهوة كالعادة وعدنا إلى إتمام حديث الأمس. شتاء هذه السنة كان قاسيا وأفرغ قلوبنا من الدفء. أمطار تتسارع فيما بينها تقرع نوافذ المقهى بكل قوة كما تقرع الأجراس أيام الحرب. ونحن نسخر من قوة الأمطار التي سوف لا تطالنا إذ مكثنا أكبر وقت ممكن في المقهى وتجاهلنا الزمن المحدد، إذ بصديقتنا جميلة، تنهار فجأة من على الطاولة وتغيب عن الوعي. انتفض قلبي من بين ضلوعي وظننت أنها النهاية التي أتت مبكرة. حاولنا الاستنجاد بأي أحد حتى يساعدها بالإسعافات الأولية. تجمهر رواد المقهى حولنا كل واحد يدلي بدلوه. صببت الماء على وجهها ظانة بأنها غفوة وستستيقظ. لا حراك فقط تشنجات متباعدة وتنفس بطيء. تهت وسخرت مني الأمطار والأشجار...كنا في صراع مع الموت حتى لا يخطفها من بيننا. جاءت سيارة الإسعاف بعدما انهارت قواي وكدت أستسلم. في قاعة الانتظار، أخذت أدرع الغرفة ذهابا وإيابا، طال الانتظار، جاء زوجها يستفسر عن الأمر بعينين جاحظتين ووجه ينط من ملامحه الهلع والفزع. لحظات انتظار قاسية على الروح والجسد كمن ينتظر الحكم بالإعدام.

عادت إلى وعيها. نظرت إلي بنظرات متعبة لا تقوى على التحديق أوالسؤال. كان زوجها بجانبي. لم أرغب في إحراجه تركتها وذهبت على أمل لقاءها في الغد. كان صباحا ممطرا يحمل بين طياته برودة تلسع البدن. لم أنم تلك الليلة ولم أفهم ما حصل. الإنسان ضعيف إلى هذه الدرجة مهما ادعى الصمود والتحدي. جميلة، صديقة قديمة وأعز صديقاتي، أفتح لها مغاليق قلبي وأروي لها كل الشوائب التي تعكر صفوة حياتي. نجتمع مرارا نتكلم في كل شيء وأحيانا لا نقول شيئا. انضمت إلينا أخريات وكبر التجمع وصرنا لا نبتعد عن بعضنا إلا للضرورة القصوى. عاد السؤال يلح علي وينتهك صمت دماغي، ماذا حصل لها؟ هل كان وراء ابتسامتها حزن عميق؟ لماذا لم تخبرني كالعادة...ظل دماغي مسافر مع الأسئلة التي لا تنتهي والمحيرة حتى طلع الفجر وانبثق من بين شقوقه نور خفيف وجميل يلامس الروح الكئيبة ويبعث على الأمل. كأنه صفاء هارب من صقيع الشتاء البارد الذي طال أمده هذه السنة. التقينا من جديد بدونها وكلنا حيرة من أمرها ونتأسف لحالها. فجأة، طلت علينا بابتسامتها التي لا تنبض وضحكاتها المجلجلة. كانت مفاجأة غير متوقعة. سررنا لتواجدها معنا. حل صمت غريب لا نعرف كيف نبدأ الكلام ولا من أين. نادت على النادل ودعتنا أن نشرب على حسابها ولا داعي للسؤال. حاولنا التظاهر بالضحك واللامبالاة. نظراتنا تدل على حيرتنا. شعرت بذلك، وقالت دون مقدمات:"عفوا على الإزعاج الذي سببته لكن بالأمس..."وقبل أن تسترسل في الكلام، قاطعتها بحدة قائلة:"لم تزعجنا سوى حالتك الصحية.." احتضنت كأس قهوتها بين يديها وقالت: لم أشعر ما حصل وكيف حصل فقط في لحظة شعرت بهبوط غريب ودوران حتى غبت عن الوعي." حديثها معنا ساعدني على طرح سؤالي الذي حيرني وأصابني بالأرق: ما سبب هذه السقطة المفاجئة يا جميلة، هل أنت بخير؟" نظرت إلي كأنني أصبت الهدف واتجهت بنظراتها إلى الصديقتين الأخريين. قالت بصوت مهزوز رغم التظاهر بالقوة:"كثيرا ما تكلمنا هنا في هذه المقهى، عن خيانة الزوج .....صمت مشحون بدموع حارقة. وتابعت، لم أكن أظن أنه سيأتي يوما وأكون أنا الموضوع."بكت كثيرا بدون استئذان، زاد خوفنا عليها من انهيار آخر. نظرت إلينا والابتسامة لا تفارق محياها المبلل بالدموع:" لن أسقط مرة ثانية. وضحكت. أريد فقط أن أتكلم وأحكي لأنني مخنوقة وجريحة. وبدأت الحكاية:

كنت مرارا أرهف السمع وتخترق آذاني جمل ثقيلة على النفس، تنطق بها نساء أصابتهن لعنة الخيانة. وكنت أقول، هن يكبرن الموضوع. يكفي فقط الحوار لمعالجة كل الآلام والخصام. كم كنت بليدة في تحليلي للموضوع وساذجة. لم أكن اشعر بهول الصدمة على النفس والجسد كأنه جبل يهوي عليك. أخذت نفسا عميقا ورشفت من قهوتها التي كانت تحضنها بين يديها وتابعت، اكتشفت صدفة بأن زوجي له علاقة مع امرأة أخرى. وما إن دفعت هذه الجملة الأليمة من فمها دفعا حتى رافقتها دموع غزيرة كأنها شلال آت من عدم. كنا كالتلاميذ في الفصل، لا نجرؤ على مقاطعتها بل مخطوفات من هول الخبر. أصابني ساعتها صداع حاد ومنعني من التركيز والتصديق. "علاقة جميلة بزوجها بنيت على حب واحترام متبادل". سؤال جال بخاطري أثناء حديثها معنا. تخلخل تركيزي وفهمي للأشياء. صمت رهيب استوطن المكان واللحظة، سألتها صديقتنا المحبة للغووالكلام الكثير بصوت مفزوع: كيف علمت بالخبر؟ انتصبت من نكبتها وحاولت التحكم في دموعها قائلة: كم كنت غبية حتى النخاع. وسالت دون أن تنتظر جوابا: هل فعلا المرأة ساذجة إلى هذه الدرجة؟ هل سذاجتها تولد معها أم هي مكتسبة؟ زفرات متتالية تطفئ نار الحرقة المشتعلة بداخلها، وتابعت: علمت الخبر صدفة. أقول الصدفة رقت لحالي وأيقظتني من غفلتي الطويلة. يومها، نسيت مفاتيح مكتبي في البيت. كان صباحا مشئوما ولكني أعود وأقول بأنه صباح جميل ومفرح رغم الآلام التي سببها لي. سمعته يتكلم في الهاتف بصوت مرتفع وبكل حرية كأنه عاشق متيم. وهنا توقفت عن الكلام المباح. صمتت حتى خشينا عليها رغم ما يقوله الطب النفسي بأن في الحديث دواء.

استمرت بشكل مفاجئ وقالت وصوتها مخنوق: كلام جميل جدا لم أسمعه منه في حياتي. عدت بأفكاري إلى الأمس القريب، لما كانت تستسلم لجبروته ولا تقوى على معاندته أومعارضته رغم قراراته المتحكمة والمتسلطة. بحجة أنها لا ترغب في مشاكل نجلب إليها صداع الرأس. سألت نفسي بعيدا عن صوتها المعذب، لماذا تنحني دائما المرأة للعاصفة حتى تمر وغالبا ما تصيبها عند مرورها ولا تقوى على النهوض؟ عدت بذاكرتي إلى حديث سابق معها. كانت تنحني أمام أوامره بحرقة وطيبة خاطر. تقول لي دائما" لا أريد مشاكل معه.." وتمشي إلى يومها المسطر لها منذ أن خبأت رأسها في الرمال حتى تمر العاصفة. تجاهلنا في ذلك اليوم، الزمن المسلط على أعناقنا وأرواحنا، وتمردنا على قواعد مشينا عليها بإرادتنا أوبغير إرادتنا. طلبنا منها أن تكمل الحكاية التي تعني كل واحدة فينا. تابعت والدموع ترفض أن تجف: كنت يوم أسافر، يكون حريصا على أن يوصلني أويسال عني بين كل لحظة وأخرى. لا يرغب أن أتأخر كثيرا. يرفض أن أترك البيت مرارا..همت في اهتمامه المرضي وأعجبني وكان يرضي غروري كأنثى تبحث عن الاهتمام الزائد. ضربت كفا بكف بقوة حتى احمرت يداها وقالت"كم كنت غبية.."حاولنا من جهتنا أن نخفف عنها بكلام اكتشفت فيما بعد أن لا معنى له. ماذا يقال في مثل هذه المصائب؟ قالت الأولى: لا تهتمي للأمر الرجال مثل بعض. صحتك أهم. وتابعت الثانية كأنهما رأسين وافترقا: "صحيح الرجل مهما عمل سيعود إلى بيته. وما تلك العلاقة سوى نزوة عابرة. لا تكبري الموضوع." جفت الكلمات في حلقي ورفضت الكلام وسط هذا الضجيج من المفاهيم المغلوطة. سألتها والدم يغلي في عروقي: هل واجهته بالأمر؟ قالت بابتسامة ممزوجة بالسخرية: في الأول أنكر، لكنه أمام إصراري على معرفة الموضوع، توهني بكلام غامض لا يرد إلي كرامتي، بأنه ليست هناك أصلا علاقة..هي فقط حادثة طريق على الهامش...وأغلق الموضوع وراح إلى حال سبيله. أحيانا تجمعك علاقة صداقة بأشخاص لا تتقاطع معهم بنفس الأفكار لكن هناك أشياء أخرى جميلة تجرك إليهم وتعمل على أن تعيش لحظات معهم خارج الزمن. أعيش حالة مد وجزر مع صديقتي الأولى والثانية، تحملان موانع الأهل والقبيلة بين ضلوعهما ولا ترغبان في لفظهما ومع ذلك لهما مكانة في قلبي. أعادت الصديقة الأولى نفس الفكرة محاولة بصوت حاد وعينين جاحظتين أن تسلب السؤال والدهشة من كلمات جميلة وإعادتها إلى الصواب المتعارف عليه. بدت لي كفقيهة تملك بزمام الأمور وتفتي بكل ثقة فيما يخص الناس من أمور دنياهم. اشمأزت نفسي لهذا الخطاب البئيس الذي بدا لي كأفعى تزحف في صمت وتتربص بك حتى تشل كل أعضاءك وتمنع عنك التفكير. لم تجب جميلة. ظلت سابحة في حيرتها. أخذنا كلام عابر كأن شيئا لم يحصل. مر زمن ونحن نتحدث. اختلط الكلام وتقارعت الأفكار وامتلكنا ساعتها الفضاء واستحال حلبة مصارعة. بين الفينة والأخرى، تحتمي جميلة بالصمت ولا تشاركنا الحوار. كأنها تجد في الامتناع عن الكلام نوع من الراحة النفسية المؤقتة التي لا تشفي الغليل ولكنه نوع من الصبر الذي بدأ يتسلل إلى روحها الجريحة. كاستراحة المحارب بعد عناء طويل مع الدمار والدم السائل. طلبت كاس قهوة آخر، حنت عليه بخدها الموجوع، أغمضت عينيها وهامت مع نفسها ربما تبحث عن ملجأ آخر يقيها حر الشمس وعنف اللفظ. لم نرغب أن نوقظها من غيبوبتها الاختيارية، همست لي صديقتي الأولى وقالت بصوت خافت "مسكينة، أخاف عليها من انهيار آخر..هي حمقاء..الرجال كلهم بحال.. بحال.." لم أشعر وأنا أنهرها ولم أفعلها من قبل. لكن مسكنتها آلمتني وحركت صبري إلى اندفاع ودفاع عن النفس التي تتألم. قلت لها بنبرة حادة وغير مألوفة "ما أصابها ليس هينا ومن حقها أن تتألم وتبكي..وتلعن حتى اليوم الذي تعرفت فيه عليه.."لم أسكت ساعتها وتدفقت الكلمات من فمي بقوة جارفة. نهضت من مكاني لا ألوي على شيء، التحقت بي جميلة وكأس القهوة لا يفارق يديها كأنها تحمل حياتها. لم أرغب في العودة إلى المقهى، قلت بشكل عفوي"أنا أعزهما كثيرا لكني أكره مثل هذه البلادة والاستسلام.." مسحت بيدها على شعري وقالت لي بهدوء ينذر بعاصفة"أنت الوحيدة التي حرصت على كرامتي..كل من سمع قصتي، لا يستغرب ويتفاجأ من سلوكي كأنه شاذ. ويطلب مني النسيان والعيش بسلام.."مشينا كثيرا لم نحسب خطواتنا التائهة والمترددة، سألتني بشكل مفاجئ:"هل أنا مجنونة؟ هل من الطبيعي أن أصمت حتى تمشي الرياح ؟ .."قلت لها بصوت واثق:" المجتمع يرفض التمرد على المألوف ويخاف من الجديد. خيانة الرجل لزوجته جزء من هذا المجتمع وتحولت إلى شيء مألوف والرجال بحال..بحال..كما قالت صديقتنا.."ولا يجب أن تكون أفكارنا بحال.. بحال". ثم أضفت وقلت لها"لكنك يا جميلة أنت من خبأت رأسك في الرمال في البداية.."صمتت كالعادة وضحكت وضحكنا بشكل حقيقي . توردت وجنتيها وتدفق الدم بشكل سريع في كل جزء من أجزاء جسمها المتهالك. "هجرني الضحك منذ طعنت في الظهر" دفعتها من فمها دفعا مع زفرات متتالية. كنت عاجزة عن تلميم جراحها ونزع الشوك عن روحها. كلام في كلام يخفف أحيانا لكن مداه قصير. استوطن الليل المكان، تغير وجه المدينة واكتسى مسحة من الهدوء والطمأنينة. تنسابان بهدوء إلى شرايينك وأعضاءك وتشلان كل نزعة قلق أوتوتر وتسترخي بشكل غريب. هذا ما كانت تحتاج إليه جميلة الغارقة في حزن أبدي وجرح عميق لامس الروح والجسد. الجرح الخارجي يمكن القضاء عليه وترميمه لكن ما يمس النفس ويخدش جمالها وهدوءها لا تندمل جراحه حتى الزمن لا يفعل مفعوله. تبقى هناك رغبة خفية وغير قوية تبحث عن الرغبة في البقاء والاستمرار في العيش ربما من أجل الآخرين. قالتها بصوت مرتعش "لقد حكيت ما وقع لي إلى أولادي ظانة منهم أنهم سيسند وني. لكن طلبهم كان صعبا ذبحني مرة أخرى." مسحت دموعها من جديد ونظرت إلى الفارغ المترامي الأطراف أمامنا، وتابعت دون أن تنظر إلي "قالوا لي اصبري.. ولا أفرق شمل العائلة" ضربت كفا بكف وقالت بصوت مرتفع غير آبهة بمن حولنا"أنا سأفرق شمل العائلة؟ أليس هذا جنون؟ " حاولت التخفيف عنها من هول الصدمة. في قرارة نفسي، كنت أتمنى أن أقول لها "لا أحد يستحق تضحياتك الكثيرة ولا تبكي عليهم."لكن لاحظت أنها مشدودة إلى بيتها الذي بنته بكل حب وليست لها الجرأة على المضي إلى الأمام وعدم الالتفاف إلى الوراء. كانت ليلة طويلة من ليالي الشتاء البارد، رغم قصر الليل الطبيعي، طال حديثنا وطال..لأن الجرح أعادنا إلى الوراء لحظة بلحظة. فتشت عن كلمات في قاموسي الخاص حتى لا أجج نار الانتقام المستحيل والخلاص الممنوع. قلت وأنا أحاول أن تنزل كلماتي على روحها بردا وسلاما."جميلة، حاولي الآن أن تسيطري على أعصابك وتتحكمي في أفكارك وقرري فيما بعد. لا داعي أن تضاعفي من جروحك..حاولي أن تكوني قوية.."ابتسمت بعدما هجرتها الابتسامة والنفس المرحة وقالت"ياه يا أختي، كم هوصعب أن تعيشي في مكان واحد مع جلادك ولا تستطيع أن تطوله اليد". تابعنا مشينا بين دروب المدينة المتلألئة بالأنوار والغاصة بضجيج السيارات، هناك حياة مليئة بالصخب والفوضى والأمل والجمال. صمتت جميلة ونحن نجر خطواتنا البطيئة كأنها مشلولة، كانت نظراتها فارغة، وجهها لا حياة به فكرها شارد..آلمتني حالها وتمنيت من كل قلبي أن أصرخ في وجهها وأطلب منها أن تخلف كل شيء وراءها وتبدأ من جديد. أفكار متمردة مرت بسرعة في ذهني لكنها تستحق أن نفكر فيها. همست إليها حتى لا تنزعج"جميلة، أرجوك..الموقف جد صعب..لا تحسدين عليه..لكن نفسك، حرام أن تعذبيها.."قالت كأنها لم تسمعني"أعرف نساء يعلمن بخيانة الزوج ويعشن بشكل عادي. أيعقل أن تكون المرأة بدون إحساس؟ هل سلوكي طبيعي؟"غيرت من نيرة صوتي حتى أوقظها من سباتها "الطبيعي هوما قمت به . لقد قلنا بأن المجتمع يرفض من يفكر لوحده..أنت من حقك أن ترفضي هذا الوضع وتطلبي الطلاق." أخيرا قلتها. فاجأتني بشكل هادئ"لقد فكرت في ذلك لكن أولادي منعوني وأنا أحب أولادي ولا أستطيع أن أسبب لهم التعاسة مرة أخرى". نظرت إليها وقلت " صرت تتكلمين بلسانهم. زوجك هومن جلب إليكم التعاسة ومن حقك الدفاع عن نفسك" توقفت قليلا وأطلقت العنان لزفرات كأنها آتية من أعماق الأرض وقالت "أنأ أكرهه لكن مضطرة للتعايش معه من أجل أولادي. حياتي كلها انهارت في لحظة وتمنيت لوعدت إلى شبابي ..كنت عمياء بحبه..ربما الخيانة كانت مستمرة منذ مدة وأنا نائمة. هذا ما يعذبني أكثر. عشرة سنين كلها تطفوعلى السطح ويتبخر كل شيء. صرت نادمة على كل لحظة مرت من هنا. في كل لحظة خيانة لي..كم كنت غبية ..." وانزوت جانبا تناجي دموعها الغالية.

تدفقت الأيام كما تتدفق المياه من أعالي الجبال، مر فصل الشتاء ببرودته ورعده ورياحه العاتية وآلامه وأحزانه وقليل من أفراحه. سافر بنا بشكل سريع عابرا لكل النظم الطبيعية وحط بنا الرحال فوق صفيح ساخن ينذر بصيف قائظ يحرق الأبدان ويلهب الأنفاس. تسلل الزمن من بين أيدينا، كدنا أن ننسى أوتناسينا المصيبة التي كسرت ظهر جميلة. لقاءاتنا استمرت واستمرت الحياة بشكل طبيعي، يوما قلت لجميلة ولم أكن أنوي أن أوقظ جرحا نائما" كيف حالك الآن؟ " تمنيت ساعتها لوانشقت الأرض وتهت في أعماقها، سكتت قليلا وقالت مع دمعة هاربة من جفونها:" أنا أحاول أن أعيش." وخبأت عينيها وراء نظارة سوداء وطلبت كأس قهوة وتجاذبت معي أطراف حديث عادي عن البيت والأولاد والعمل الروتيني. حتى قالت لي والنظارة لا تفارق عينيها:" لم أكن أعلم أنه يجب على المرأة أن تنحني للعواصف وتحاول أن تعيش." تابعت بنفس النبرة" تحمل بداخلها قوة كبيرة ..وغير مفهومة.."التفتت إلي وسألتني بشكل مفاجئ:" لماذا المرأة دائما تحاول أن تعيش حياتها لكن الرجل يعيش حياته؟"تهيأت للجواب لكنها ذهبت وتركتني كأنها كانت تحدث نفسها والنظارة تمسح دموعها التي ترفض أن تنبض واستمرت في المشي دون أن تتوقف أوتلتفت إلى الوراء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى