الجمعة ١١ نيسان (أبريل) ٢٠١٤
بقلم فيصل سليم التلاوي

حديقة بلا سياج

كانت لا تزال غضة طرية، تخلب براعمها المتفتحة عين الناظر إليها، حيثما وقعت عيناه عليها مدبرة أو مقبلة، مهما لفَّعَت أغصانها اللدنة الممتلئة، وغلفت ثمارها الشهية - التي تتوق إلى موسم قطاف- ببرقع من حياء شفيف، تمشيا مع أعراف أهل الريف .

فماذا تنتظر الثمرة الناضجة غير القطاف؟ وبيدٍ صناع، وإلا فمآلها إلى ذبول وعطَنٍ.

كان الصيف في أوائله، ومواسم الجنى في بداياتها، والثمار بعد غضة تلسع لسان مُتذوقها، يوم أتاها من بعيد، يختزن في صدره حرمان عمر شرقيّ بطوله، يتحرق ظمأً، ويتوق لري غليل كابده عمرا بطوله . جنى ثمارها واعتصر كرمها، نهل وعلّ حتى الثمالة، فِعل ظامئٍ نَهِمٍ بعد طول ظمأ وحرمان .

لكنها لم تكن إلا- جمعة مشمشية- "1"غادر بعدها من حيث أتى، ومضى يبحث عن لقمتي عيش، وليس عن لقمة واحدة كسابق عهده، وربما عن لقمة ثالثة لغرسة توهم أنه أفلح في غرسها، ولكن خاب ظنه. فقد خلف أرضه التي حرثها بهمة وانفعال شديدين- لكن لحرثة واحدة- خلفها دون بذار، مؤملا إياها ريّاً أفضل في موسم مقبل.

أودعها بيت أهله على عادة الفتيان المغتربين من أبناء الريف. ولما كانت ابنة تاجرالقرية وثريها، فإنها لم تعتد لا هي ولا ذووها على مكابدة هموم الزراعة ومواسمها، من حرث وتعشيب وحصاد ودرس، ثم إن والدها قد اشترط لدى موافقته على تزويجها من محمود، أن لايكون لها شأن مع الفلاحة بتاتا. ولما كان جمالها الأخّاذ يشفع لها، والمتهافتون على أعتاب والدها يبدون استعدادهم لتلبية كل شروطه ، فقد وافق أهل محمود على بقائها في المنزل طيلة النهار أثناء انشغالهم في الحقول. إن تطوعت من تلقاء نفسها، فأعدت لهم طعام العشاء قبيل عودتهم منهكين متأخرين، كان ذلك حبا وكرامة، وإلا فهي في الخيار من أمرها معززة مكرمة .

كانت تمضي سحابات أيامها في نوم إلى وقت الضحى، ثم تسلي نفسها ببعض الأشغال المنزلية الخفيفة، فإن سئمت الوحدة وحاصرها الفراغ، لم تجد لها ملاذا غير بيت أهلها، رغم أنها قد ملَّت سماع توجيهات أمها ونصائحها المتكررة، بوجوب الإقلال من الخروج من منزل أهل زوجها أثناء غيابهم، وإن كانت لا بد فاعلة، فعليها أن تلتزم بآداب الطريق المعروفة لكل نساء الريف، خاصة من كانت في مثل حالها شبابا وجمالا وغيبة زوج. فعيون الجميع مصوبة نحوها، وطامعة فيها. ومع أنها تحفظ وصايا أمها عن ظهر قلب، وتستطيع أن تُذَكرها بالكلمة التي تنساها بين مرة وأخرى، إلا أنها كانت تحس أن شيئا ما يدغدغ كيانها، ويملؤها نشوة وزهوًا، وهي تطالع عيون المعجبين، و تستمع إلى تعليقات الجالسين المصطفين على جانبي الطريق، وسط سوق القرية المكوّن من بضعة دكاكين.
تتعمد سلوك هذا الطريق المزدحم، متذرعة بقصره عن الطريق الآخر البعيد الذي يمر بطرف القرية، والذي يندر عابروه .
وقد تجد شيخا لا يتمالك نفسه لدى وقوع نظره على هذا الوجه الصبوح، فينطلق لسانه مصليا على النبي مردفا:
يا أرض احفظي ما عليك.ِ-

ويثب شاب من جلسته منتصبا كمن لدغته أفعى، مخلفا وراءه الحجر المُربّع الذي كان يلبد فوقه منتظرا هذه اللحظة، وقد تواتيه الجرأة فينطق بعبارة غزل ولهفة، تسقط في أذنها سقوط الجوهرة في الكف، وإن تظاهرت بعدم سماعها .
كانت تطرب لعبارات الثناء والإعجاب، وتجد لها صدًى يملأ فراغا في حياتها لا تجد من يملؤه. وقد تنفرج شفتاها عن طيف ابتسامة أحيانا، أو تحاول تثبيت منديلها على مقدمة شعرها، وقد أرخت له العنان من قبل ليتراخى إلى مؤخرة رأسها.
كان ذلك الانسحاب وحده، الذي يفسح المجال لغُرتها الشقراء أن تتطاير مع هبات الهواء، فتردها بيسراها إلى سابق عهدها، إلى جانب بعض التثني المصطنع في خطوات معدودة، كأنها تضع لمسات على بعض مواضع الفتنة في الجسد الظامى .

هذه الإيماءات وحدها كانت كافية لإشعال حرائق من الشهوة، يتلظى بنارها المعجبون الطامعون. لكن أحدهم ما نال منها وطَرا. لا هذا الذي يمضي ليله يحوم حول بيتها مثل ثعلب شرهٍ، ولا ذاك الذي اعتاد أن يقذف بوردته الحمراء إلى شباكها كل مساء دون أن يجرؤ على الإفصاح عن نفسه، ولا معلم المدرسة الأنيق في بدلته الإفرنجية السوداء اليتيمة، الذي يطيل عبارات الثناء التي يكتبها في كراسة شقيق زوجها الصغير .

كل هؤلاء وغيرهم ما ظفروا منها بأكثر من نظرة بطرف عين، أو مشروع ابتسامة تهيأ لهم أنه ارتسم على محياها .
أما هي فقد كانت تنتشي طربا بنظرات المعجبين وهمساتهم وتعليقاتهم، وتجد فيها إلى جانب رسائل تردها بين شهر وآخر من الزوج الغائب، الذي فجر ينابيعها، وأيقظ الفتنة النائمة ثم تركها ومضى، وهو يؤملها ويعدها مرة إثر مرة بقرب الموافقة على طلب الاستقدام، والحصول على تأشيرة الدخول. كانت تجد في ذلك تسليتها الوحيدة .
وحتى تؤنس وحدتها، وتغالب طول ليلها، وتذهب عنها بعض الروع، الذي قد يتسلل إلى نفسها، كلما كسر سكون ليل الريف صوت حيوان أو إنسان في هدأته العميقة، وحرصا من حماتها على صون هذا الكنز، الذي حظي به ابنها دون سائر شباب القرية، فما كانت تكتفي بالبخور والشب الذي توقده، وتبخر به رأس كنتها وسائر بدنها، متمتمة بما تحفظ من الأدعية، لتطرد عنها عيون الحاسدين والأرواح الشريرة .

إلى جانب ذلك فما كانت تطمئن إلا إلى ناطورها الأمين، الذي دربته وعهدت إليه حراسة زوجة أخيه، والنوم معها في غرفتها، وفي نفس فراشها، ولا تنسى أن تهمس في أذنه مرارا بأن لا يغفل عنها، وأن لا يغلبه النعاس فينام قبلها، وتخاطبه مشجعة:

 أنت راجل، عليك أن تحرس زوجة أخيك حتى تنام, ثم تنام بعدها لتكون جديرا بأن أزوجك أختها .
تقبل سعيد الأمر على مضض في أيامه الأولى، فقد اعتاد من قبل أن ينام حُرا، يتقلب في فراشه كيفما يشاء، يرمي غطاءه عن بدنه متخففا منه لحظة يشاء، ويحلم أحيانا بصوت مسموع، كما يخبره والداه في صبيحة اليوم التالي .
وخشي أن تتضايق زوجة أخيه من تصرفاته أو تفزعها أحلامه. لكنه يوما بعد يوم صار يألف المكان، ويبكر في موعد نومه. إنه يحس بدفء يغمر كيانه، ونشوة تسري في سائر بدنه ما أحس بمثلها من قبل .

في أول أيامه كان يغمض عينيه على استحياء، وينام غير ملاصق لجسد زوجة أخيه، وإن كان في أعماقه يتمنى أن يقترب منها، وأن يلامس جسده جسدها، لكن الشجاعة لا تواتيه، ويخشى أن تعد ذلك قلة أدب، فتشكوه لأمه في اليوم التالي. لكنه كان يتظاهر بالنوم أحيانا، فيقوم بحركات لا إرادية، يمد يده أو رجله في حركة عفوية، لتلامس الذراع البض أو الفخذ الممتلئة، وما تكور أعلاها، فيحس أن تيارا كهربائيا يسري في أوصاله, فيسارع إلى سحبها ثم يدير ظهره، ويتكور على نفسه، ويضيع في متاهة على مفترق اليقظة والنوم.

نام سعيد كعادته غير ملاصق للجسد الفائر بجانبه.آخر نظرة تلصص بها من بين فرجات أصابعه، التي غطى بها عينيه متظاهرا بالنوم، أرته الجسد الممدد على ظهره، وقد انحلت عرى قميص النوم الشفيف فبان عاريا معظمه
، لم يخف عن ناظريه منه سوى بعض خلجان نائية .

ألقى سعيد نظرة وداع على التلال والروابي التي رآها، وغط في نوم عميق، لم يقطعه سوى حلم غريب. حَلم أنه يسمع صوت أنفاس تتلاحق متصاعدة، وأن الفراش تحته يهتز اهتزازا متتابعا، وأن ذراعين ناعمين وفخذين أملسين يطوقانه ويهصرانه هصرا، وساقين يلتفان حوله بقوة، وشفتين حارتين تطبقان على فمه، كأنما تحاولان انتزاعه انتزاعا، والأنفاس تتلاحق حتى تستحيل إلى لهاث متقطع، بينما يداه الصغيرتان تقبض عليهما من معصميهما يدان قويتان، تجرانهما جرا نحو أكمتين ناعمتين مستديرتين، نفر في وسط كل منهما مثل حبة عناب ناضجة . وقادتاه مرغما على أن يدعك ويدعك بقوة ليست قوته، وأن يعضعض بأسنان ليست أسنانه .

أفاق مذهولا، وشقّ طرف عينيه آسفا على ضياع الحلم الجميل، لكنه أطبقهما بقوة عندما ألفى نفسه يمتطي صهوة صدر ممراع، ويمرغ وجهه يمنة ويسرة وسط أخدود بين نهدين صلبين نافرين، لا مثيل لهما إلا ذانك اللذان رآهما في منامه .
أطبق أجفانه بشدة خشية أن يفر من بينهما الحلم العذب، وقرر أن يتشبث بحلمه حتى الصباح، و تمنى أن يحلم به كل ليلة، مثلما عزم على أن لا يحدث أحدا عنه، خشية أن يجفل ولا يعود.

حرص سعيد بعدها على النوم مبكرا كل ليلة، و واصل تمسكه بحيائه المعهود، فيترك مسافة ولو ضئيلة بين جسده وجسد زوجة أخيه، ويلبد منتظرا حلمه الساحر، الذي ظل يعاوده كل ليلة, لا تكاد تنقضي لحظات على إغماضة عينيه، حتى يباغته الحلم الليلي الموعود. يبتدىء بلمسة سحرية من أنامل دافئة، تلامس طرف كتفه، فيلبي النداء وينقلب على ظهره مهرولا، داساً نفسه في أعماق مكمنه الليلي، الذي ألفه منذ اهتدى إليه ليلة الحلم الأول .

يلفه دفء غامر يسري في عروقه، ويعبق أنفه برائحة الشذا المنبعث من كل مكان حوله. لم يعد يتكور على نفسه في نومه، بل إنه يجهد نفسه في أن يتمدد ويمط نفسه عاليا وسافلا، محاولا أن يملأ حيّز هذا الخليج الساحر الذي يرسو في أعماقه، وأن يلامس بجسده كل نتوء، ويتتبع كل حِنوٍ من أحناء هذا الغور الدافىء الذي تطبق ضفافه عليه بقوة، وتهدهده جنباته حتى يغفو إغفاءته الليلية، التي يتمنى أن لا يطلع فجرها .

بعد أن ينفض الاشتباك الليلي، وقبل أن ينبلج الفجر، يجد سعيد نفسه ممددا على نفس هيئته التي أسلم نفسه بها عندما أوى إلى مضجعه، محافظا على مسافة الشعرة التي تفصله عن الجسد، الذي سرح في أرجائه طيلة الليل على جناح الحلم اللذيذ .
ولا ينسى في غده أن يتظاهر بالبله وفقدان الذاكرة عندما يدركه الصباح، وأنه لا يعي من أمر ليلته الفائتة شيئا:
- إنه صغير، ابن عشر سنين، لم يطلع بعد على عورات النساء، ولا يعلم شيئا، ولا يعدو الأمر بالنسبة له أن يكون لحظات دفء وحنان وحلم .هكذا أولت الأمر لنفسها، وارتاح ضميرها لهذا التأويل الذي ارتأته وجنحت به على هواها.
إنها لا ترتكب إثما، ولا تأتي محرما، تدفىء الصغير وتقيه من لسعة برد متسللة إلى بدنه ليس إلا. لم يكن الأمر كله أكثر من أطياف لطيور مهاجرة، تعبر أفق خيالها ليلا وتنآى عن دنياها مع تنفس الصباح، ثم تحدث نفسها قائلة :
 ما الضرر في ذلك؟ أليس ذلك أفضل من الوقوع بين براثن واحد من العشرات الذين يحومون حولي، وتلاحقني عيونهم كأنها سهام تنغرس في لحمي .

ضاق الفتى ذرعا بسره مع مرور الأيام، وما عاد يطيق صبرا على كتمان حلمه الشهي، وواته الشجاعة ذات يوم ليحيل الحلم إلى حقيقة . فقرر أن يحدث به شريكته أولا فقال وهو يخاطبها :

لقد حلمت ليلة أمس حلما حرت في تفسيره .

 حلم؟ وبلعت ريقها وهي تمني نفسها أن يخطو الخطوة الأولى على طريق الرجولة، فيجد في نفسه الجرأة للانتقال بعلاقتهما من الحلم إلى الحقيقة. فقالت مشجعة:

 وماذا رأيت في حلمك؟ قل وأنا أفسره لك.

 رأيت نفسي ... ثم تردد متلعثما.

 أين رأيت نفسك ؟ أكمل ولا تخف. ربما أصبح حلمك حقيقة .

 رأيت نفسي أدخل حديقة بلا سياج ، فيها ما تشتهي الأنفس من ألوان الفاكهة .

 وماذا أكلت منها؟ وماذا حملت لي ؟ أم أنك نسيتني ؟

أكلت رمانتين لا مثيل لهما في الحلاوة ، وأكلت كرزا كثيرا وعنابا، وجلت في الحديقة كلها .

 وأين كان أصحابها عنك؟

 كانوا في غفلة من أمرهم. صاحبها مسافر لبعض شؤونه، لكنني ظمئت ظمأ شديدا بعد أن امتلأت معدتي .

 ألم يكن في الحديقة بئر تطفىء منها ظمأك ؟

 فيها بئر لا أعذب من مائه ولا أشهى، ولكنني ما استطعت الوصول إليه، فقد كان عميقا عميقا ما طالته يداي .

"1" ( جمعة مشمشية ): كناية عن قصر المدة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى