الخميس ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠١٣
بقلم مروة كريديه

قراءة في عواصف النسيان

تطرح رواية «عواصف النسيان» للكاتبة اللبنانية مروة كريدية الصادرة حديثًا عن دار النهضة العربية في بيروت مسألة الزمن وجدلية الصفح ؛ وصراع الإنسان في مجتمع مثقل بالأحقاد والنزاعات وعذابات الحروب، حيث تدور الأحداث على لسان بطلة القصة «بنت النور» التي تستطيع أن تعيد البهاء لروحها ولطفولتها المسلوبة بالتسامح والمحبة عبر مغادرة الواقع الى غير رجعة .

الزمن في الخطاب القصصي موزع بين زمنية أحداث القصة وبين زمن الخطاب عبر تنوع طرائق ترتيب المتواليات السردية والمقاطع المشهدية، حيث يمتد الفضاء الورقي للرواية على مدى 178 صفحة، أما على مستوى الخطاب فيمتد الزمن حسب استذكارات واسترجاعات الكاتبة منذ الولادة وما قبلها، حتى النضج عندما اقتربت من منصف العقد الرابع.

الزمان في الرواية له تأثير كبير على مستوى قراءة النص، ويعكس قضية جوهرية في الكتابة استطاعت المؤلفة من خلالها ان تستوعب الأحداث والشخصيات والقضايا وهو ينقسم الى فصول ثلاث:

الفصل الاول من الكتاب والمعنون :" بِنْتُ النّور عَنقاءٌ مِن نُونِ الأحزَانِ ولدت" يعالج أحداثًا منذ بدء الحرب الأهلية في لبنان اواسط السبعينيات وحتى الاجتياح الاسرائيلي اواسط عام 1982 ، وهي مرحلة الطفولة لبطلة الرواية منذ ولادتها وحتى الثامنة من عمرها حيث تسرد الكاتبة مناخات السياسة والاجتماع التي كانت سائدة ونظرة المجتمع للبنت والمرأة في مجتمع يبدو برجوازيا ديموقراطيا حداثيا بيد انه يمارس شتى انواع القمع المقنع ؛ وهو ما نقرأه تحت عنوان ولادة الدراماتيكيَّة "من نُونِ التَّكوِينِ إلى تَاءِ التَّأنِيثِ"، لتنتقل المؤلفة الى التشرذم في بيتٌ مُنقَسِم كما المجتمع الذي أدى التشظي فيه الى شَرَارَةُ الحربِ الأهلية و تحوله الى "شَرَانِقُ طَائِفِيَّة" . ثم تغوص في ذكريات مدرسية وطفولة اتسمت بالإهمال في "حِبرٌ عَلى خُبز"، لينتهي القسم الاول ب"آهات الحرب و متاَهات التهجير" حيث كانت في الثامنة من عمرها عندما اجتاحت اسرائيل لبنان. وتتميز هذه الجزئية باحتوائها على تفاصيل دقيقة لا يتقنها الا من كان شاهدا حيًّا بذاكرة خصبة جدا حيث تكتسي المعالجة الاجتماعية و السياسية بأسلوب أدبي راقٍ . أحداث الفصل الاول تدور في أحياء بيروت "الغربية" ما بين المصيطبة و الظريف وطريق الجديدة وعائشة بكار ورأس بيروت. بينما ينتهي الفصل الاول بتهجير العائلة الى سوريا حيث الترحال ما بين دمشق وحمص وبلودان .

أما الفصل الثاني يعالج أحداثا ما بين عامي 1989 و 1990 او ما سمي في حينه ب "حرب الإلغاء" حيث انتهت الحرب الأهلية فيما بعد بما سمي "اتفاق الطائف "، وتتناول بطلة الرواية مرحلة المراهقة حيث تعقيدات العمر علاوة على معاناتها من التدين الفاسد للشخصيات المحيطة بها فتكافح جاهدة كي تحافظ على توازن عقلها وروحها . وقد جاء هذا الفصل بعنوان "بنْتُ النّور تُدينُ بدين الحُبّ" ويتميز هذا الفصل ببعدٍ سُوريالي صوفي ينزاح بالقارئ عن عالم الحس الى الجمال ويقارب الاسلوب العرفاني الرمزي لتروي مرحلة مراهقة صبية على الاعراف تمردت .

وتدور احداث هذا الفصل ما بين أحياء دمشق القديمة وأطرافها حيث تغرق الراوية في ايقونات الحضارة بعمقها و بهاءها الباذخ من مقام ابن عربي صَاحِبِ الكبرِيت الأحمر في رحلةٍ ينزاح الواقع لصالح الخيال عبر شطحٍ تجد "بنت النور" نفسها فيه بصحبة "أنيسٍ" لا تصرح بهويته بيد ان القارئ يستشف بأنه "نبي" . لينتهي الفصل الثاني على خلاصة تحمل الكثير من العبر والنقاش المنطقي مع مدعي الفضيلة فتكشف زيفهم وتمزق اقنعتهم .
أما الفصل الثالث والذي جاء بعنوان " في منازل الاختبار " فيتناول تجارب حياتية وروحية عالية وفي هذا الفصل يتسارع الزمن ويتلاشى المكان فنقرأ:"عشرة أعوامٍ انقضت بلمحَةٍ وقد أوشكت ثلاثَة عقودٍ من عمرها أن تنقضي فِي غَفلة الحيرة ومواكب العمل، رُوحها تساءلها مقاماتٍ سَامِيةٍ لا تبلغها نَواميسُ البَشَر، ورنّة الوجود تُلامسُ قلبًا عانقته الأغاني السماويّة، فيما تتكسّر أشواق الوجد على صَخرة حياةٍ لم تَختارها، وتمزقها عاصِفَةُ الاختبارات فترى عمرها مشَّوهًا بالآلام، مثقلا بالأحزان. "

وتصبح الراوية كراهبةٍ وقعت في أسر تكاليف الحياة وكأنها رهينة جُمدّت ايامها بالصبر وهي تستجدي النسيان عبر طرح بعد فلسفي لقانون العلة والمعلول وان البشر يحصدون ما اياه يزرعون، وهو ما أطلقت عليه اسم "كرمى" ونقرأ : "تَسْتَجْدِي أُغْنِيَة النّسْيَان وَتُحَمِّل وِزْرَ عَجْزهَا لِضَعْفِهَا ، وَتَعودُ إلى نَفسِهَا تساءلها:

هَل الشَّقَاء صَنِيعَة مُمَارَسَةٍ لَنَا طالَمَا توقَّعنَا صَوابَها عند وقُوعِها فَكنّا كمَن سَاءَ سَعيهُم وَهم يَحسَبُونَ أنَهم يُحسِنون صُنعًا ؟

وهَل استمرارية "الذَّاكرة " المثقلة بالأوجاع و التّوق الى إشباع الرغبَات عَبر "التمنِّيَات " بمسْتَقبَلٍ "مفتعلٍ مُزيَّف " يُوَّلدّ لديْها حَاضرًا نَاقِصًا فتُصبح الذات ساحة صراعٍ تَحول دون إطلاق إمكانيَّاتها الروحية الدفينة ؟ "
ختام الرواية نهايات لبدايات مفتوحة ، وهي وان كانت تحمل خلاصة ونتيجة واقعية بمغادرة "عالم احترف الخداع " ، بيد ان القارئ يشعر بأنها بداية قصة جديدة وكأن الرواية بكاملها تمهيد لقصة لم تبدأ بعد .

وتعدُّ شخصية "بنت النور" إشكالية لأنها، حسب المحكي الخاص بها، تأرجحت بين أوضاع متناقضة من الشخصية القوية المدافعة عن حقوق السيدات الكارهة لكافة اشكال التدين، الكافرة بكل المعتقدات والقيم ؛ الى الشخصية المؤمنة بالفطرة التي تتحلى بعرفان روحي وحكمة بالغة وفهم فلسفي عميق والهادئة حتى السكينة .
اما من ناحية التقنيات الأدبية فقد استعملت الكاتبة مروة كريدية اساليب عدة منها : التوسيع، المحكي التكميلي، التضمين ، إضافة إلى الاسترجاع والاستذكار للتغلب على مشكلة الزمن السردي الناتج عن اختيارها الاشتغال ضمن مدة زمنية تضيق حينا وتتسع حينا آخر. لذلك يمكن تصنيفها كرواية تأمل واسترجاع لحياة شخصيات مميزة بصفات أو أفعال خاصة، وكرواية استذكار لوقائع اجتماعية وسياسية مؤلمة. وهو ما يبرز الجانب الحِرَفي والعلمي في بناء الخطاب الروائي

أما فيما يتعلق بالمضمون فقد عالجت الكاتبة مواضيع حساسة عديدة تم طرحها وتوحي بها سياق الأحداث، كموضوع الحب والعلاقات وموضوع الارتداد الفكري؛ مفهوم الحق الشخصي وقضايا الاختلال النفسي؛ وموضوع الخداع والكذب في السياسة ، اضافة الى جدلية العائلة وحرية المرأة، ايضا البيئة المذهبية والصراع الطائفي.
عواصف النسيان للكاتبة اللبنانية مروة كريدية نموذج من السرد النسائي المعاصر المتضمن لنصوص شعرية الذي عالج بالتوازي قضايا تخص المرأة، وقضايا تخص المجتمع اللبناني، وتخص الكتابة الروائية كما تعد بالعطاء المميز والهادف إلى تقوية المدونة السردية كما الشعرية .
****
الكتاب : عَواصِف النِّسيَان
النوع الأدبي : نُصوص
المؤلف : مروة كريدية
دار النشر : دار النهضة العربية – بيروت
عدد الصفحات : 178 صفحة
الترقيم الدولي : ISBN 978 – 614 – 402 –

***
مروة كريدية
تعد الكاتبة مروة كريدية واحدة من المهتمات بالقضايا الإنسانية واللاعنف، حيث تطرح العلاقات الاجتماعية والسياسية من خلال رؤية وجودية تتجاوز الانقسامات الاثنية والدينية والجغرافية، وقد عملت في ميادين فكرية متنوعة، ولها العديد من الاعمال الادبية و الفنية التشكيلية والخواطر الشعرية والابحاث الميدانية في علم الاجتماع السياسي. شاركت في أعمال حوار الاديان واللاهوت المقارن، كما نشطت في ميدان الاعلام الثقافي.
تنوعت اصداراتها بين الفكري والسياسي والادبي ومن اهم كتبها :استراتيجيات الأمل في عصر العنف - مقالات في عنف السياسة والمادة ، و ديوان لوامع من بقايا الذاكرة - وفكر على ورق ، وكتاب أفكار متمردة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى