الخميس ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٣
جاتسبي العظيم (2013)
بقلم مهند النابلسي

سقوط مبكر للحلم الأمريكي!

ينتقل نيك كاراوي من مينسوتا لنيويورك بصيف 1922 لتعلم مهارات التداول بالسوق المالي، ويستأجر بيتا بلونغ أيلاند، المنطقة الثرية الخاصة بالأثرياء الجدد، هؤلاء التافهين اللذين لا يهتمون الا بالمظاهر و باللهو والاستعراض. يقع بيت نيك بجوار قصر يملكه ثري غامض يسمى " غاتسبي"، الذي يعيش لوحده بقصر كبير "غوتي التصميم"، ويقيم كل ليلة سبت حفلات باذخة استعراضية ضخمة . ونيك يختلف عن الاخرين بكونه أنهى دراسته بجامعة بيل الشهيرة، ولكونه طيب وخلوق وبريء! ويذهب نيك مرة لتناول العشاء برفقة ابنة عمه "دايزي بوخانان" وزوجها الثري الماكر توم، ويتعرف هناك على جوردان بيكر، ويميل لاقامة علاقة رومانسية معها . ويتعرف بعمق على طبيعة العلاقة الزوجية ما بين دايزي وتوم، كما تبلغه جوردان بوجود عشيقة سرية لتوم واسمها " ميرتيل ويلسون"، التي تعيش بمنزل متواضع في وادي الرماد، وهي منطقة صناعية بائسة وفقيرة معدمة تستقبل كافة انواع المخلفات من كل من ويست ايغ ومدينة نيويورك (وربما قصد هنا بذكاء تسليط الأضواء على الفقر وبؤس الحياة في هذه المنطقة الاستراتيجية للمقارنة مع نمط الثراء الفاحش لآبطال الرواية الرئيسيين)!...وبعد هذا الاكتشاف الهام يسافر نيك لنيويورك برفقة توم وميرتيل، منضما لحفلة سرية رخيصة حيث يسعى توم بحرية لاقامة علاقة آثمة مع عشيقتة، وتتطور الامور فتقرعه ميرتيل بشأن زوجته، ويضطرلتوجيه لكمة كاسرا أنفها!

ومع قدوم الصيف يجد نيك دعوة خطية نادرة لحضور احدى حفلات غاتسبي الباذخة (الذي يبدو وكأنه كان يراقبه عن بعد)، ويلتقي هناك مع فتاة جميلة اسمها "جوردان بيكر"، كما يلتقي كلاهما لاحقا بجاتسبي نفسه، الذي بدا غامضا ومنطويا ويتحدث الانجليزية بلكنة خاصة ويبتسم بطريقة لافتة غريبة، كما انه يميل لأن يدعو كل شخص يلتقي به بعبارة " اولد سبورت " (الرياضي القديم)، ويلتقي جاتسبي بجوردان اولا، التي تخبر بدورها نيك بعض التفاصيل عن جاره الغامض ...كما يخبرها جاتسبي بأنه كان يعرف "دايزي" منذ خمس سنوات (قبل ذهابه للحرب)، وانه قد وقع حينئذ بحبها، كما انه يقضي الليالي العديدة يبحلق بالضؤ الأخضر الصادر عن بيتها من خلال الخليج، وقد كشف لها كذلك بأن نمط حياته الاستعراضي الجامح والحفلات الباذخة التي يقيمها بقصره، ما هي في حقيقة الأمر الا وسيلة لادهاش دايزي والتأثير عليها!

حب رومانسي فتاك وصداقة نادرة ...

...ثم يكشف جاتسبي لنيك رغبته الشديدة بأن يحاول الأخير تدبير لقاء منفرد مع دايزي، مبديا قلقه من امكانية رفض دايزي مقابلته اذا ما عرفت أنه ما زال يحتفظ بحبه لها، وبالفعل يقوم نيك بدعوتها لحفل شاي "مرتبة" تجمعها بجاتسبي دون ان يخبرها بوجود جاتسبي، بعد أن يجهز له جاتسبي المكان بديكورات جذابة "رومانسية" وأصناف جميلة من الورود والزهور الخلابة ...وبعد اللقاء الغرامي المفاجىء الذي سادته في البدء أجواء من الدهشة والخجل والتردد، يعود الحب العارم فيتدفق بين العشيقين القديمين مستعيدا وهجه وتألقه وحنينه المسترجع ...ثم يبدأ توم الثري الماكر الذي تسري بعروقه "دماء زرقاء" بالشك والارتياب من وجود علاقة لزوجته مع جاتسبي، ويلاحظ في حفل غذاء جامع نظرات الحب والهيام التي يرسلها جاتسبي بوله لدايزي المترددة، وبالرغم من تورط توم بعلاقات آثمة مع النساء الا ان فكرة خيانة زوجته له لا تروقه وتحدث شرخا بكرامته وكبرياءه وغروره (لكونه زير نساء متمرس!) ...ولا يخفي غضبه وحنقه الشديد وغيرته من جاتسبي "المزيف"، ولا يعتقد أبدا بصحة رواياته حول مصدر ثروته ودراسته الجامعية!

بعد مواجهة عاصفة بين الرجلين " الزوج والعشيق "، ومراهنة كل منهما على اخلاص وحب دايزي له، وانكشاف علاقة الحب القديمة ما بين جاتسبي ودايزي، ومع اصرار توم على خصوصية علاقته بزوجته ومحبته الشديدة لها، كما انه يجد الفرصة سانحة لكي يكشف للجميع أكاذيب غاتسبي حول مصدر ثروته، وشكه بأن جاتسبي ما هو الا مجرد "مجرم" متستر جمع ثروته الهائلة من عمليات تهريب الكحول ونشاطات "غير شرعية" اخرى، وتبدو هذه المكاشفة الصريحة والخطيرة وكأنها قد استفزت جاتسبي لأبعد الحدود، فينفجر غاضبا، ويكشف مضطرا عن أصله الفقير المتواضع، وعن التقاءه بالصدفة مع ثري عجوز اسمه " دان كودي "، حيث قدم له خدمة بانقاذ حياته من غرق محتم، وحيث يرد له هذا الأخير الجميل باصطحابه برحلة بحرية، معلما اياه أساليب الثراء ودهاليزه، وربما يكون قد مده بالبداية ببعض المال ليبدأ رحلته العصامية المثابرة ...وهنا تنكشف مشاعر دايزي "النسائية" المترددة (الخبيثة التي تستغل احسن ما في الرجلين المتنافسين على حبها!) والتي تبدي فجأة تمسكها بزوجها وكأنها ترفض عرض جاتسبي بشكل غير مباشر ! ثم يرتب توم رحلة العودة ل "ايست اييغ"، ساعيا بدهاء لارسال زوجته منفردة مع جاتسبي ... وعندما تصل سيارة " نيك وجوردان وتوم" الزرقاء لمنطقة "وادي الرماد"، يكتشفون أن سيارة جاتسبي الصفراء الفارهة قد صدمت وقتلت بالخطأ "ميرتيل" (عشيقة توم السرية)! وعندما يهرعون رجوعا لجزيرة " لونغ أيلاند " يعلم نيك من جاتسبي بأن دايزي هي التي كانت تقود السيارة عند صدمها لميرتيل التي قفزت فجأة بفزع امام السيارة المسرعة، ولكن جاتسبي "الخلوق المحب الشغوف"، يتعهد بأن يتحمل هو شخصيا مسؤولية الحادث المأساوي ! في اليوم التالي، يقوم توم باخبار جورج (صاحب الكراج زوج ميرتيل العصبي الأحمق) بحيثيات القصة ساعيا لتحريضه بخفاء للانتقام من جاتسبي، ومبينا له بأن جاتسبي هو الذي كان يقود السيارة، ملمحا بمكر مما ساعد جورج المسكين "الحانق العصبي" لأن يستنتج بأن جاتسبي ربما يكون أيضا العشيق السري لميرتيل، ويجهز هذا الأخير مسدسا ويتسلل لقصر جاتسبي خلسة، فيقتله غدرا وهو يهم بالسباحة، ويقدم بعد ذلك على الانتحار!

ينظم نيك المخلص جنازة لائقة حزينة لصديقه جاتسبي، منهيا علاقته مع الجميع ومع جوردان، وينتقل راجعا لميدويست للتهرب من ملاقاة هؤلاء الأثرياء "الانتهازيين –الكريهين –المقززين" اللذين كانوا يحيطون بجاتسبي ويحضرون حفلاته الصاخبة، ثم انفضوا عنه بمحنته ... وقد انكشفت له حقيقة الخواء والفراغ الروحي والانحلال الخلقي الذي يتميز به هؤلاء الأدعياء التافهين ...ثم يستنتج نيك أن حلم جاتسبي الرومانسي الجارف باعادة لقائه بدايزي وتجدد الحب بينهما، ما هو الا وهم وخيال أفسده المال والخيانة والتردد "النسائي" الماكر والمصالح الذاتية، وكذلك بأن الحلم الأمريكي الخاص "بالسعادة والفردية وانتهاز الفرص والبطولة" قد ذاب وضاع وتحلل ضمن مفهوم الثراء الباذخ الاستعراضي والمنفلت اللأخلاقي ...وبأن عظمة جاتسبي تكمن حقيقة بقدرته الفائقة واصراره العنيد على تحويل الحلم لحقيقة مع أمل جامح وبمثابرة يحسد عليها، ثم يستنتج نيك بحزن وشغف وحنين بأن عهد الأحلام قد ولى بلا رجعة : حلم جاتسبي ووهم الحلم الأمريكي على حد سواء!

فيلم عظيم لرواية عظيمة!

يبدأ الفيلم بنصيحة قيمه يقدمها لنا الراوي (الممثل توبي ماجواير) عملا بنصيحة والده القديمة : "لا تنتقد الاخرين أبدا، بل فتش عن أحسن ما فيهم" ! كما ان نيك كاراواي يقدم نصيحة ذهبية اخرى لغاتسبي " ليوناردو دي كابريو" عندما يعلم بنيته اعادة احياء غرامه القديم مع دايزي (الممثلة كاري موليغان) : "لا تحاول ابدا احياء الماضي"! ولكن جاتسبي الواثق بنفسه وامكاناته وبحب دايزي له يرفض مصرا على قناعته ليواجه مصيره القاتم!

يلعب "توبي ماجواير" دورا لافتا "كراوي للحكاية وكاتب مستقبلي واعد"، ويؤرخ لفترة هامة في عشرينات القرن الماضي تشمل بدايات الكساد العظيم وتداعيات الحرب العالمية الاولى، فقدان القيم وانطلاقة موسيقى الجاز الرائعة و"أرصدة الأسهم المالية" في بورصة نيويورك، ويقدم باز لورمان مخرج الاستعراض القدير رواية الكاتب الشهير "سكوت فيتزجيرالد" باسلوب مميز حافل بالاستعراضات الغنائية الراقصة الفريدة بجانب رهافة وحساسية اخراجية تضج بالأناقة والشاعرية والشغف الوجودي والحنين للماضي، ويبدو وكأنه فهم تماما مغزى الرواية الكلاسيكيبة وتمكن ببراعة من تحويلها لعمل سينمائي شيق ومتألق ومؤئر، مع استخدام جيد للحبكة الدرامية—الرومانسية التي تركز على اختيار دايزي ما بين جاتسبي العشيق الولهان المخلص وتوم الزوج المحب "المتملك" الثائر لكرامته، والذي لا يريد ان يفرط بزوجته! بقي أن نبحث عن اليهود في أي عمل كلاسيكي غربي مميز، فنجدهم هنا بصورة نمطية دالة تتمثل ب"ماير فولفشين" صديق جاتسبي القديم،الكهل الثري المقامر الجامح والذي ربما ساعده على تكوين ثروته الهائلة، وقد ظهر مرتين في الرواية، لكنه رفض متجاهلا حضور جنازة جاتسبي، وما لفت انتباهي هو ظهوره هنا في الفيلم كزعيم عصابة أنيق ماكر وليس كرجل أعمال!

هذا الفيلم الممتع الرائع يلفت الاهتمام لنشؤ مدرسة اخراجية تعزى لنمط "باز لورمان" الفريد بالاخراج (تماما كمدرسة هيتشكوك الاخراجية)، التي تضىء دوما بالدهشة الاستعراضية-الموسيقية التي تأخذ بالألباب، والتي تتضمن طروحات سياسية- اقتصادية-اخلاقية اجتماعية ونفسية تتراوح ما بين تداعيات نهاية الحرب العالمية الاولى المأساوية، وبدايات الكساد العظيم، وتشريعات تحريم الكحول، والثراء الباذخ الهائج والعصامية الخلاقة، ثم العلاقات الجامحة والرومانس والخيانة الزوجية، وصولا للطموح والأمل، مع تعمق استثنائي وسبرلدهاليز نفسية البطل الفريدة "غاتسبي"! وأخيرا تسليط الأضواء المركزة على "الصداقة الحقيقية النزيهة والمخلصة "، والتي ظهرت هنا كأهم قيمة اخلاقية انسانية نادرة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى