الأربعاء ١٤ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم فاروق مواسي

قراءة في قصيدة «تراكمات»

للشاعر شفيق حبيب

اعتاد قارئ قصائد شفيق حبيب أن يتوقع في شعره ذلك الإيقاع، الصاخب وتلك المباشرة والخطابية الممهورة كلها بصدق الموقف وأصالة الانتماء والالتزام.

ولكنا هنا إزاء قصيدة من نوع آخر تشف شاعرية خاصة وليست هذه متأتية -قصرًا- بسبب التمزق والمعاناة والضياع، بل بسبب هذا البوح التلقائي أو "الفيضان" الذي ذكره ووردزوورث في كتابه (السيرة الأدبية) ضمن وجود رومانسي صاف، لكن الفيضان في قصيدة "تراكمات"، وأصطلحُ عليه "فيضان التراكم" كان كبركان يندلق من ذات محرورة، ويتجمع فوق بعضه البعض، فتخيل كيف تتراكم أجزاء الراوي الشاعر أو "أبعاضه" أو أطلاله! وتأمل كيف تنعكس المفاهيم، فيضحي كفره دعاء، وها هو يتلاشى كشعاع الضوء، والمشبه به هنا ليس ذلك الشعاع الباسم المنير، بل هو "الباكي في ثغرة الظلمة" إنه يذوب تدريجيًا كقطعة الثلج، ولا يستطيع تحديد المقاييس والأبعاد، فالكل سواء وهباء، وبات الكون بلا لون .... معنى ذلك أن هناك نمطية شكلية مقيتة ومملة، والأضواء في قلبه ماتت..... معنى ذلك أن هناك ظلمة أبدية تستدعي بالتالي خوفًا أبديًا وعويلاً وخواء.

ثم ينتقل الشاعر إلى موقف آخر، حيث يقف خطيبًا "على نشز" – شأن خطباء العرب القدامى- وينادي الأحياء الأموات، - ويدعو الأموات الأحياء- معنى ذلك أن يعتبر الأحياء أمواتًا، وهذا نابع من عمق إحساسه بالعدمية واللاشيئية، فالأموات هم الأحياء الحقيقيون، هكذا بلغت المفارقة وحال التصور، وبينما كان ينادي الأموات والأحياء- ولا يهم تحديد المقصود في كلٍ- تسوقه الريح الهوجاء إلى فكَّي- لاحظ "فكيْ" –أمواج هوجاء. فماذا سيفعل إزاء ذلك؟

إنه يصرخ في البرية ولا من صدى، صوته يخرج حزنًا ودموعًا ودماء، فالظمأ أحرقه بحرارته وضيعه، فاختلطت عليه الأسماء والصور، واجتاحه الصدأ، وأصاب الجدب ميادينه. وهذا التنويع المأساوي هنا هو أقل حدة مما كان عليه الحال في القسم الأول من القصيدة وما جسّمه فيه. وها هو في الفقرة الثانية يلجأ إلى المبالغة- فلو عرفت ذاته عن مدى الآلام الحقيقية لهذه الذات نفسها لانشق البحر وغابت أشرعة حيرى، وهو بالتالي غريب يرى الشهد مرًا، والمرارة شهدًا، ويبحث عن لا شيء.

إذن ماذا سيفعل الراوي الشاعر؟ إنه يطالب ذاته أن يحطم أقلامه، يلقي بها في نار العشق الذاوي خلف أبواب الصحارى. إنه يطلب أن يهتف من جوف هذا الظمأ والملح: لم يبق عزاء إلا الأموات.

وأخيرا ها هو مشهد التكسر والتشظي يتواصل، فينشطر حرفه إلى أصداء، وتتبعثر أيامه مزقًا وأحلامًا وأوهامًا وهباءً. ويعود للمغالاة مرة أخرى ليؤكد أن آدم لو كان يعلم الغيب، ولو كان يعرف ما سيعانيه الراوي لما وجد ضرورة للنسل والتكاثر.

وإذا كان العمل الإبداعي- كما يرى علماء النفس- تجسيدًا لرفض المبدع لواقع ما، حيث يصطدم الوعي بدمامة هذا الواقع المحدق، فإن تجسيد النشاط الجواني الفائر ينبثق وينطبق في مادة مجسدة هي العمل الفني.
ومن هنا أصل هذا السؤال: ماذا دهى شاعرنا حتى طلع علينا بملامح أخرى تنضح يأسًا، بوجه متشظٍ تسيل منه ألفاظ المعاناة، بصورة يتراكم عليها الموت، وما ينوء به من معجم ألفاظ مهول؟؟

قراءة أخرى للقصيدة توجهني إلى أن الشاعر كتب قصيدته في لحظة يأس- أو دمامة الواقع- وذلك بعد أن لمس توجهًا سلبيًا ما نحو شعره، وقد عزّ عليه ذلك وهو يعرف مدى صدق موقفه الوطني الذي دفع لقاءه ثمنًا حقيقيًا من اعتقال ومصادرة وإرهاب وإزعاج وتهديد، فإذا بهذا الثمن- في حساب البعض- لا اعتبار له، وإذا الشعر "الآخر"- ولا يهم مَـن- من هذا النوع "اللاحس".

«والشعر هزيلاً يتلوى
يتمرغ في وحل الأهواء
يستجدي المال
ويلحسُ أعتاب الأمراء»

وإذا قلبنا الصورة، وعدنا إلى شعره فكأني به يقول عن شعره (أو أقول أنا على لسانه):

والشعر عنيفًا يتصدى
يستنكف عن وحل الأهواء
يستغني بالنفس
ولا يستخذي للأمراء

ثم يعود الشاعر في الفقرة التالية ومن خلال حديثه عن مدى ما يعاني، فيقول:

لو تدري ذاتي عن ذاتي
كم أتحمل أعباءً وشقاء
لانشق البحر
وغابت أشرعتي الحيرى
وانخرست ألسنة الشعراء

ويمكننا أن نفهم عند المبالغة معنى "وغابت أشرعتي الحيرى" وذلك في إطار حديثه عن شخصه، وخوضه في لجة الشقاء، ولكن ما أحوجه إلى القول "وانخرست ألسنة الشعراء" ولماذا "انخرست" بالذات؟

لا أظن أن الشاعر يريد فقط أن يؤكد لنا أن ألسنة الشعراء ستكل أو ستعجز عن الوصف الحقيقي، وإنما يريد من وراء ذلك أن يتهم الشعر "الآخر" والشعراء الذين ليست حالهم كحاله، وهؤلاء كأنهم في بحبوحة، فالأجدر بهم أن يبكوا ، أو بلهجة عامية معبرة حادة "ينخرسوا"، يدفعنا إلى هذا التصور ما قاله في الفقرة السابقة بعد أن اجتاح شرايينه الصدأ، وأصاب ميادينه الجدب، حيث يصف حال الشعر عامة:

والشعر هزيلاً يتلوى

فالشعر الهزيل الضامر لا يمكنه أن يكون سببًا للإفصاح عن الموقف، أو على الأقل ليس مطلوبًا منه أن يصف العمق الحقيقي للمأساة.

ولعل الموقع الثالث الذي يشي بهذا الشعور الذي ألمحت إليه ما توجه به إلى نفسه:

حطّم أقلامك الق بها
في نار العشق الذاوي
خلف مصاريع الصحراء
واهتف...

لا حظ أن (الهتاف) سيكون في رؤيا قاتمة في أقداس الوحي وفي الإيحاء.

ولا شك أن هذه التعابير ملازمة للشعر ولقاموسه (الثيمي) بشكل أو بآخر. وها هو يتابع الشعور عينه في قوله:

ينشطر الحرف إلى أصداء

* ومن خلال هذا التصور أستطيع أن أتفهم لفظة (وغنت) في السطر:

وغنت في صدري الأحزان

وكنت قد تعجبت - في قراءتي الأولى - بسبب موقعها غير المتماثل أو غير المتساوق في المبنى العويلي الهائل والمضطرب، ألم يكن بوسع الشاعر أن يستعمل مكانها:

"جاشت" و "بكت" "رنّت" و "اشتعلت" الخ... وقد وجدت في استعماله "غنّت" مفتاحًا لهذا التصور الذي طرحته في هذه القصيدة. إنه هنا ومن خلال هذه السوداوية يتطلع إلى التناغم، إلى تصحيح للواقع، والقصيدة وإن كانت إبداعًا فرديًا إلا أنها تهجس في قلق جماعي جلي أو مخفي.

*****
وفيما أنا أدرس هذه القصيدة نشر الشاعر قصيدة جديدة- "ضياع في بحر الذات" (الاتحاد- 2.12.1994)، وها هو يحلق في نفس الجو، وينسج على نفس النول، فيرى هنا أن أوتار صوته أصبحت شجرًا خريفيًا، وهو يحن إلى التراب، "وأحلامي ذرتها الريح في صحراء تاريخي".... وختامًا يناشد نفسه أن تُلهم بالصبر، ذلك لأن:

" الموت شهد العاشقين القابضين
على القصيدةِ
والعقيدة
والكتاب"

فالقبض على القصيدة- القصيدة أولا والكتاب آخرًا- جزاؤه الموت العذب، والشاعر الذي لا يجد لكلمته ولعقيدته صدى يجد نفسه غريبًا، فلا يملك إلا مناجاة نفسه:

"ما للغريب سوى نعيقك يا غرابْ "

وبالطبع فإن صورة الغريب التي نجدها في هذه القصيدة الجديدة تتلاقى وقوله في قصيدتنا التي نتناولها:
غريب يبحث عن عنوان مكتوب بالماء

*****
ولعل ما يميز هذه القصيدة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى صدقها وعفويتها وإنسانيتها أنها كتبت بموسقة عبارة، وذلك من خلال تكرار إيقاعي أسيان (اقرأ مثلا الأبيات الثلاثة الأولى) ومن خلال المطابقات (الأحياء الأموات.. مر الشهد وشهد المرّ..الخ)

ومن خلال حيل وأساليب بلاغية متباينة (نحو: لو تدري ذاتي عن ذاتي.. وصلاتي وصوت من حالي..الخ)، ومن خلال التناص الوارد هنا وهناك.

يقول روبرت شولز في مقالته "سيمياء النص الشعري" إن النصوص تنبثق من نصوص متداخلة أخرى، أو من قوالب يقدمها الموروث المتواتر، وقد لاحظت أن قول شفيق:
يا صوتي الصارخ في البرية

معتمد على الإنجيل والتوراة معًا، فنرى في إنجيل لوقا:

صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب (لوقا6.3)، ويمضي الإنجيل في وصف تقلب الأحوال: "كل واد يمتلئ، وكل جبل وأكمة تنخفض، وتصير المعوجات مستقيمة، والشعاب طرقا سهلة".

والشاعر يفيد من هذا التغاير، وبدلا من أن تكون الصورة إيجابية- كما في الإنجيل- يوردها الشاعر بصورة سلبية:

فامتزجت صور شائهة
واختلطت في ذهني الأسماء
صدأ يجتاح شراييني
والجدب أصاب مياديني

إذن فصوته صارخ في البرية كصوت النبي أشعيا (الإصحاح3.40) ويقترن هذا الصوت العبثي بقول الشاعر العربي القديم الذي كاد ييأس:

"ولكن لا حياة لمن تنادي"

وها هو الشاعر كذلك ينادي الأحياء الأموات ويدعو الأموات الأحياء (سيان) ولا حياة لمن تنادي.

ومن الوسائل الفنية التي اعتمدها الشاعر بالإضافة إلى ما سبق، هذه القافية الهمزية المقيدة، وكأنها نُواح يعكس المعاناة.

وبقدر ما رأيت في القصيدة تماسكًا فإن هناك من اعتبره عبثًا على القصيدة، فما ضرورة لفظة (وشقاء) في قوله:

كم يحمل أعباء وشقاء
أو هذا التشبيه:
أنا لست سوى قطعة ثلج

فشتان بين هذه الصورة وبين صورة تلاشي شعاع الضوء الباكي في ثغر الظلماء. .....ولو تبـنّيت أنا القصيدة لقلت:

أتلاشى مثل شعاع الضوء
الباكي في عين الظلماء

أو (من عين) وبالطبع فهذا ما أحسه لا ما يحسه شاعرنا ، وليس لي عليه ضربة لازب.
وأخيرًا:

فهذه اللغة التي عمد إليها الشاعر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا برؤياه وبحسيته، فقد حلق عبرها في مستوى مجنح انفعالي، وكذلك في إطار المستوى الإخباري عن واقع حال، يعبر عن معاناته الشخصية عبر دفاع عن شاعريته وإنسانيته في إطار المعادلة:

شفيق=الشاعر، الشاعر=شفيق.

وتظل هذه القصيدة المعادلة حتى في سياقها التدميري استعارة ممتدة وحكاية رمزية للبحث عن الذات.
******

القصيدة:


تراكــمــات


بعضي ينهار على بعضي...


أتراكم أجزاءً أجزاء

أطلالي تعلو أطلالي..
.

وصلاتي صوت من حالي،

والكفر دعاء...


أتلاشى مثل شعاع الضوء

الباكي في ثغر الظلماء


أنا لست سوى قطعة ثلج


تتعرى في كأس الصهباء...


****




أخطو..

لا أدري..

أهبط أم أعلو


فالكل سواء...


ضاعت من عيني الألوان


وغنت في صدري الأحزان


وماتت في قلبي الأضواء


يملأني خوف أبدي


وعويل يملأني وخواء...


 
****




ها أقف اليوم على نشز

و
أنادي الأحياء الأموات


وأدعو الأموات الأحياء..


أخذتني الريح وألقتني


في فكي أمواج هوجاء..


يا صوتي الصارخ في البريــه


حزنًا..
ودموعًا..
ودماء..


ظلمًا صهّدني..


ضيعني..


فامتزجت صور شائهة


واختلطت في ذهني الأسماء


صدأ يجتاح شراييني..


والجدب أصاب مياديني..


والشعر هزيلا يتلوى..


يتمرغ في وحل الأهواء
،

يستجدي المال


ويلحس أعتاب الأمراء..




 
*****


لو تدري ذاتي


عن ذاتي


كم تحمل أعباء وشقاء


لانشق البحر،


وغابت أشرعتي الحيرى،


وانخرست ألسنة الشعراء..


 
*******




يا مرّ الشهد!!


وشهد المرّ!!


غريب يبحث عن عنوان


مكتوب بالماء...


 
******* 




حطم أقلامك،
ألق بها

في نار العشق الذاوي


خلف مصاريع الصحراء...


واهتف..!!


من جوف السغب العاصف
ملحا

في أقداس الوحي


وفي الإيحاء:


لم يبقى أمامي يا دنيا!!


غير الأموات من الأحياء عزاء..
 


********




ينشطر الحرف إلى أصداء...


وأعثر أيامي مزقا


أحلامًا..

أوهامًا..

وهباء..


آه لو عاين آدم هول معاناتي


ما أخصب جدتنا حواء..





*من مجموعة: آه..
يا أسوار عكا!!
للشاعر شفيق حبيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى