الخميس ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٤
بقلم فايز مشعل تمو

ممنوع عليك

كان منظرا مرعبا والظلام يعانق الأرض عناقا يبدو أبديا، حتى أنني لم أكن أرى ابعد من أرنبة انفي وأنا أمشي وأقلب بين صفحات عقلي عن الحجج والذرائع لأسكت بها قلبي الذي صار يضرب نفسه بضلوعي من شدة الخوف حتى حدث ما كنت أخشاه، نعم يا أمي، ربما كان كابوسا.

 خيرا إن شاء الله فماذا رأيت يا ولدي؟

 لا تستعجلي يا أمي، هل أنت موظفة في الحكومة لأن الموظفون والحكومة كلها أصبحت على عجلة من أمرها في كل شيء، حتى في إصدار قوانينها، كما انهم إذا اخطاؤا لا يعتذرون يا أمي، أتعرفين لماذا لأنهم لم يعتادوا الاعتذار من أحد بل اصبحوا يعتذرون بطريقة اسهل لهم وذلك بإصدار قوانين أخرى ربما يظنون بذلك انهم يصلحون ما أفسده القانون السابق، ولكنهم يلحقون أضرارا اكثر من ذي قبل، لذلك لا أريد منك أن تكوني مستعجلة، حتى أنا كنت مستعجلا في الحلم عندما حكمت على الرجل الذي شاهدته، ولكنه حقا كان رجل غريب الأطوار يا أمي بثوبه الأبيض، ولحيته التي تشبه عش طائر، وعصاه التي يفوق طولها طول صاحبها، حتى إني حسبته قبل أن ينطق بأي كلمة، أحد الملائكة وهو يتقدم نحوي ليفصل روحي عن جسدي، لأنه يظن أنها ما تزال تسكنه، لقد كان شيخا غبيا، لو حسب ذلك أو انه ليس من سكان الأرض، لان الروح تغادر الجسد مرة واحدة، ولقد غادرت روحي وروح من مثلي منذ استوطن هؤلاء الحكام بلادنا، ومن لم تغادره روحه مع هذا كله تكون قد غادرته لتستنشق هواء نقي لأنها سئمت من استنشاق الكيماويات، آه يا أمي، صدقيني أريد أن اكمل لك الحلم، ولكن هذا الشيء الذي يسكن حلقي لا يسكت، أحس انه مكبل بأسناني، وهو أيضا يتطلع إلى الحرية لشدة تمرده علي صرت أخاف أن افتح فمي فيتفوه هذا اللسان بما لا يسر غيري، صدقيني أحيانا كثيرة تمنيت أن أكون أخرس يا أمي، نعم لا تستغربي ذلك، لأنني صرت أخاف أن أحدث نفسي في الليل فأنا إما اشك في نفسي أو في لساني لأني أخشى أن يتحرك وأنا نائم، هذا كله لا يفيدك أنتِ، سأكمل لكي الحلم، تراكي متعطشة لسماع ذلك الحلم المزعج، وأنا متعطش كلساني لأشياء كثيرة.

 مثل ماذا يا بني؟

 أهمها الحرية يا أمي، نعم الحرية، لأنه في هذا الزمن أصبح كل شيء مقيد كلساني، حتى الطيور لم تعد تسعها السماء، أتعرفين لماذا؟؟ لان الهواء نفسه هرب من هذا الفضاء الواسع اللانهائي، هرب بحثا عن الحرية، ونحن ما زلنا نحصد ما تزرعه هذه الحكومات الفاشية، لا أريد أن أعكر صفوك بأخبار كهذه لآني أن فتحت فمي بأكثر من ذلك ربما قطع لساني فعلا، لذلك دعيني أكمل حلمي مع ذلك الرجل، تقدم الرجل مني بخطوات ثابتة، خفت كثيرا، فكرت لبضع ثوان أن اضربه إذا لمسني أو اقترب مني اكثر، كان مرعبا يا أمي، تخيلي ذلك الظلام الدامس وبقعة مضيئة تتقدم نحوك، كان ينير كل شيء من حوله، لم يبقى سوى بضع خطوات بيننا، امسك يدي، شعرت أن أعضائي شلت، وقال:

 لا تخف يا بني فليس هناك ما يخيف، اسمي الشيخ جابر لقد فقدت طريقي وارجوا أن تدلني على الطريق.

 أحسست بشيء من الارتياح لأول مرة في حياتي، كأنه كان صادق بعض الشيء، ابتسمت وأنا ارتعش وقلت: لا ادري كيف أعرفك على نفسي.

ماذا تعني؟

 اقصد، أنا مثل أي قرية أو مدرسة أو مزرعة جميعنا نملك اسمان، واحد يستعمل في الدوائر والمكاتب الحكومية، والأخر يستعمل بين الأهل والمعارف فقط.

فقال وهو يضحك:

 لا تخشى شيئا اخبرني كل ما تريد فنحن غدونا أصدقاء.

مشينا سوية في ذلك الليل الذي ليس له مثيل، ولأول مرة منذ تعلمت الكلام، ليتني لم أتعلمه، أطلقت العنان للساني مع ذلك الرجل، وبدأ هذا اللسان المكبوت يخرج مخزون عقلي وقلبي معا، يخرج كبت سنين من القهر، أخبرته كل شيء من اعتقالات وإجراءات ظالمة، وعندما أنهيت كلامي، زال نور الشيخ، ونزع قناع الخير، ذعرت لما رأته عيناي، خفت، ارتعشت، هاج قلبي ولم يعرف للسكون معنى، أحسست بموجة قوية من الغباء تجتاح عقلي، خبأت لساني المسكين في فمي، وفهمت بعد فوات الأوان انه قناع ملائكة، ذلك الرجل لم يكن رجلا، كان وحشا، ساحرا، أ.. ….، ضحك، قهقه كثيرا، ثم قال:

 وقعت يا غبي، وقعت دون تعب.

 أرجوك يا سيدي لم افعل شيئا، انه لساني ….

قاطعني قائلا: سأقطعه لك.

شعرت بنسمة فرح باردة تجول في عروقي، ربما لأنه سيقطع لساني، سيقطع ما هو ضروري لغيري وعبء علي، سيقطع ما ليس لديه عمل عندي.

ثم أعقب: ولكنني سأمنحك طلب واحد عوضا عنه، لأنك كنت جريئا.

ابتسمت وقلت: لك ما تريد يا سيدي، فأنا عبد لك ولأوامرك، فأنك بذلك ستحقق لي حلما لطالما حلمت به.

وبسرعة عدت إلى مفكرة عقلي ابحث بين صفحاتها عن شيء مفيد اطلبه ثمن جرأة غير مقصودة وثمن لساني، راودتني فكرة أن يكون لي سجل مدني، ولكن ماذا افعل بالسجل إذا كان اعز صديق لي والناطق باسمي سوف ينفى من عشه، فأبعدت على الفور هذه الفكرة، ولكنها لم تكن تفعل حتى أحسست أن هذه الجمجمة فارغة من كل شيء سوى فكرة السجل، كأنني لم اكن ذلك الكردي الذي لم يجد لحظة فرح في حياته، الذي يعاني من مشاكل عديدة، بحثت كثيرا ولكن دون جدوى، فلم أجد سبيل أخر، فقد فرغ مخزون هذا العقل التعيس، ربما لأنه حزين على فراق صديق له كانا يتحدثان في الليل كثيرا بلغتهما الخاصة، لذلك هو يطلب طلبا تعجيزيا، فوافقت وأنا غير راض عن ما طلبته، فماذا يعني أن أكون مواطن بدون لسان، المهم حان وقت التبادل، أخرجت لساني ليقطعه وأنا انزف دموعا، لما كنت ذرفتها لو مت أنت يا أمي، لا قدر الله طبعا، وجميع أعضائي توقفت عن العمل، كأنها تقف دقيقة صمت لفراق صديقها، مددت يدي لأقبض ثمن صديق عمري، الذي بعته بثمن رخيص وأنا اعرف أن الذين لديهم سجل ولسان لم يفعلوا شيء، كدت امسك السجل، جاء صوتك ليوقظني، كأنك أردت بي أن افقد صديقي بدون مقابل، كنت سأمسكها بيدي وأقرا الجنسية \….،س \ كم كرهتك يا أمي، أخشى أن تكوني معهم، أخشى التحدث إليك، وأنا نادم على ما قلته لك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى