الأربعاء ٢٢ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم ماهر عواودة

"نصب تذكاري" لقاتل .. في عابود

فركت عيناي مراراً لاستفيق من الصدمه بعدما رأيت الفلسطيني ناهض سمعان (41 سنة) من بلدة عابود غرب رام الله بفلسطين، وهو يرش الماء على نباتات حول نصب تذكاري لمستوطن يهودي كان قد قتل قرب ارضه اقامه والد القتيل وزرع حوله النباتات . نظر إلي ناهض وقد شعر بصدمتي التي حاولت ان اخفيها خلف ابتسامتي كما اخفت خزانات الماء حر الشمس بظلها عني . كنت اقف في الظل تحت الخزانات لا اصدق ما أراه عندما دعاني ناهض لمشاركة افراد عائلتة وجبة من الزيت والزعتر مع الشاي المغلي على الحطب.

ناهض فلاح بامتياز إضافة إلى كونه ميكانيكاً، يميزه هدوء عجيب وخصوصا في التعامل مع "جيران" مفروضين بقوة السلاح وغير وديين ، فتراه يعمل بساعدين لوحتهما الشمس ولا يتوقف عن عمله حتى اثناء شرحه كيف اقتلع مستوطن بستانه، وزرع نباتات زينة حول "نصب تذكاري" بشع أقيم داخل ارض ناهض بالقوة ليذكره ليل نهار بمن اتوا من مختلف بقاع الارض يحملون السلاح والحقد الدفين.

اخبرني وهامته مرفوعة وكلماته عفوية كيف جاء ذات صباح ليجد حقل غراس العنب قد اقتلعت وسرقت من ارضة بعد قيام مستوطن بتهديده قبيل أيام من ذلك الاعتداء، وعندما وصف لي منظر ما تبقى من غراس ملقاة على الارض تشكو لخالقها ظلم الغاشمين احسست وكأن تلك الاشجار قد تقطعت جذورها وهي تتشبث بارض زارعها قبل ان ينزف الماء منها دمعاً ودعاء وشكوى .
حينها نظر ناهض الى زميلتي "ربيكا" الصحفية الامريكية متسائلاً ما الذي احضرها الى عابود: هل مأساته دافعا لاكتشاف البلدة؟ لو نظرت حولها في قرى رام الله -حيث تقيم- او أي مكان آخر لسمعت ورأت من قصص و حكايات الماسي الكثير.

رافقت ربيكا القادمة من بلاد العم سام كمترجم الى قرى غرب مدينة رام الله و وصلنا قرية عابود التي تحجبها عن رام الله مستعمرة "حلاميش" الجاثمة كالوحش على مفترق طرق و في اراضى زراعية يمتلكها فلاحون فلسطينيون.

في طريقنا من رام الله الى عابود اوقفت ربيكا سيارتها في بيرزيت لتنقل شاباً يعمل في مجال الصوتيات للمساعده في تسجيل الفيلم الوثائقي القصير حول معاناة عابود عبر قصة معاناة ناهض ثم واصلنا طريقنا من خلال حاجز الجيش الاسرائيلي الذي يخنق المخرج الشمالي لمدينة رام الله عند قرية عطاره .

في الطريق حدثتني ربيكا عن ارتفاع اسعار الشقق في رام الله بسبب قلة الأراض المسموح بالبناء بها عليها بسبب مصادرة الاراضي لاغراض بناء المستوطنات و شق الطرق الاستيطانية الالتفافية.

وعند مدخل القرية التي تجهد لرفع أنفها فوق سطح بحر الاستيطان والحواجز لتتنفس من مدخلين احكم الجنود اغلاقهما فاضحى الجميع تحت رحمة جندي اصر على عدم معرفتة باللغتين العربية والانجليزية قبل ان يطلب منا، بالانجليزية و بطلاقة، طالباً منا مشاهدة ما سجلته كاميرتنا قبل السماح لنا بالدخول و شاهد ما سجلناه من صور عائله تتناول افطارها في ارضها.

ختم ناهض مأساته باعلان هز وجداني واستنفر الدموع من زرقة عيون ضيفته ربيكا حين سألته الآن وقد اقتلع هذا المستوطن غراسك هل ستواصل تزويده بالماء ليبقي على اشجاره؟ فنظر إلي وقد علت قسمات وجهه ملامح تصميم وانسانية ما توقعت ان اعيشها قبل يومي هذا قائلاً: انظر لقد زرع المستوطن نباتاته حول حجر نصبه اغتصابا في ارضي أنا لذا سأواصل سقاية هذه النباتات لتعيش في ارضي بنفس الرغبة التي اريد فيها لأشجاري ان تبقى وتعيش فلا ذنب للنبات ولا الأرض في حقدهم الدفين ... كل ما اريده ان يتركوني واشجاري لنعيش احراراً ولهم من مائي ليسقوا ما زرعوا دون مقابل .عندها غلبتني المشاعر و لم استطع الاستمرار بالترجمة وصمتت زميلتي قبل ان نقرر المغادرة حين وصلت سيارة جيب عسكرية من المعسكر المجاور لأرض ناهض وسألنا الجنود: ماذا نفعل؟

وتساءلت كيف لاحظنا هؤلاء الآن ولم يلاحظوا مستوطناً اقترف جريمته تحت اضواء كشافاتهم ثم غادر يحمل الغراس المسروقة في شاحنة.
بقيت كلمات ناهض تدق جدران خزان مخيلتي و هو يطلب الحرية لاشجرة كما يطلبها لنفسة.

غادرت المكان تشغلني ثنائية الضحية و الجلاد ... كيف يفرض على الضحية رعاية نباتات الجلاد المغتصب على ارضة!!
ماهر عواودة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى