الاثنين ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

طقوس الكتابة

عندما تتوجه لحضور ندوة أدبية بهدف الاستماع لشهادة إبداعية، يستعرض صاحبها مسيرته الأدبية في فن القصة القصيرة أو الرواية أو الشعر أو أي لون من ألوان الفنون الأدبية، فإنما تهيئ نفسك لسماع الجديد و المختلف، الذي يميز كاتبا عن كاتب في تعامله مع نصوصه. كيف يتهيأ للنص و يستقبله، و كيف يمارسه حتى يفرغ منه، و يغادره نهائيا و ينتقل لغيره. و أيهما يروِّض الآخر، و يجعله طوع بنانه و رهن إشارته، أهي الموهبة تفرض نفسها على صاحبها؟ أم أن صاحبها هو من يروِّضها و يسيِّرها، فيوجهها حيثما يريد و وقتما يشاء. و ما هي الطقوس و الأحوال المرافقة للإبداع قبله و أثناءه و بعده؟متى يغزر الإنتاج و متى يشح؟ و ما هي العوامل المؤثرة في ذلك؟

لكن ما يؤسف له أن اللقاء قد يستمر أياما، و يتعاقب على منصة الاعتراف مبدعون كثر، حتى ينفض الاجتماع دون أن نسمع ما يروي غليلا، و لا ما تشوقنا لأن يفاجئنا به كاتب صريح. بل إن معظم ما نستمع إليه من شهادات تسمى إبداعية لا يعدو أن يكون واحدا من نهجين مكررين:

أولاهما: استعراض لمسيرة الفن الأدبي الذي ينتمي إليه منذ بداياته، فمراحل تطوره و تعاقب أجياله حتى اليوم، و موقع الأديب صاحب الشهادة و إسهاماته ضمن هذه المسيرة. و مثل هذه الشهادة يمكن مطالعتها في مقالة أدبية، أو لقاء على صفحة مجلة أو صحيفة، و لا تحتاج إلى لقاء أدبي يجمعك بصاحب النصوص و مبدعها.

و أما ثانيهما: فأشبه ما تكون بقصة رمزية موغلة في غموضها و إبهامها، فكأن أحدا يشكك في موهبة صاحبها، فيريد أن يقدم دليلا على قدرته على فن صياغة الكلام، فيقدم شهادة أقرب ما تكون للطلاسم و الألغاز، بعيدة عن الكشف و المصارحة و التلقائية، و لسان حالها القول الذي صار مكررا: ( أنا لا أكتب النص بل النص هو الذي يكتبني)، فكأنه يجثم على صدره و يفرض نفسه عليه، و ليس له من خلاص منه إلا القيام بإفراغه على الورق، و في هذا مبالغة لا تبتعد كثيرا عن منطق شياطين الشعراء، التي توحي إليهم زخرف القول، و التي كانت معروفة ومشهورة لدى الأقدمين، حتى بأسماء هؤلاء الشياطين و نسبة كل منهم لشاعر معين، فشيطان امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ، و شيطان عبيد بن الأبرص هو هيبد، و شيطان هو هاذر، و شيطان الأعشى هو مسحل، و غيرذلك كثير.

و أعتقد أن في ذلك مبالغة كبيرة، و حرمان للمبدع من شرف المساهمة الفعلية في صنع نصوصه الإبداعية بنسبتها إلى غيره، بل إلى قوى غيبية و مؤثرات خرافية.

الشهادة الإبداعية ينتظر منها السامع أن يجيب صاحبها على أسئلة محددة تفيد السامعين، و تقدم لهم جديدا و مختلفا من شخص لآخر. و من ذلك مثلا:

متى و كيف بدأت رحلتك مع الكتابة؟

في أي مرحلة من مراحل العمر بدأت أولى تجاربك مع الكتابة، و هل أخذ أحد بيدك و دلَّك على معالم الطريق؟ أم ولجته منفردا و واصلت سيرك وحدك؟

كيف شققت طريقك إلى عالم النشر في الصحف و المجلات؟ أبالكفاءة و الجدارة وحدهما، أم بالواسطة و تقديم أحدهم إياك إلى محرري الصفحات الأدبية؟ و هذا اعتراف يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة لا يملكها إلا قليل.

كيف تواتيك ساعة الكتابة؟ و في أي أحوالك يواتيك الإلهام؟ هذا إذا أقررت بوجود إلهام أصلا. و في هذا تختلف أحوال الكتاب و الشعراء و مواعيد لقاءاتهم بنصوصهم و حالاتهم أثناء تلقي تلك النصوص.
بعضهم لا تواتيه الفكرة، و لا تنقدح في ذهنه شرارة الإلهام إلا ماشيا . يجب أن يسير على قدميه طويلا ، فلا يتفتق ذهنه عن الفكرة أو القصيدة إلا و هو يسير، و حتى يجد نفسه يحدث نفسه بالنص من أوله لآخره، و بعدها يجلس ليدون ما توارد في خاطره أثناء سيره. لقد اعترف جبرا إبراهيم جبرا أن معظم رواياته ما كتبها إلا بعد جولات طويلة سيرا على قدميه في شارع النهر ببغداد.

و السفر شبيه المشي في ذلك. إن الارتحال الدائم و عدم الاستقرار في مكان، هو محرض أخر للكتابة بما يشاهده الكاتب من جديد، و بما يستشعره في نفسه من وحشة الطريق، وإحساسه بالوحدة و الغربة و مرارة الفرقة، و كل ذلك مما يشحذ قريحته و يقدح زناد موهبته، و لو ظل جالسا ما عنَّت على باله فكرة. فالاستقرار في المكان و الانشغال بالأمور اليومية و العلاقات الأسرية و الشؤون الاجتماعية يقطع خيوط الموهبة، و يجهض العمل الأدبي في بداياته أو منتصفه أو قبيل خاتمته، بالانصراف عنه كل حين إلى أمر آخر من الأمور اليومية، و تتابع ذلك و تكراره يؤدي إلى خمول الذهن، و موت الموهبة الأدبية.

و بعضهم يرى عكس ذلك تماما، و يجد في الاستقرار و الهدوء و السكينة واحته التي يأنس إليها، و ينغص عليه أن يغير موضع جلوسه، أو أن يمس أحد أدوات عمله من أقلام و أوراق و دفاتر، و لو لترتيبها و نفض الغبار عنها، فهو يأنس فوضاه و يرتاح لتناثر أوراقه، و لا يستطيع العمل في جو مرتب أنيق، فللناس في ما يعشقون مذاهب.

و كم نود أن نسمع من أصحاب الشهادت الإبداعية عن أثر ذلك على إبداعهم. هل العزلة و الوحدة و الارتحال الدائم من محفزات العمل الأدبي أم من مثبطاته؟ و هل تبعا لذلك نجد لدى كثير من الأدباء و الكتاب عزوفا عن الزواج، أو انفصالا سريعا بعده، أو قلة إنجاب للأطفال، لأن كل ما سبق خصوم للإبداع الذي لا يقبل شريكا و لا منافسا.

و العمل الأدبي نفسه، كيف ينجزه صاحبه؟ بعضهم تبدأ القصة فكرة في ذهنه، و تأخذ تتسع و تكبر أياما تطول أو تقصر، حتى يسير محدثا نفسه، يحس أنه بات يحفظها عن ظهر قلب، بعدها يجلس للكتابة ساعات قليلة، يفرغ بها القصة التي حفظها كاملة و ينتهي الأمر، و بعدها يحتاج لفترة زمنية لنسيانها و إخراجها من ذاكرته، و عدم الوسوسة بها أثناء سيره، و إعداد ذهنه لاستقبال فكرة جديدة.

و بعضهم عكس ذلك يجلس للكتابة خالي الذهن، يولد الأفكار و الأحداث أولا بأول، و يسطر عمله سطرا بعد سطر، يتركه في بداياته أو منتصفه أو خاتمته، ثم يعود إليه و قتما يشاء، فلا ينقطع حبل أفكاره و لا يتغير عليه شيء، فلكل طريقته التي يطوع موهبته لها، و هذا التنوع هو ما نتمنى أن نسمعه من أصحاب الشهادات الإبداعية.

و طريقة إفراغ النص الأدبي و نقله من رأس صاحبه إلى عالم الورق و الأقلام، كيف تكون؟ بعض الشعراء يلهج بقصيدته شطرا شطرا و بيتا بيتا بصوت مسموع، معيدا و مكررا البيت أو الأبيات التي فرغ منها كل حين، كأنما لتستدرج لاحقها و تحفز القريحة على الاستمرار بقوة الاندفاع و الجريان، شأنها في ذلك شأن السيل المندفع، و لعل الجواهري خير مثال على ذلك، فقد كان من عادته أن يحدو بأبياته التي ينظمها بصوت مسموع، و بعضهم يخلد للهدوء و السكينة، يجلس صامتا كأنما يصنع نصه على عينه حتى يفرغ منه.

و بعد ذلك ماهي الوسيلة التي يفرغ النص بها و عليها؟ أهي القلم و الورقة كماضي العهد الذي نألفه، أم هي الطباعة على جهاز الحاسوب؟ أكثر الكتاب خاصة من أبناء الأجيال القديمة، لا زالت تألف القلم و الورقة و لا تجد لهما بديلا، و تحس بالانقطاع و عدم الدفء لو انقطعت هذه الصلة بينهم و بين نصوصهم، تحس بالبرود و الشرود لو جلست أمام الحاسوب لتسكب على شاشته إبداعها، الذي اعتادت سكبه على الورق، فلاتستسيغ ذلك إلا بعد الفراغ من كتابة النص، عندها تجلس لتنقل من الدفتر إلى الشاشة مبيضة ما فرغت من كتابته على طريقتها التقليدية المحببة و المألوفة و القريبة إلى قلوبها. و فئة أخرى خاصة من الأجيال الشابة، تجد نفسها قد شبت مع أجهزة الحاسوب و ألفتها منذ نشأتها الأولى، فاستساغت الكتابة مباشرة على الشاشة دون مقدمات على الورق، و ترى في ذلك سرعة و اختصارا للوقت، الذي تنفقه في الكتابة مرتين واحدة على الورق ثم تكرارا له على الشاشة، و يجاريهم في ذلك بعض قدامى الكتاب، الذي روض نفسه على ذلك و لحق بالعصر و وسائله، و هيأ نفسه للحاق بالقطار حتى وهو يسير، و الأغرب من ذلك أنني قد قرأت حوارا قديما يعود لعشرات السنين، مع كاتب يعلن أنه لا يكتب نصوصه إلا على الآلة الكاتبة القديمة، بطرقاتها التي تقرع الجمجمة مع كل حرف تطرقه على الورق، دون إعداد مسبق، و يجد في ذلك متعته و طريقته التي يأنس إليها، فلله في خلقه شؤون.

و مثل ذلك غزارة الإنتاج الأدبي أو شُحِّه، و ما هي العوامل المؤثرة في ذلك؟ و هل للكتابة مواسم معينة و أماكن معينة؟ في الليل أو النهار؟ في شهور من السنة بعينها، هل تجف القريحة زمنا، خاصة لدى الشعراء فلا يستطيعون الكتابة و لو أجهدوا أنفسهم؟ و هل تغزر القريحة زمنا حتى تفيض فيكتب الشاعر عدة قصائد في أيام معدودات؟ وهل يتفاوت الشعراء في ذلك مثلما قيل قديما: (جرير يغرف من بحر و الفرزدق ينحت من صخر) و مثلما يعترف الفرزدق بذلك عندما يقول: (إن خلع ضرس أهون عليَّ من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات).

و هل يظل الشعر موهبة تجيء عند الانفعال و التأثر بالأحداث الطارئة و المستجدة؟ أم يصبح صنعة متقنة لدى كبار الشعراء، يستدعونه و يتقنونه كل حين و أنى يشاؤون؟ و الأمثلة كثيرة و أكثر من أن يحصيها عدٌّ لشعراء قدامى و معاصرين، تتعدد دواوينهم و يقولون بديع الشعر في كل آن و كل مناسبة، و ليس الجواهري و عبد الرزاق عبد الواحد و يحيى السماوي و محمود درويش من المعاصرين إلا نماذج لهذا الشعر الغزير البديع، و من الشعراء من ينطق بالشعر أكثر مما ينطق بالكلام، و مثال ذلك الشاعر سعود الأسدي، الذي يعقب على كل قصيدة ينشرها ما لا يقل عن عشرين متذوق للشعر فيرد على كل منهم بباقة من أبيات شعرية بديعة، و يكرر ذلك عشرات المرات، لا يتوانى و لا يتطرق الكلل و الضعف إلى شعره، فكأن الشعر حاضر لديه و على لسانه في كل حين.

و من الروائيين من لا يتقن إلا وصف المكان الذي يعيش فيه و يرتبط بأحداثه و أشخاصه، فساكن المدينة لا يتقن وصف حياة الريف و لو أجهد نفسه في ذلك، و مثال ذلك روايات نجيب محفوظ و جمال الغيطاني التي تصور حياة القاهرة، و على النقيض من ذلك تجد روائيا لا يتقن إلا وصف الريف و لا يقترب من حياة المدينة مثل يوسف القعيد، أو روائيا يتخصص في وصف البيئة الساحلية والبحرية و حياة البحارة و الموانئ مثل حنا منّا. فالرواية يلزمها أوصاف و تفاعلات مع المكان و الأشخاص لا يستطيعها إلا من عايش المكان بنفسه، و لا يكفي التخيل وحده لرسم صور و أحداث متعددة و متداخلة و متعاقبة، و قد يحدث أن يستعين الروائي بمن يحدثه عن المكان الذي يريد أن يكتب عنه، فيجيد وصفه له، و يجيد هو التلقي و التفاعل مع المكان الموصوف، حتى كأنه يعيش في المكان ذاته، و مثال ذلك ما صنعه الروائي حيدر حيدر في روايته (وليمة لأعشاب البحر) التي صور في جانب منها حياة الأهوار في جنوب العراق، بطبيعتها و مياهها و قصبها و مراكبها، و حياة سكانها تصويرا بديعا لا يتقنه من عاش عمره كله في منطقة الأهوار.

و من الكتاب من لا يستطيع الكتابة إلا عن أحداث عايشها و شاهدها بأم عينه، يزيد في أحداثها أو ينقص، و يتصرف بها قليلا أو كثيرا، لكن الفكرة الأساسية لا بد أن تكون حقيقية جابهته يوما ما. و آخرون لديهم من ملكة التخيل عوالم لا حدود لها، يغرفون من بحرها و ينسجون القصص و الروايات من بنات أفكارهم و مخيلاتهم.

إن ما نتوق إليه لدى سماعنا للشهادات الإبداعية، هو هذا التنوع في تجارب الكتاب و المبدعين، و معرفة الطريقة التي يصنعون بها نصوصهم، على تنوعها و تعارضها و اختلافها من كافة الوجوه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى