السبت ٨ آذار (مارس) ٢٠١٤
بقلم محمد جمال صقر

بَيْنَ الْفَنَّانِينَ وَالْعُلَمَاءِ

1

جرّبتُ مرة أن أتخيل اختلاف الفنانين والعلماء في تقدير ظاهرة الشذوذ اللغوي، فبدا لي أنْ ليس أقرب عند العلماء من أن الشاذ (المنحرف) ما هو إلا بقية المطرد (المستقيم) التي بها معه تكتمل مادة اللغة، وأنهم إنما أقاموا قواعدهم على ما ائتلف ثم نبهوا معه على ما اختلف. وبدا لي أن ليس أقرب عند الفنانين من أن مكانة الشاذ في مكانه من المطرد، خَالًا مُثِيرًا في خَدِّ حَسناءَ بَرْزَةٍ!

والآن أَتَأَمَّلُ اشتغال العلماء في تقدير ظاهرة الشذوذ اللغوي بانقسام مادة اللغة بينهما واكتمالها بهما جميعا، واشتغال الفنانين في تقديرها بانقسام تأثير اللغة بينهما واكتماله بهما جميعا، وأَعْجَبُ!
لقد اتَّحدتْ بين الفنانين والعلماء المسألة، واختلفت وجهتا النظر؛ فكان الرأيان؛ فكيف يغني أحدهما عن الآخر عند من يتعلق بتمام الاستيعاب، أم كيف يربأ بهما أن يجتمعا في قلب مفكر واحد!

2

واضطُرِرتُ مرة إلى تجريد النظر العلمي في تركيب الجملة العربية من النظر الفني؛ فإذا كَوَائِنُ جافة ميتة أُكوّنها حين أُكوّنها مثلما يَتقيَّأ مَبْطُون!

فأما تجريد النظر الفني في تركيب الجملة العربية من النظر العلمي، فغير بعيد عما اصطنعه بعض الشعراء من تَقْصِيص ورقة إحدى قصائده في وعاء مناسب، ثم خَلْطها، ثم إخراج القُصَاصات واحدةً واحدةً وكتابتها على ما تَخرُج في ورقة أخرى!

وليس أَشْبَه بمُجرَّدَيِ النظرَيْن من حِمارَيِ العِبَادِيّ الأول؛ إذ قيل له: أَيُّ حِمَارَيْكَ شَرٌّ؛ فَقَالَ: هَذَا، ثُمَّ هَذَا؛ فإنه إذا كان في تجريد هذا النظر الفني من العبث العابث ما لا يخلو من ادعاء إحياء الموتى، ففي تجريد ذلك النظر العلمي من المَسْخ الكئيب الكَريه ما لا يخلو من ارتكاب قتل الأحياء!

3

ولا يتيسر إلا في الزمان الطويل بعد الزمان الطويل، أن يكون المفكر فنانا كبيرا وعالما كبيرا، فأما أن يكون فنانا كبيرا وعالما أو عالما كبيرا وفنانا، فمِما يَتيسَّر؛ ومن ثم ينبغي لطلاب الفن والعلم المتحققين بحقيقة تكاملهما إذا ما انتبهوا إلى أحد أولئك الكبار فنا وعلما، أن يَلْزَمُوه -مهما كان زمانه ومكانه ومُنْتَماه- فهو نعمة ينبغي أن تحمد وتشكر، ولا حمد لها مثل معرفتها، ولا شكر مثل منفعتها.

ولا عذر لطلاب الفن والعلم المتحققين بحقيقة تكاملهما، في الإعراض عن أيٍّ من أولئك المفكرين الكبار فنا وعلما -وإن أعرض هو عنهم- بل يتعرضون له بكل سبيل، ويستعطفونه بكل دليل.

ولو رأوا كيف كان أبو عمرو بن العلاء يجلس عند قدمي بشار بن برد، يتحمَّل مَناكِيرَه حتى يتلقى مَآثِيرَه- أو رأوني أجلس عند قدمي محمود محمد شاكر، أصطلي بنار سخطه حتى أستضيء بنور رأيه- لَرَأَوْا مَرْأًى عجيبا!

4

ولن ينشأ فينا طلاب فن وعلم متحققون بتكاملهما حتى نؤمن نحن به آباءً وأساتذةً وقادةً -وإن فاتَنا كثيرٌ مِنْ عمله- ونَتَذَاكَرَه كما نتذاكر أصولنا الحيوية الثقافية؛ فينطبع في ذَواكِرنا الوراثية، ثم ينتقل إليهم الاستعداد له انتقالا طبيعيا.
إن الاستعداد هو أول التوفيق، وإن أولى ما ينبغي أن يَلِيَهُ وُلاةُ أمور الطلاب آباءً وأساتذةً وقادةً، أن ينتبهوا إلى المستعدين منهم وينبهوهم ويرعوهم، فإذا ما وجدوا الطالب مُرَكَّبَ النَّظَر يفكر في جواب المسألة بوجهين حَقيقيٍّ وخَياليٍّ، احتفَوْا له بهما جميعا، ووقفوه على ما بينهما من اختلاف وائتلاف، ثم جعلوه مِنْ هَمِّهِمْ.

ولا بأس بجمع الطلاب المستعدين جميعا معا بما يمكن من المجامع وتعليمهم وتدريبهم وتشجيعهم والمنافسة بينهم وتقديرهم، حتى يتحوَّل استعدادُهم قدرةً وقدرتُهم مهارةً.

5

ولن يتحوَّل استعدادُ طلاب الفن والعلم المتحققين بحقيقة تكاملهما قدرةً حتى تمتلئ أوعية استيعابهم بمادة فنية وعلمية متكاملة كافية متنامية؛ فإن القدرة منزلةٌ فوق الاستعداد لا تنبغي إلا لمن استوعب تراثه الفني والعلمي المتكامل حتى صار هو نفسَه التي بين جنبيه، فإذا نطق نطق بِبَيانِه وإذا صمت صمت بِجنانه ولم يُعْجِزْه شيءٌ إلا بمقدار قُعود استيعابه عن حقه.
ولن تتحوَّل قدرتُهم مهارةً حتى يعالجوا شؤون الحياة ويُجرِّبوا أحوالها المختلفة، فإن المهارة منزلة فوق القدرة لا تنبغي إلا لمن اقتحم المآزق ثم احتال حتى نجا -وَمَنْ كَانَ ذَا حِيلَةٍ تَحَوَّلَ- فتدفَّق سيل قدرته حتى جرف عوائق المآزق، ومكَّنه من رؤوس الظواهر الفنية والعلمية المتكاملة، ولم يُعْجِزْه شيءٌ إلا بمقدار قعود تجريبه عن حقه.

6

هل أَحْكَمُ مثلا في تعليم نقد الأصوات اللغوية نقدا فنيا وعلميا معا، من الجمع بين الكلمات المتحدة إلا من كون بعض أصواتها مرققا في بعضها ومفخما في بعضها أو مهموسا في بعضها ومجهورا في بعضها كما في ["طَحَا"، و"دَحَا"] من القرآن الكريم، وبيان أن الكلمة واحدة، وأنْ ليس ثَمَّ غيرُ أن بعض أصواتها تطورت صفتُه لملاءمة المراد!
ثم هل أَحْكَمُ مثلا في تعليم نقد الصيغ اللغوية نقدا فنيا وعلميا معا كذلك، من الجمع بين مشتقات الجذر الواحد ومُعاوَرَتِها على الموضع الواحد من المركب اللغوي الصغير كما في ["نَوَاكِس"، و"نُكَّس"] من الشعر النفيس، وبيان أنهما كلمتان مختلفتا الدلالتين، وأنْ ليس ثَمَّ غيرُ أن إحداهما قد ادُّعِيَت لها دلالة الأخرى من غير أن تزول دلالتها!

ثمت هل أَحْكَمُ مثلا في تعليم نقد المُرَكَّبات اللغوية الصغرى نقدا فنيا وعلميا معا كذلك، من الجمع بين الجمل الإنشائية والخبرية ومُعاوَرَتِها على الموضع الواحد من المركب اللغوي الكبير كما في ["هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَط"، و"امْتَزَجَ لَبَنُهُ الْقَلِيلُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ"] من الشعر النفيس، وبيان أنهما جملتان مختلفا الدلالتين، وأنْ ليس ثَمَّ غيرُ أن إحداهما قد ادُّعِيَتْ لها دلالة الأخرى كذلك من غير أن تزول دلالتها!

7

أم هل أَحْكَمُ مثلا في تعليم نقد المُرَكَّبات اللغوية الكبرى نقدا فنيا وعلميا معا كذلك، من جمع النصوص المتواردة والموازنة بينها كما في:

["يَا طَلْعَةً طَلَعَ الْحِمَامُ عَلَيْهَا وَجَنَى لَهَا ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْهَا
رَوَّيْتُ مِنْ دَمِهَا الثَّرَى (وَلَطَالَمَا رَوَّى الْهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتَيْهَا)
قَدْ بَاتَ سَيْفِي فِي مَجَالِ وِشَاحِهَا وَمَدَامِعِي تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهَا/
فَوَحَقِّ نَعْلَيْهَا/ (وَمَا وَطِئَ الثَّرَى شَيْءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْهَا)
مَا كَانَ قَتْلِيهَا لِأَنِّيَ لَمْ أَكُنْ أَبْكِي إِذَا سَقَطَ الْغُبَارُ عَلَيْهَا/
لَكِنْ ضَنِنْتُ عَلَى الْعُيُونِ بِحُسْنِهَا/ وَأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الْحَسُودِ إِلَيْهَا/"،
"كَأَنِّيَ أَخْلَعُ جِلْدِي
بَدَوْتُ/
فَأَحْسَسْتُ أَنَّ الْمَكَانَ يُحَاصِرُنِي
وَالزَّمَانَ يُنَازِعُنِي نَفْسَهُ
لَا يَمُرُّ بِغَيْرِ بَقَايَايَ
حِينَ قَتَلْتُكِ/
إِنِّي تَحَجَّرْتُ/
لَمْ يَعُدِ الصَّبْرُ يُحْيِي مَوَاتِي/
وَلَا عَرَفَ النُّورُ كَيْفَ يَبُلُّ صَدَايَ/
فَلَيْسَ الزَّمَانُ زَمَانِي/
وَقَدْ لَفَظَتْنِي الْأَمَاكِنُ فِي هُوَّةٍ يَتَصَايَحُ فِيهَا الْهُمُودْ/
وَحِينَ قَتَلْتُكِ
أَشْعَلَ قَلْبِي نَزِيفُ دَمِكْ
كَمَا يُشْعِلُ الثَّوْرَةَ الْمُسْتَنِيمَةَ رَعْدُ النَّشِيدْ/
فَأَحْرَقَنِي بِهَشِيمِي وَنَارِهْ/"].

من الشعر النفيس، وهما قصيدتان أُولِعْتُ على الزمان حتى أَمْسِ بإغراء تلامذتي بالموازنة بينهما، فانتبه نجباؤهم إلى شِعْرِيَّتِهما ووحدة رسالة انتحاب شاعريهما فيهما على قتلهما أحب الناس إليهما -وإن كان الثاني أَظْهَرَ ندما على فعلته من الأول- وإلى قدامة القصيدة الأولى وحداثة الثانية، بعَموديَّة عَروضِ الأولى وحُرِّيَّة عَروض الثانية، واختلاف أسلوبي تصويرهما الفني، وغرابة بعض مفردات الأولى كـ["رَوَّى"، و"مَجَالِ وِشَاحِهَا"، و"وَحَقِّ نَعْلَيْهَا"، و"ضَنِنْتُ"]، وقرابة مفردات الثانية حتى ["هُوَّة"، و"الْمُسْتَنِيمَة"]، ولم يخطر لهم أن تكون "صَدَايَ" بمعنى "عَطَشِي"، لا "تَرْدِيد صَوْتِي"! ثم كان منهم مَنْ فَضَّل القصيدة الأولى -حتى لقد حفظها في موقفه، وأَدَّاها من غير أن يَخْرِمَ منها حرفا- وكان منهم مَنْ فَضَّل الثانية، وإن لم يستطع أحدٌ أن يحفظها!

8

ولا غنى بمعلم الفن والعلم المتكاملين عن أن يعلق تلامذته من قول الشاعر الأول: "يَا طَلْعَةً طَلَعَ الْحِمَامُ عَلَيْهَا" بسَخَرِه من خروج قتيلته قَبْلَئِذٍ واثقةً بجمالها وبهائها، ومن قوله: "جَنَى لَهَا ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْهَا" بدَعْواه جِنايتَها على نفسها وبهجتَها بمهلكها، ومن قوله: "رَوَّيْتُ مِنْ دَمِهَا الثَّرَى وَلَطَالَمَا رَوَّى الْهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتَيْهَا" بتفاخره بجمود مشاعره، ومن قوله: "قَدْ بَاتَ سَيْفِي فِي مَجَالِ وِشَاحِهَا وَمَدَامِعِي تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهَا" باضطراب مشاعره في موقف المعرفة بين حَبْسِ السيف عليها انتقاما وسَفْحِ الدموع عليها الْتِدامًا، ومن قوله: "فَوَحَقِّ نَعْلَيْهَا وَمَا وَطِئَ الثَّرَى شَيْءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْهَا" بحرجه الشديد من اطلاع أشيائها عليه في موقف القتل، ومن قوله: "مَا كَانَ قَتْلِيهَا لِأَنِّيَ لَمْ أَكُنْ أَبْكِي إِذَا سَقَطَ الْغُبَارُ عَلَيْهَا" بأنه قد سبق منه لها من الوَلَهِ بها الذي ربما لم تُقَدِّرْه قَدْرَه ما ينبغي أن يُعذَر به، ومن قوله: "لَكِنْ ضَنِنْتُ عَلَى الْعُيُونِ بِحُسْنِهَا وَأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الْحَسُودِ إِلَيْهَا" بأنه إذا صَرَفَ عنها قتلُها عيونَ الناس ونظرَ الحسود فلن يصرفه عنها؛ فكأنما قَتَلَها ليشتمل عليها في نفسه!

ثم لا غنى بمعلم الفن والعلم المتكاملين كذلك عن أن يعلق تلامذته من قول الشاعر الثاني: "كَأَنِّيَ أَخْلَعُ جِلْدِي" بزوال مَنَاعَته وانكشافه للحوادث، ومن قوله: "فَأَحْسَسْتُ أَنَّ الْمَكَانَ يُحَاصِرُنِي" بهجوم الحوادث مِنْ حيث أَمِنَ، ومن قوله: "وَالزَّمَانَ يُنَازِعُنِي نَفْسَهُ لَا يَمُرُّ بِغَيْرِ بَقَايَايَ" بأن نَفْسَه تَسَاقَطُ أَنْفُسًا، ومن قوله: "إِنِّي تَحَجَّرْتُ" بامْتِساخه عَرَضًا لا جَوْهَرَ له، ومن قوله: "فَلَيْسَ الزَّمَانُ زَمَانِي وَقَدْ لَفَظَتْنِي الْأَمَاكِنُ فِي هُوَّةٍ يَتَصَايَحُ فِيهَا الْهُمُودْ" باجتماع الزمان والمكان على ضَرْبَة ساخطٍ واحد، ومن قوله: "أَشْعَلَ قَلْبِي نَزِيفُ دَمِكْ كَمَا يُشْعِلُ الثَّوْرَةَ الْمُسْتَنِيمَةَ رَعْدُ النَّشِيدْ" بشيء مِن دَخيلة قول الأول: "قَدْ بَاتَ سَيْفِي فِي مَجَال وِشَاحِهَا وَمَدَامِعِي تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهَا"، وكأنما بَقِيَتْ منه بقية تَشْهَد عليه- ومن قوله: "فَأَحْرَقَنِي بِهَشِيمِي وَنَارِهْ" بهَلاكِ الشاهدِ هَلاكَ المَشْهودِ!

9

ثم ينبه تلامذته طلاب الفن والعلم المتحققين بحقيقة تكاملهما، على أن القصيدة الأولى تَتَخَرَّجُ في علم عروض الشعر العمودي الذي ضبطه الخليل بن أحمد، بأنها ستة أبيات كَامليَّة الوزن وافية صحيحة العروض مقطوعة الضرب هائيّة القافية مفتوحة مُرْدَفَة بياء اللين موصوله بالألف- والقصيدة الثانية تَتَخَرَّجُ في علم عروض الشعر الحر الذي ضبطته نازك الملائكة، بأنها أربعة أبيات مُتقارِبيَّة الوزن متعددة الأضرب والقوافي.

ولا بأس بأن يَقِفَهُم على جَرَيان عروض العمودي على وَفْقِ موسيقى الغناء العربي القديم التي لم تكن غير دَوْرات متوالية متشابهة، كل دورة في مِثْل طول نَفَس المغني الشاعر، وفي كل دورة بيتٌ من أبيات القصيدة- وجَرَيان عروض الحر على وَفْق موسيقى السِّينفونية الغربية الحديثة التي صارت تَيَّارًا جارفا يتدفق إذا تدفق فلا يتوقف مهما اضطرب إلا عند مُنْقَطَعِه مرة واحدة لا شيء بعدها، والقصيدة كلها بمنزلة بيت واحد.

ومن ثم يتبين لهم استقامة القصيدة الأولى على عروض العمودي إلا من تضمين بيتها الرابع في الخامس تضمينا خفيفا يشده إليه قليلا ويعوق الاطمئنان على قافيته شيئًا، وعدم استقامة القصيدة الثانية على عروض الحر.
فأما أسلوب رَسْم أيٍّ من القصيدتين أَيْ كتابتها فلا أثر له في أصل تخريجها في علم العروض إلا أن يُنَبِّهَ متلقيها على خَوافيها أو يُلْهِيَهُ عن ظواهرها، ولاسيما أن من شعرائنا المعاصرين مَنْ يرسم قصائده الجارية مجرى إحدى قصيدتينا على نحو ما رُسِمَت الأخرى.

10

وكذلك ينبههم على أن القصيدة الأولى تتخرج في علم نحو النص على أنها نص من فصلين: أولهما جملتان في ثلاثة الأبيات الأولى، والثاني خمس جمل في ثلاثة الأبيات الآخرة، استؤنف الثاني في اعتذار المحب عن الأول في تَشَفّي المنتقم، وجُعِلَتْ عبارة "وَمَدَامِعِي تَجْرِي عَلَى خَدَّيْها" في عجز البيت الثالث، رِباط ما بين الفصلين- والقصيدة الثانية تتخرج في علم نحو النص كذلك على أنها نص من فصلين: أولهما سبع جمل في البيت الأول، والثاني جملتان في ثلاثة الأبيات الآخرة، عُطِف الثاني في صحوة الشهادة على الأول في وطأة الخطب، وجُعِلَتْ عبارة "حِينَ قَتَلْتُكِ" رِباط ما بين الفصلين.

ومِنْ ألطف ما يَقِفُهم عليه بين القصيدتين على رغم تَقارُب عَدَدَيْ كلماتهما الكِتابيَّة، طولُ الجملة في الأولى وقِصَرُها في الآخرة على رغم ما يُظَنُّ من استقلال الطول بها في قصائد الشعر الحر انْطلاقًا مِن حدود الأبيات المُتهدِّمة، وتَرابُط بعض جمل الأولى دون الآخرة بالاعتراض على رغم ما يُظَنّ من استقلال التَّجاوُر بها في قصائد الشعر العمودي انْبِهارًا بحدود الأبيات المتمكنة!

11

ولا يخفى اشتمال التنبيهات السابقة على ما يخص تعليم الأفكار الجزئية (الوزنية، والقافوية، والأصواتية، والصرفية، والمعجمية، والنحوية)، وما يخص تعليم الأفكار الكلية (العروضية، والنصية، والفلسفية). وهذا أوان التنبيه على أن حَقَّ المرحلة الجامعية أن تَخْتَصَّ لتعليم الأفكار الكلية، من بعد أن تكون المرحلة التأسيسية قبلها قد اخْتصَّتْ لتعليم الأفكار الجزئية.

ولا ريبَ أَلّا غِنَى بالأفكار الجزئية والكلية إحداهما عن الأخرى؛ فبعضُها أَوْلِياءُ بعض، ولا سيما أن مُعلِّم الأفكار الجزئية في المرحلة التأسيسية يُعلمُها حين يُعلمُها وفي ذهنه أفكارها الكلية التي تُحيط بها وتُؤلفُ بينها، ومُعلم الأفكار الكلية في المرحلة الجامعية يُعلمها حين يعلمها وفي ذهنه أفكارها الجزئية التي تَجتمع فيها وتَتشارك في تَكْوينها.

ومن ثم ينبغي أن تتصل أسبابُ معلمي المرحلة الجامعية دائما بأسباب معلمي المرحلة التأسيسية، حتى يتعارفوا، فيمهّد بعضهم لبعض، ويكمل بعضهم بعضا، ويتحقق طلابُ الفن والعلم بحقيقة تكاملهما؛ فلا خير في تَنَاكُرهم بعضِهم وبعضٍ، الذي يمحو آثارَهم بعضَها ببعضٍ، أولئك هم الأخسرون أعمالا "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"، صدق الله العظيم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى