الاثنين ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٣

شاعر الجوع والشمس

عبد الناصر صالح

كنت في طولكرم، واستقبلني لفيف من أدبائها، وخاصة مدير عام وزارة الثقافة الشاعر عبد الناصر صالح، وعضو اللجنة المركزية في جبهة النضال الشعبي.

تذكرت أنني أول من كتب نقدًا حول ديوان الشاعر "الفارس الذي قتل قبل المبارزة"- 1980، وكان يومها في مطالع شبابه.

أعيد نشر مقالتي عنه بعد مضي عقود، وكنت قد نشرتها في كتابي الذي نفِـد- "الرؤيا والإشعاع"- دراسات في الشعر الفلسطيني". طولكرم- 1984، ص 63-69.

في غمرة الدواوين الشعرية الجديدة كان صوت عبد الناصر(1) يحمل نغمة مأساوية (واقنسية).

أما المأساة فقد استهلكها الشاعر واستهلكته، وكان وهو يافع قد غُمِد في سجن طولكرم سنة - بانتظاراتها وتأملاتها.... فلا بدع إن قال:

والفارس الموعود

ما زال ينتظر القطار
(الفارس الذي قُتل قبل المبارزة ص 75)

وأما (الواقنسية) فأعني بها مصطلحًا جديدًا كنت قد نحتُّه من لفظتَي - الواقعية والرومانسية،(2)

فواقعية التفاؤلية- رغم سوادها- تلبس لبوسًا شفافًا على إيقاع موسيقي حالم:

أماه يا لحن النهار
هل تسمعين
القلب يخفق والتشوق والحنين
أماه ليتك تسمعين
ندائي الملهوف يخترق الجدار
يأتي إليك مع الطيور الباكيات على الديار
يأتي مع المطر المحلق فوق أطلال المآسي والألم
أماه يا أحلى نغم !
(الفارس الذي قُتل قبل المبارزة ص21)

فمن سمات الواقنسية - كما أراها - استعمال القاموس الرومانسي: من خيال وحنين وطبيعة وماض وذات ... وذلك ضمن إطار المجموع. فعبد الناصر صالح لا يتشوق هنا إلى أمه الحقيقية بقدر ما يرمز إلى شوقه إلى أمه الكبرى.

القصيدة فيها تزامن، وكلما كانت القصيدة شخصية، وكلما زاد ارتباطها بالزمكانية اقتربت من مركز الشعر - كما يرى الشاعر الألماني الرومانسي نوفاليس.

ولو تقرّينا رموز الشاعر لنجعلها مفاتيح لنا لأبوابه لوجدنا حركات أو موتيفات:
(الجوع) و (الشمس) و (الزيتون) هي أبرز ما يتردد عنده، فالجوع يعني لديــه العذاب والمعاناة:

ليتنا نعرف في الجوع الحياة (ص17)
أو
وتعود يا طفل الشقاء
تعود ترسم دربك المدهون بالجوع القديم (ص74)

لقد طافت أسراب الغربان تبشر قلب الشاعر بالجوع (ص10)، بينما الجياع الآخرون فرشوا دماءهم الهادرة (ص15)، وعندما جاع انهارت تعاويذه (ص34) وبقي يحن إليها (ص 56)، ويظل الجوع الحاد ينبري في وسط الطريق (ص73)، فيجوع ، ويجوع حتى النور آلاتي من عمق الشاعر (ص43)

ويدوي الجوع
والجوع مباح
آه من دهر المآسي والجراح (ص94)
وإذا كنا لاحظنا لازمة الجوع تتردد لفظًا فإنها تتوافق معنى:
ها إنني وحدي بلا زاد وبلا ماء (ص81)

تذكّرني هذه اللازمة أو الحركة بدراسة د. عبد الغفار مكاوي عن شعر رامبو، فهو يرى أن العطش والجوع في لغة رامبو، وهما من الكلمات التي استخدمها المتصوفون- كما استخدمها دانتي- للتعبير عن شوقهم للاتحاد بالذات العلية. (3)

غير أن رامبو يستخدمها للدلالة على حالة من الظمأ - الذي لا يروي، والجوع الذي لا يشبع.
إذن فرمز (الجوع) عند شاعرنا ليس مستحدثًا في الشعر، ولكنه مستقى أو على الأقل موازٍ، غير أن ترديده يضفي عند عبد الناصر تكثيفًا للمعاناة والأزمة.

أما الرمز الثاني فهو (الشمس)، وليس هذا الرمز بالمصطلح الصوفي الذي يعني الحقيقة، وإنما الشمس توءم للوطن، أو كأن الشمس وفلسطين كل واحد، وعندما اعتُدي على أحدهما كان قرص الشمس محروق الضياء (ص31)، وقد ربطت الشمس بقضبان الحديد (ص18)، وبقيت واجفة بلا مأوى (ص24) ، وشعاعها تلوث باللون الأسود(ص85)، فكان لا بد من أن يأتي أورفيوس- وهو مغنٍ مشهور في الأسطورة البابلية يرمز كذلك إلى الحب- حتى يغسل قرص الشمس الملوث (ص97)، وبعدها سيكون المشوار في عيون الشمس.(4)

رأينا أن الرمزين (الجوع)، و (الشمس) يتممان الصورة.
ولنسمع عبد الناصر مستخدمًا كليهما في معرض قوله:
أدفن الآهات في قلبي
وأعرى وأجوع
نختفي يا عاشق الشمس زمانًا ضاع
ما بين الدموع (ص60)
أما غصن الزيتون فهو مرادف للإصرار والأمل، وهو البداية والنهاية (5)
هذا القلب حزينًا صار
حزينًا كغصون الزيتون المصفرة (ص9)
ثم بعد ذلك:
يا فرح الزيتون بعد رحلة المخاض والخريف (ص98)

وإذا كان الديوان قد خرج عن إطار الغموض المزيف الذي يبرزه المتشاعرون - الذين هم كالأطفال يناجون أنفسهم على ملأ من الناس.... برطانة لا يفقهها غيرهم، فإن عبد الناصر صالح تبدو عليه سيماء الرهافة الشعرية الصادقة، رغم ما تمليه عليه موجة التقليد المفتعل أحيانًا. فعلى سبيل المثال:

ما الذي يحوج الشاعر أن يعنون قصيدة له هكذا: (تخطيط أولي للوحة تجريدية)؟ (ص53)، فهل الشاعر بحاجة إلى التجريد ليعكس جوعه، أو ليغسل شمسه؟!

وهل هذه اللوحة- إن كانت أصلاً - ورأيي أنها لم تكن- تطعم خبزًا؟

بل إنني لأتساءل: ما الذي دعا شاعرنا أن يجعل العنوان لإحدى قصائده- وبالتالي للمجموعة التي نعالجها الفارس الذي قتل قبل المبارزة فهذا الفارس يذرف الدموع ويعترف بالهزيمة (ص101) ؟؟؟ فلماذا لا يكون الفعل- (بُعث قبل .....) أو على الأقل (سًجن قبل المبارزة .....) حتى يكون معنى للمبارزة المرتقبة.

إن العنوان يعمق المأساة والفاجعة، ولكنه مثبّط هنا نوعًا ما؛ وهذا الرأي يسوقني إلى الاعتراض على الإهداء، وفيه يشير الشاعر:

" إلى الذين يموتون قبيل مجيء الوقت،
والذين يولدون بعد فوات الأوان بحثًا عن الحلقة الموصلة"

أما الشق الأول فهو يلائم عنوان المجموعة وفيه مبرر، لأن من أقسى الأمور أن يموت الإنسان
قبل أن يكون شاهدًا على الخلاص. ولكني لا أرى مبررًا لهؤلاء الذين سيولدون مستقبلاً، لأن لهم مشاغل جديدة لا تدعهم ينظرون إلى الماضي، وسيكون المستقبل غريبًا جدًا علينا.
يقول أدونيس محللاً هذه الظاهرة:

" من هذا الواقع الوجودي انبثق ما يمكن تسميته بحس الشعر......أمام هذه القوة يحس الشاعر الجاهلي أنه عاجز ولا حيلة له، إنها ليست قوة الموت، بل قوة الحركة الأفقية التي تندرج في تيارها ظاهرة الغياب، غياب الحبيبة والأهل والقبيلة. إنه شيء خفي يأتي من الخلف مفاجئًا لا يغلب".(7)

ولا بد من الإشارة إلى ملاحظات شكلية مؤثرة- كأن يعتمد الشاعر القافية للقافية، وهاك أمثلة:

ما عدت أطيق الغربة والهجران (ص13)

أضيفت (الهجران)، وأردفت حتى تتقفى و (الشطآن) والشعر الحر كما نعلم لا يشترط القافية،
ويقول:

أيها الموت الظليم (ص16)
(الظليم) حتى تلائم (الجحيم) رغم أن اللفظة تعني الفاعلية والمفعولية.
ويقول: يبكي على الأراك (ص89)
وما اضطره إلى (الأراك) هو إلى (الحَراك) ، ومشى على ذلك.

ولا أدري كيف يجيز الشاعر لنفسه أن يقول:

وما الذي قلتيه لليل والأموات (ص38)

ويمكن تصويبها إذا قسمنا السطر الشعري :

وما الذي تقولين

لليل والأموات؟

وما هي الحنادسة:

وأنا أراك على حنادسة تقوم

فالحندس كما نعلم هو الظلام والليل الشديد السواد، وجمعه الحنادس.

أقول هذا وأنا أتذكر مقولة طه حسين "علينا أن نجدد مراعين اللغة والنحو" .

وقبل أن أودع الشاعر أرجو أن يحافظ على المستوى الشعري الذي يتميز به، فشتان بين قوله:
وأقابل سيقان الألم الأسود (ص71)

وقوله:

لن أحني رأسي

ولن أخضع لك (ص87)

وشتان بين شاعرية :

أتسلق أيامي الملأى بالآهات

ونثرية:

باردًا كان كالجليد (ص19)

ومع ذلك فنحن بانتظار عطاء متواصل فيه إبداع يُنتظر من الشاعر- شاعر الجوع والشمس.

أيار/1980

1- -عبد الناصر صالح: الفارس الذي قتل قبل المبارزة،الأسوار-1980-

2- -انظر مقالي حول الواقنسية في مجلة الجديد، العدد الثامن – 1978.

3- -عبد الغفار مكاوي ، ثورة الشعر الحديث ، ج1 ص126

4- -عنوان إحدى قصائده، ومن الملاحظ أن هناك قصيدة أخرى جعلت (الشمس) في العنوان.
وإذا اعتبرنا العنوان تركيزًا لبؤرة القصيدة فإننا نرى أهمية هذا الرمز في شعره.

5- -انظر المجموعة ص 13،59.

6- -عن الغموض المزيف راجع مقال مكس استمن في كتاب الأديب وصناعته ص41.

7- -أدونيس: مقدمة الشعر العربي ص28.

عبد الناصر صالح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى