الأربعاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

ساحل البحر

الشرقيون غالباً ما يعيشون حياة ليست مغلوطة فقط، بل مخلوطة أيضاً؛ لأنهم ليسوا بحاجة لمن يقنعهم، بقدر من يأمرهم؛ والكثير من رجالهم كأطفالهم، لا يعرفون في حياتهم غير اللهو والتهريج؛ والمصيبة هنا: هؤلاء غالباً ما يكونون من أهل المدن، فما بالكم إذن، بمن يسكن الجبال والتلال؟!

ما أن أنهوا سباحتهم على ذلك الشاطئ الرائع المستوي النظيف الذي تلمع حبات رمله كالزجاج الناعم، وهو يعرض صدره عارياً لأشعة الشمس الملتهبة من نهار حزيران في دبي، وكأنه يتشمس هو الآخر مثلما فعلوا مذ قليل؛ حتى غيروا ملابسهم وتهيؤوا للرجوع إلى فندقهم قافلين...

كانت زمرة جميل تتكون من ثلاثة أفراد والريح رابعهم، تلعب معهم، ترشقهم بعفوية ساحرة، تدفعهم، ترجعهم، تقذفهم كأمواج البحر بشكل متدافع، متوالِ وهم لا يستطيعون حيالها رداً، سوى التمرد الغشيم الذي لا ينفع، بوقفتهم وهم ينتظرون سيارة أجرة تقلهم...

وبعد وقفة قصيرة على الرصيف... شاهدوه يسير ببطء شديد كأنه يحبو بسيارته، ثم توقف بحذر فأعطاهم انطباعاً أنه يجهل أصول القيادة؛ مد جميل رأسه من نافذة الباب الأمامية المفتوحة حتى النصف وأعطاه قصاصة ورق صغيرة تحمل عنوان الفندق الذي فيه يقيمون... قرأها السائق وأشار لهم بيده اليمنى المحروقة اللون بالصعود دون أن ينبس ببنت شفة، فاعتقدوا من الوهلة الأولى بأنه أخرس، أو لا يجيد من الكلام سوى رد السلام...

كان السائق متيناً، بشعر أكثر سواداً من القير، له شاربان بانا متصلبين كقصبتين إذا لويتهما انكسرتا، سبحان الخالق، كيف استطاع هذا (المقرود) أن يصنع بشاربيه كل ذلك؟ محروق البشرة- كما نوهت- كبقية شعب الأمارات الأجنبي الذي يعيش هناك، وهناك لا تجد عربياً بسهولة، وهذه معجزة بحد ذاتها!!

ما أن غاصوا في السيارة... حتى تكلمت عينا السائق بمرارة قبل أن ينطق لسانه بحزن مهمهماً، مقتضباً بلغة إنجليزية ملتوية، مخلوطة بمفردات عربية مأكولة، منقوصة وغير مكتملة، دون مقدمات بالسؤال، وكأنه يمتحن صوته:

في أي جهة يقع فندقكم؟! ثم صمت وهو يتلفت نحو البنايات المحاذية للشارع كأنه ينوي شراءها.
 هنا!! ثم أضاف جميل لجوابه المختصر مترنماً بشعور سائح رجع للتو من البحر:
أقصد، لا يبعد من هنا كثيراً؛ لكن في أي جهة؟ لا أعرف بالضبط، فنحن هنا منذ يومين فقط.
 زفر بحرقة متذمراً، مشاكساً، ناحباً وبكلمات غير مفهومة، محاولاً إضفاء مقدار كبير من العمق أو الرزانة على صوته، ولم يفلح فظهر مخدوشاً:

نعم، سأعتني بكم جيداً!! لا تقلقوا وحق الكتاب ويوم الحساب والخائف يبحث عمن يحميه! ثم تابع قيادة السيارة بارتباك ظاهر وهو مازال يتلفت وكأنه يلتقط بعينيه صور الأرصفة والشوارع!! وبعد فترة صمت وجيزة ناح وباح مستدرجاً بتضرع أقرب إلى التوسل، بطريقة لا تخلو من مكر أو براعة، وبصوت يثير الرعب، منفر للغاية كمن تلقى للتو خبر وفاة عزيز على قلبه وهو يمسح بنظراته وجه الأرض وما عليها مسحاً:

استرنا في الدنيا، ونجنا من عذاب الآخرة يا رب، اللهم أحسن ختامنا يا أرحم الراحمين!! ها أنا قد قلت، عسى أن تنفع الذكرى!! وتابع منغصاً الجو الذي تشبع بكلماته الغريبة المرعبة بعد أن غادره الهدوء والصمت اللذان كان يختفي وراءهما، فتفتحت أساريره للدعاء والهجاء وتحول فجأة إلى بشر من نوع آخر، وبنبرة صوت جديدة، بانت وكأنه يسعل بذل:

يا لطيف، أشم رائحة الجنة وكأننا نبعد عنها أمتاراً قليلة!! يا حفيظ... كفرة ودماؤهم مستباحة!! سأجعل وسيلتهم الوحيدة في الدفاع عن أنفسهم، دموعهم فقط! ثم ختم جولته بلجوج وتهور:

أغلق الله أبواب الجنة في وجوههم، وفتح أبواب جهنم لهم على مصراعيها... أمين يا رب العالمين وضحك برعونة دون سبب واضح، فتسكعت ضحكته، ماجت وهاجت ودارت داخل السيارة...

فتدخل جميل وقطع عليه ضحكته المتسكعة ودعواته الملتهبة، كاظماً غيظه بصعوبة، وهو يشعر بقشعريرة، بعد أن أفاق على نفسه، فأصبحت لهجته حازمة، آمره:

إنك تخيفنا بدعائك هذا، لقد أرعبتنا، ثم برنة صريحة لا تقبل التأويل:

هل لكَ أن تفصح؟ أعني، ما وراءك؟!

 نادباً بنبرة مترجرجة:

قل ما أمامك!! على بركة الله يا أصيل يابن الأصول... وتابع ابن السفاح بصوت مقلق ومستثار أشبه بالاحتجاج:

غيرة الدين وعار الجبين! اللهم نج المؤمنين شرور الشياطين!!

زاده رده ابن المتمردة وجوماً وخوفاً، فركبهم الذعر حتى هاماتهم وكأن عفاريت الجن كلها فجأة قد لبستهم... وبدأت زمرته التي ترافقه تتهامس بعبرات متوجسة، مخنوقة، فتشجع كاسراً طوق الارتباك والرهبة وسأله متمعناً برغبة قوية مستبدة لفهم كلمات التحريض التي تمخر مترنماً بها مذ قليل:

دع عنك الأصالة وقل لنا:

ماذا تعني بقولك؟

 بحمية أقرب إلى التضرع والدعاء، ورأسه يهتز ويميل شرقاً وغرباً بحزم، كعادة متأصلة به:
سأحرص عليكم كبؤبؤي عينَيَّ، إن الله حق، انتظر يا صديقي وستعرف بنفسك كل شيء!!
 دغدغ جميل تصميم حاقد جعله يجيبه منفراً وهمس بصوت خفيض:

خسف الله الأرض من تحتك، ثم رفع درجة صوته وأضاف:

أعرف ماذا؟

 ابتسم بحزن وقال بصوت مخذول وبطريقة فلسفية غامضة:

بابا، أغصان الأشجار في الخريف تبدو وهي عارية كالأعلام الممزقة لجيش مهزوم!! وتابع برنة سمعها جميل مجروحة:

إذ يمكن للكلمات أن تشعل أضخم النيران وتفجر أكثر براكين الأرض خمولا!! ثم أنهى جولته بقوله: لابد من ثمة وهج، الصبر مفتاح الفرج، كما يقول إخواننا العرب!!

شعر المغلوب على أمره صاحبنا بحرارة المنازلة، فسعرت غرائزه خبثاً، وتاق لمجادلته نثراً:
عليك أن تجيد الصمت حتى لو كنت بارعاً في الكلام!! وإذا كانت كلماتك لها طابع فلسفي قديم، عليك أنت تعرف، الماضي هو المحرض لارتكاب الكثير من الحماقات في الحاضر!! هل سمعت؟ وهو يركز على الجملة الأخيرة للتأكيد... الكثير من الحماقات في الحاضر!! ثم عبر له عن غضبه الذي وخزه كوخز الإبرة في القلب:

لكنني لم أعد أطيق الصبر، ولا نفسي، وما أريده هو أن نصل إلى فندقنا بسلام فقط، هل هذا كثير؟!

 ابتسم لأول مرة منذ صعودهم معه، فانفرجت شفتاه ببلاهة ظهرتا متهدلتين وهو يفتح عينيه إلى أقصى مدى وهو يقول بطريقة أبعد عن التفاهم:

طبعاً حبيبي كثير!! ماذا تتوقع؟ وتابع بانشراح غير حقيقي وهو يقطب حاجبيه كالشيطان الغاضب، وشارباه الجامدان، المتصلبان، القاسيان، كالمبرد الخشن لا يهتزان قيد شعره:
سنصل، ادعُ الله وسنصل، بإذنه وتعالى... ثم همس مستدركاً، مندفعاً:

في الحقيقة، أعني... معذرةً، أنا، في يومي الأول من عملي كسائق لسيارة أجرة!!
لم يعر لجملته أي أهمية، وتصوره يمزح معهم، أو يلاطفهم بجنون وفنون شرقية، سحرية فيها متعة ولذة، تغيراً للجو أو دفعاً للتوتر، فعقب على كلامه برنة غير حازمة:

يا رجل، قل كلاماً آخر... ثم ضحك جميل وغير موجة صوته، حيث رفعها قليلاً وبدأ يسامر الفريق الذي معه، وتحدثوا عن أشياء لا تخص الرحلة، وطال فيهم الأمد، وهم مازلوا جالسين بالسيارة، وكأنها المهد... تهزهم، تدور بهم، تمررهم في شوارع وساحات وأرصفة وأشجار وأجواء غريبة لم يروها من قبل في دبي... والسائق ابن ضاربة الودع يمسك بمقود السيارة بقوة كأن الأخير يريد منه أن يطير، وعينياه شاخصتان، قلقتان وينز بدنه برائحة- لا حول الله- لا تطاق، تثير الأعصاب!!

مضى فيهم دهر وهم يدورون كثور الساقية، ولم يعرفوا وقتها أين هم، أو حتى إن كانوا أصلاً في دبي!! فسأله جميل بلهجة أكثر حرصاً عن ذي قبل:

ترى أين الفندق؟ أقصد، أين نحن الآن؟ هل لكَ أن تخبرنا؟ ثم تابع بانفعال بعد تذكر بأنهم حينما ذهبوا إلى الساحل لم يستغرق الوقت أكثر من اثنتي عشرة دقيقة، وبالتالي فالرجوع يجب أن يكون كذلك، وما أن توصل إلى هذه النتيجة الخطيرة، حتى سأله بصرامة:

هل تعرف إلى أين نحن ذاهبون؟!

 بإيقاع واندفاع:

لا!!

 ببرود قاضماً في قلبه الغضب واللهب، والكلمات تخرج من بين أسنانه:

ولماذا تستمر في القيادة وأنت لا تعرف إن كنا في دبي الآن أم في الشارقة؟!

 يا رحمة الله... بابا العلم عنده، علام الغيوب، إلا تعلم ذلك؟ كيف هذا؟ سبحان الله في خلق الله!! ثم أخذ نفساً عميقاً وكأن قضية مهمة تشغله، والعرق يتصبب من وجهه المحروق فزاده توترا وارتباكا والروائح التي كانت تنفذ من بدنه أصبحت فجأة قاتلة لا يمكن الصبر أو السكوت عليها...

 قذف الله بجثتك من حافة جهنم دون ندم، ثم بحزم كأنه يريد أن يسيطر على توتره والجو المشحون بالقهر والريبة:

هل أنت مجنون يا هذا؟

 منْ أنا!!

 رد عليه جميل مستهجناً، حانقاً:

يا الله... ما هذه الشرور التي تلبسها؟ أسري الله في بدنك رعشة الخوف قبل الموت، ثم أجابه مقتضباً: ومن غيرك أتكلم معه؟ وصرخ به بهوس بعد أن أفقد ابن المدللة أعصابه:
أما أن تقول لي أين نحن الآن؟ أو تتوقف!!

 بغباء لا يمتلكه حمار أعرج: لقد قلت لكم، علينا تصحيح الأوضاع قبل الضياع ولم تصدقوني!!
 بلهجة حاقدة ثغا: يا حفيد إبليس، لوى الله عنقك كما تلوى الحبال ثم يقطع رأسك كما تقطع قطعة الجبن عند الإفطار، أي أوضاع وأي ضياع تتحدث عنه؟ نحن نريدك أن تقلنا إلى فندقنا، ولا شيء غير ذلك!!

 هادلاً: وأنا أريد ذلك أيضاً، عجباً!!

 بجهل وبجنون: وما المانع إذن؟

 بجدية زائدة: لقد قلتم لكم ولم تصدقوني!!

 نصدق ماذا؟

 أنه اليوم الأول في عملي كسائق لسيارة أجرة!! ثم سكت وهو يجر ويعر بمقود السيارة وكأنه خصمه اللدود!!

 لكننا هنا مجرد سياح، ومسألة الطريق لا تهمنا كثيراً، ومن ثم لماذا نستقل سيارات الأجرة؟ أليس لتوصيلنا إلى حيث ما نريد دون أن نجهد أنفسنا أو نكون على معرفة بالطريق؟
 بالتأكيد يا عمنا، لكنني الآن في ورطة، فأنا لا أعرف بالضبط أين نحن!! بل لا أعرف كيف أرجعكم من حيثما نقلتكم!!

 زمجر به بشراسة هادراً: توقف!! ثم كرر الكلمة بصوت انفجر في السيارة كالقنبلة:
قلت لكَ، توقف...

ترجلوا من السيارة وهو ينظر إليهم بعينين منكسرتين وزمرة جميل تنصح الأخير بأن يعطيه قليلاً من المال لقاء وقته وجهده...

لكن جميل كان مصراً على أن لا يدفع له شيئاً حتى لو اضطر بإتيان الشرطة لاستجواب هذا المعتوه الذي يطلب من السياح أن يوصفوا له طريق هدفهم!! أو أن يدلوه عليه!!

وبدلاً من يدفعوا ستة عشرة درهماً كما للساحل حينما ذهبوا، دفعوا مائة وسبعين درهما لقاء عودتهم، لأنهم فيما بعد عرفوا...

كانوا يدورون حول نقطة قريبة من إمارة رأس الخيمة!! قصف الله رقبته، المنحوس ابن التائهة، تلك التي لم يسر أحداً وراءها، ساعة مماتها، لأنها أنجبت هذا الأصيل ابن الأصول كما كان بالجملة يتغنى يقول ويصول، الذي كلفهم المال والأعصاب!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى