الاثنين ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم عبد المنعم محمّد خير إسبير

مشهد من الحياة

أبنــــائي و بنـــــاتي

فيما أنتم على مقربة من الامتحانات السنويّة أتمنّى لكم النجاح فيها، لتردّوا الجميل إلى أمّتكم، ومجتمعكم، ودولتكم، وأساتذتكم، وأهليكم، على ما قدّموا لكم لتَعلَوا في المستقبل علوّاً كبيرا.

إنّ أمّتكم ووطنكم ومجتمعكم ودولتكم، بحاجة إليكم في المستقبل القريب يا جيل المستقبل، بحاجة إلى أفكاركم النيّرة، إلى أخلاقكم ، إلى علمكم وعملكم وتعليمكم، فلقد قال أحد أنبياء الله:
( من تعلّم، وعمل بما عَلِم وعلَّم،عُدَّ في الملكوت الأعظم عظيما ).

فأمّتكم ومجتمعكم ودولتكم، لا يَرقَوْنَ إلاّ معكم، ولا ينحدرون إلاّ بكم، فأنتم البُراقُ الصّاعد الذي يصعدُ بهم إلى الدرجات العُلَى إن كنتم الأعلَوْن، وأنتمُ الدّافعُ الّذي يدفع بهم إلى الهاوية إن كنتمُ
الأدنَوْنَ (لا قدّر الله ). فهل أحسنتم لهم بإحسانكم لأنفسكم في الجدّ والاجتهاد، وهل فكرتم وأنتم تقفون على مفترقِ طريقٍ حاسمٍ يقرّرُ حال مستقبلهم ومستقبلكم؛ سعادةً أم شقاء!

إنّ أساتذتكم؛ معلّمين ومعلّمات، همْ رُسُل العلمِ والتعليم والتّربية، يَضعون حصيلة ما اكتسبوه من علم وفِكر خلال سهر طويل وسيرٍ عسير، قضّوْهُ في طلب العلم، حتّى وصلوا إلى سُدّةِ ما قيل عنهم: (كاد المعلِّمُ أن يكون رسولا). كما جاهدوا لتكونوا نباتاً حسناً في أرض وطنكم،فهل وفّيتم جميلهم فأوفيتم، واحترمتم عرق علومهم وفِكَرِهم وجهادهم ، باحترامهم واحترام كتُبُهم ومؤلَّفاتهم،في فهمها وتعلّمها والحفاظ عليها في صدوركم وعلى رفوف مكتباتكم؟.

وإنّ آباءكم، هم مِهاد الرّحمة لكم، وأحضان العطفِ عليكم، والمضحّون في سبيلكم، أسقَوْكمْ رحيقَ جهادهم من أجلكم، لتكونوا لهم ظِلاًّ ظليلاً في رمضاء الحياة، ووسام عزٍّ وفخار بكم فهل أحسنتم لهم وتحسنون؟.

وقبل كلّ أؤلئك، هو الله، الّذي ينظرُ إلى جهادكم في العلم والعمل قائلاً لرسوله الكريم: (وقلِ اعملوا فسيرَى الله عملكم ورسولهُ والمؤمنون)، فهل أنتم راغبون بنظرة الله لكم ورسوله والمؤمنين لما تعملون خيرا؟، ورضائهم عمّا تعلمون ؟.

إنّ أول كلمة قالها الله لرسوله الكريم: اِقرأ، (إقرأ وربِّكَ الأكرم، الّذي علّمَ بالقلم، علّمَ الإنسانَ ما لم يعلَم) كما أنّ الله أقسمَ في كتابه بالقلَمْ، (ن، والقلمِ وما يسطُرون)، فكيف إذا شاهدنا يوماً أحدهم يستذلُّ القلم الّذي سَطَر، باستخفافه بما كرّمَ الله بهِ فأقسَمْ، كما وعصى الله بما أمر به نبيّه فامتنع أحدهم عن متابعة ما كُتِبَ وماقرأ؟.

تعالوا معي إلى مشهدٍ، بل مشاهد أليمة تترى ونراها بأعيننا، فلا تلقَى منّا اهتماما ولاتُلقي في نفوسِنا همّاً وحَزنا:

بينا أنا ماش في طريقي إلى وجهتي، رأيتهُ قرْبَ حاويةِ قمامة! يحمل مجموعةَ كتب مدرسيّة، منها المستعمل ومنها جديدٌ لم تمسسه يدْ! فرمَى بها إلى جانب القمامة، وتابع سيره بدونها.
اقتربتُ منه مسَلِّماً وسألته:

ــ أراك نسيتَ كتبكَ يا ولدي!

ــ أجابني من غير ردٍّ على سلامي :لا لمْ أنسَها بل رميتها.

ــ ولمَ يا ولدي.

ــ فصَفَقَ يداً بيد: ألا يكفي؟ خلصنا وجاءت العطلة .

ــ وممّن خلصت؟!

ــ من الدراسة، أما آنَ لنا أن نرتاح؟

ــ آن لك أن ترتاح يا ولدي. هذا شئ طبيعيّ وضروريّ. ولكن ما ذنب الكتب تلك، لتتخلّصَ منها؟

ــ عمّي دعني وشأني، لقد تأخّرت على موعد لعب الكرة!

ــ أنصحك يا ولدي أن تحتفظ بها في مكتبتك؟

ــ فردّ ضجراً: (كمان)؟؟؟

ــ نعم يا ولدي.

ــ عمّي دعني فليس عندي مكتبة أصلاً.

واستدار ليتابع سيره، فاستوقفته،

ــ أريد أن أسألكَ سؤالاً فاحتملني يا ولدي فأنا بعمر أبيك ولا أبغي بك إلاّ الخير.

ــ بهدوء وطمأنينة أجاب: تفضّل يا عمّ من أجل خاطرك سأتخلّف عن موعد الكرة.

ــ أريد سؤالك. أمّك التي حملتك ، وربّتكَ وعلّمتك طوال عمرك، هل تجد من العدل والوفاء أن ترمي بها إلى الشارع؟

ــ أعوذ بالله. كيف أفعل ذلك، أستغفر الله، لا يمكن أن أفعل ذلك.

ــ ولكنّك فعلْتَ بمثيل، له عليك حقّ كما لها؟!

ــ كيف يا عمي؟!

ــ بالكتب تلك. فأمّك هي من لحم ودم، وكتبك من ورق وتكاد تكون من لحمٍ ودم.

ــ كيف؟! فرق كبيرٌ بين الطرفين.

ــ الفرق بينهما قائم في نوعيةَ الظّاهر، ولا فرق بينهما في نوعيّة المضمون. فإذا تبصّرت ببصيرتك في أعماق أوراق الكتب وخلف سطورها، لوجدت شخوصاً إنسانيّة فكريّة تربويّة، قدّمت لك علمها وتفكيرها وأفكارها على أطباق من ورق طُبعتْ بعرق جهادهم. تلك الكتب التي رميتها، علّمتك كأبيك، وربّتك كأمّك، فما أحسنتَ وما أوفيت. وما احترمْتَ قيمة المعلّم الّذي لقّنك إياها وأفهمك محتواها، فرميت فِكراً وعقولاً ومربّينَ وأساتذة في موقع تستحقّه أنت ولا يستحقّونه همْ. فهل تسمح لي يا ولدي أن أنتشل كتبك لأحتفظ بها في مكتبتي، فقد تنقذني في موضوع نسيته فأرجع إليها.

ظلّ الفتى الطالب صامتاً طوال حديثي، مُطرقاً مُفكراً ثم أجابني:

ــ سامحني يا عمّي، دع الكتب لي ، فقد ظلمتها وظلمتُ نفسي، كما ظلمتُ كلّ من كانوا بها وخلفها، وسأضعها في مكتبتي، أمّا علب الفيديو والأقراص وغيرها، فأعدك بأنّني سألقي بها في القمامة.

ــ على أن تكون العلب ملآى لا فارغة.

ــ فأجاب ضاحكا: طبعاً

ــ بارك الله بك ياولدي. أنت وكلّ جيلك قمرٌ منيرٌ في ليلية خريفيّة، تحجبه غيوم متحرّكة لابدّ أن تنقشع.

ــ ولكن من أنت ياعمّي.

ــ أنا؟ أنا إنسانٌ ناصح أمين ياولدي، علمتني أخطائي ومازالت تعلّمني ، وممّا تعلمتُ أنصحُ به الآخرين.

فاذكروا دائماً: مَنْ لا يزرع بالقلم، لايجتني إلاّ الألم.

واذكروا دائماً: أنّ من يقرأ، لا يغرق


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى