الجمعة ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم شادية بن يحيى

المثقف والسلطة

إذا كان الفعل الإبداعي حكرا على الذات الخلاقة والمتفائلة مع فضاءات مختلفة الأبعاد والمشارب، يعرف خلالها المبدع طلاقة وإنعتاقا يكفلان فعل التواجد والتفاعل، ففي المقابل تنتظره ذات لأخرى هي المستقبل على اختلاف أشكالها وألوانها وما بين الإبداع والتلقي يتولد عالم جديد يعرف بعالم التواصل، بكل ما يحمله من رؤى وطروحات، ومثلما تفرد المرسل (المبدع) بمواقفه وتطلعاته فإن المتلقي ينتظر دوره للإدلاء بما يراه أهلا بالإدلاء انجذابا أوتباعدا وفق ما يحمله من مرجعية كفيلة بمسايرة فعل القراءة.

لقد عرف عالم المبدع اهتزازات وتقلبات منذ فجر التاريخ ترجمتها العديد من القضايا والمواقف ،مما يبرز الدور الريادي من عمل فكري والإبداعي وما يصاحبه من تغيرات تنحدر من المشروع السلطوي الممثل في الحاكم أوالمشرع. ومما لا شك فيه أن ثنائية المثقف والسلطة بسطت نفوذها لتضع مشهدا يعج صراعا كله ،حرص على سلامة الذات المبدعة على ما يتهددها من مخاطر تعرف منطلقاتها وتجهل أبعادها في غالب الأحيان وفي هذا الشأن يشير «عبد الرحمن عزي" إلى " تعامل التفاعلات الرمزية مع الترابط الاجتماعي الذي يؤسس من خلاله الأفراد ما يعتبر أنه الحقيقة الاجتماعية "(1).

كما يرى الباحث أيضا أن "التفاعلات الرمزية المتبادلة ما بين الفرد والمجتمع ،فمعاني الأحداث يمكن أن تتغير بالأعمال الخلاقة للأفراد" (2).

وهي غاية ينشدها المبدع لكن هامش السلامة في ذلك غير مضمون انطلاقا من رؤية المبدع وما تعرفه من استعدادات تتهدد واقع السلطة وكيانـها.

 المثقف والسلطة:

يتمتع المثقف على العموم بمهابة فكرية قد تجعل منه فردا مهما تتجاذبه النوازع السلطوية والمبادئ الفكرية التي خلق لها، وبين هذا وذاك يعمل المبدع على محاور عدة تقوم على الإنعتاق تارة والإرضاء والانقياد تارة أخرى ،ليخلق ما يعرف بمفهومي الإلزام والالتزام وهما مصطلحان يكنفهما الغموض الكثير ذلك أن الالتزام قد يتضمن إلزاما في أبعد قراراته.

إن العلاقة التي جمعت سقراط بسلطة عصره جعلت منه كبش فداء لأنه يعلم مسبقا أن المسايرة المطلقة هي افتقاد بكل شكل من أشكال الوجود، وكذلك شعب أفلاطون الذي سعى بأفكاره ومبادئه إلى المثل خوفا من المصير المشئوم الذي لاقاه أستاذه.

هكذا تجلت منطلقات التفاعل في ما بين المثقف والسلطة على أبسط مستوياتـها، ولتشهد اتساعا وشمولية مع ما شهدته المجتمعات من تطور وتحضر.

كما كان للمجتمع العربي منذ العهد الجاهلي موقف راسخ في إبراز مكانة الشاعر أوالحاذق ،فكان يفرح لنبوغه لأنه تعلم مسبقا أن " وجود المثقف حياة لأهله وامتداد لهم " (1)،ثم نمت هذه الفكرة لتشمل أبعادا أخرى أين كان يقرب المثقف من السلطة مخافة جموحه عن أعنتها الملزمة وإلا لحدث له ما حدث لابن المقفع أوابن عربي لأن الأسباب تكاد تكون واحدة حتى وإن اختلفت الرؤى والمشارب ،فتلك هي حقيقة العلاقة بتمظهراتـها السلطوية من سياسية ودينية وغيرها من الإملاءات المسايرة للترشيد الفكري الثقافي مثلما فعلت الكنيسة مع مثقفي عصرها في القرون الوسطى مما أثر سلبا على عاملي الذوق والإبداع وهي سلبية وصفتها بنت الشاطئ بالتعاطي الخاطئ مع الإبداع وإلا " لما كانت تلك الأحكام النقدية الجاهزة والمنحدرة من مواقف أملاها الحكام والأمراء تقرب هذا وتبعد ذاك"(1).

وباتساع دائرة اهتمام الفرد يتسع نفوذ السلطة وتعمل على مسايرة كل نشاط تراه يستوجب المتابعة فتجلى ذلك في الصراع الدائم ما بين الكنيسة والإصلاحيين وما بين حالات الفكر والسلطة الدينية في عالمنا العربي، وهي مرحلة بارزة مازالت آثارها قائمة في واقعنا.

2- تمظهرات المثقف:

رسم سارتر صورا مختلفة للمثقف في كتابه الوجود والعدم لكنه " أكد في مستهل الأمر على عامل الحرية الذي ينعدم أحيانا في الذات الداخلية"(2) ليتضح أن السلطة نوعان داخلية وخارجية ،وهي السلطة المتضمنة في المثقف ثم السلطة الخارجية بجميع أشكالها ودواليبها،وإثر ذلك يشرع سارتر في إبراز حقيقة الوضعية المتعلقة بالمثقف وما ينبني عليها من قدرات أومخاوف أوضرورات.

كما رسم سارتر صورة المثقف الملتزم وحدود الالتزام بالنسبة له والمتعلقة على وجه الخصوص بتلك التي تتعارض والموقف في كل من الحياة والوجود (3) ،وقد عمل الدارسون على إبراز صورة المثقف والمتراوحة ما بين المثقف الإيجابي المتفاعل والمثقف الحيادي ثم المثقف السلبي :

أ-المثقف الإيجابي:

ويعرف بالمثقف المتفاعل مع قضايا عصره بدء بقضاياه التي يراها مشروعا تكميليا لما هومحيط به،وسط اهتزازات تستوجب المراقبة والمتابعة والتموقع وهوما يحاول المثقف تجسيده في كتاباته وفق حدود تعرف بمعالم الالتزام الفعلي حيث يرى سارتر في هذا الشأن أن الرفض ينبع من الاقتناع الداخلي مثلما يرفض
العبد القيد ليسمى حرا ليرقى المفهوم إلى ما هوأعم وأشمل يعمل المثقف على تجسيده في طروحاته وفق ثلاث رؤى : الأولى تتعلق بالقدرة على تجاوز أية وضعية لا تترجم حقيقة الذات الإنسانية. وأما الثانية فتتجلى في خلق إمكانات تفتح مجال المبادرة والمناورة على مصراعيه مما يترجم عظمة روح المثقف. بينما تتعلق الرؤية الثالثة بمسؤولية المثقف وشعوره بكل فعل وما يترتب عليه من تبعات(1)، قد تعصف بأفكاره وحتى كيانه كما يمثل الالتزام الثقافي موقفا لطالما رفضته السلطة إذا ما رأته يخالف توجهاتـها مثلما فعلت السلطة السوفيتية أثناء تقسيمها للأدب إلى كل من الأدب الروسي والأدب السوفياتي فاصلة بينهما بتاريخ الثورة البلشفية مستثنية في ذلك كل من «غوركي» و«بوشكين» و«مايكوفسكي» لأنهم خالفوا الارستقراطية وانظموا إلى الشعب وطموحاته ،لكن النظام لم يبرر سبب انتحار « مايكوفسكي » الذي رفض النظام القائم لأنه يحد من حريته ويجعله متبوعا لا تابعا ،وكذلك المسرحي «برشت» الذي أثار مغادرة الإتحاد السوفياتي بحثا عن فضاء أرحب لترويج أفكاره التي لطالما حلم بتجسيدها(2).

ب-المثقف الحيادي:

تمثل الحيادية موقفا فكريا ذا أبعاد لا متناهية تتجاذبـها الظروف والملابسات المحيطة ،يرفض أصحابـها أن يسموا بالمستلينين المهزومين طالما أن موقفهم هذا هوامتداد لفسلفة خالدة وممتدة في البشرية جمعاء ،ويمثل هذا الاتجاه كل من «صامويل بكث» و«البير كامو» حيث أعيب علي هذا الأخير مواقفه الفكرية الرافضة لعدم التدخل في الشأن الجزائرية علي الرغم ما يشاهده يوميا من جرائم بشعة في حق الأبرياء فهويرى أن " أوضاع التعبير باتت بالأمر المستحيل مما يستوجب مجراتـها في يسر أوالإلفتات إلى ما تراه الذات جديرا بالالتفاتة" (3) .

وهكذا يفهم أن موقف «كامو» لا يحفل بالمتغيرات ولا بالأحداث الهامة والحساسة بقدر ما ينطوي على ذاته من خلال كتابات تأخذ في الحسبان البعد الفلسفي ،وكأنه هروب من المواقع الذي لا تريد السلطة الفرنسية إدخال أي تعديل أوتغيير عليه.

إن مفهوم المثقف الحيادي أملته أحداث العصر بحكم ما يتمتع به المثقف من مواقف قد تقلب موازين الأمور ويؤثر في رسم الواقع المتطلع إليه ،غير أن حياديته في هذا الشأن قد تعصف بالعديد من الأحلام المعلقة عليه ،وهوأخوف ما يخافه المثقفون.

ج-المثقـف السلبـي:

يبدوأن هذه التسمية مستمدة من حدود التفاعل التي يبديها المثقف والتي تعرف الامتداد والتقلص انطلاقا من الدور الثقافي كما شكلت كل من ظاهرتي الإلزام والالتزام ملمحا بارزا في الساحة الثقافية ،وما ترتب عنها من أنمذجة المثقف الفاعل والمتفاعل والمتراجع المتقوقع ،يحدث كل ذلك في فضاء سلطوي يحاول المثقف مقاربته والتفاعل معه إيجابا أوسلبا(1)،فالملاحظ في هذا الشأن هوحياد المثقف عن معلمه والانطواء تحت لواء السلطة الآمرة والناهية من خلال مراسيمها وقوانينها ولكن انطلاقا من كتابات المثقف التي باتت منطلق التأسيس لواقع انطوائي تحت ما يعرف بالالتزام الذي خيم ولمدة من الزمن على عالم المثقف ليصبح الصراع ما بين (مثقف ،مثقف) قبل أن يتحول إلى (مثقف ،سلطة).

قائمة المراجع:

1- عبد الرحمن عزي : الفكر الاجتماعي المعاصر، دار الامة، الجزائر، سنة 1995، ص 108.

2-المرجع نفسه: ص 108.

3-الزوزني : شرح المعلقات السبع المقدمة، دار صادر- بيروت- لبنان – 1979، ص80.

4-عائشة عبد الرحمن : بنت الشاطئ- قيم جديدة وقديمة للادب العربي، دار صادر بيروت، ص82.

5- jean Paul Sartre l’être et le néant seuil ,paris, 1952 p 612.

6-المرجع نفسه:ص 613.

7-المرجع السابق : ص 614.

8- عزيزة مريدن: سياسة المسرح، مطبعة الثروة، دمشق، 1987، ص 32.

9- chanles André julien : une pensée anti coloniale sindbad-paris ans 1979p 219.

10-Analyses revue de critique et de théorie littéraire.http :www.revue-analy.ang/index.php ?id=99.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى