الاثنين ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم صبحي حديدي

عبد السلام العجيلي معارضا

ذات يوم، أواخر السبعينيات إذا أسعفتني الذاكرة، نزلت مجلة "العربي" الشهرية الكويتية إلى المكتبات والأكشاك السورية وقد اقتطعت منها الرقابة ثلاث صفحات. لم يكن الأمر مألوفاً، بل كان نادراً تماماً، لأنّ المجلة لم تكن سياسية من جانب أوّل، ومن جانب ثانٍ لم يكن مجمل ما يُنشر فيها من موضوعات سياسية إلا من النوع الذي لا يغضب السلطة العربية، أينما كانت في الواقع، من المحيط إلى الخليج إلى المتوسط. المثير أنّ فهرس موادّ ذلك العدد كان يشير إلى أنّ الصفحات المقتطَعة كانت مجرّد مقال عن... كيفية شراء كيلوغرام من البندورة، بواسطة رافعة (ونش) ضخمة! والمدهش، بعد المزيد من الإثارة، أنّ المقال كان بتوقيع... الدكتور عبد السلام العجيلي (1918 ـ 2006)، الطبيب والسياسيّ والكاتب والروائي والقاصّ الكبير الذي فقدته سورية قبل أيام.

إليكم خلفية المقال، أوّلاً. في ذلك الزمن، اواخر السبعينيات، كانت سورية تعيش أزمة تموينية خانقة وخارقة لكلّ ما هو معقول، تبدأ من فقدان أو ندرة موادّ أساسية مثل السكر والشاي والزيت والسمن، ولا تنتهي عند المعارك اليومية التي يتوجب خوضها للحصول على "ربطة" خبز أو "كيس" بندورة أو بطاطا أو بصل، أو علبة محارم ورقية. ولست أبالغ حين أقول، وأثق أنّ المواطن السوري الذي عاش تلك المرحلة يتذكّر معي، أنّ حامل علبة سمن (وأقصد السمن النباتي، الرديء جداً، غير الصحيّ بأيّة حال) من نوع "النواعير" مثلاً، كان يسير في الشارع وفي وجدانه يتلاطم شعوران: الزهو، لأنه جلب ما يعادل الجزّة الذهبية، أو "رأس غليص" كما كان والدي رحمه الله يردّد؛ والخجل، لأنّ الناظرين إليه كانوا يحسدونه على نعمة ليست من نصيبهم!

العجيلي تناول واقعة من باطن هذه الحال، شاهدها بأمّ عينيه في بلدته الرقّة. كانت أعداد غفيرة من المواطنين تتجمع أمام أحد مراكز ما عُرف آنذاك باسم "الشركة العامة للخضار والفواكه"، التابعة لوزارة التموين والتجارة الداخلية، حيث كان يجري توزيع أكياس البندورة (كيلوغرام ونصف، ليس أكثر!). ولما كان المواطنون يتدافعون بالأيدي والمناكب، لأنهم يعرفون مسبقاً أنّ هذا "الذهب الأحمر" سوف يتبخر خلال ساعة أو أقلّ، فإنّ العاملين في شركة كهرباء الرقّة توصلوا إلى حلّ عبقري يكفل كسر الطابور وتجاوز الدور وتأمين البدورة... ليس دون الاستعانة بمخيّلة سوريالية بعض الشيء: لقد جلبوا الرافعة المخصصة لإصلاح أعمدة الكهرباء، وجلس زملاء لهم في سطلها، ثم أنزلوا السطل أمام الطابور وسدّوا بذلك كوّة التوزيع على مَن يصطفّ خلفهم!

لم يكن غريباً، إذاً، أن تقتطع الرقابة السورية الصفحات التي حملت مادّة العجيلي، خصوصاً وأنّ رسام مجلة "العربي" آنذاك، فنّان الكاريكاتير المصري الكبير حسن حاكم، زاد الطين بلّة حين صوّر الواقعة في رسم بديع لاذع آسر. وأرجو أنني لا أغبن أديبنا الكبير الراحل حين أعترف أنني، من بين أعماله الكثيرة ومواقفه الشجاعة وسجلّه الوضّاء، تذكرت هذا المقال أوّلاً حين بلغني نبأ وفاته. لقد بدا المقال قطعة في الأدب الساخر، أو هكذا اعتبره تحرير مجلة "العربي" على الأرجح، من معلّم ماهر وكاتب خبير وابن بارّ للمدينة التي يحكي عنها. لكنّ هذا لم يكن رأي وزارة الإعلام السورية، لأنّ رجال الرقابة على المطبوعات فهموا المادّة على نحو صائب للإنصاف، تماماً كما فهمها أو كان سيفهمها كلّ السوريين: أنها، ببساطة وقبل كلّ اعتبار، سخرية سوداء ومادّة احتجاج وأدب معارض!

لست أقصد القول إنّ العجيلي كان معارضاً للنظام، وهو بالطبع لم يكن من أهل النظام على أيّ نحو. لكنّ تلك المقالة كانت تنطوي بالضرورة على حسّ المعارضة، وتسجّل نبض الاحتجاج الاجتماعي، كما تؤدّي في تفضيح النظام الحاكم وظيفة ليست أقلّ فاعلية من أيّ بيان سياسي معارض. كذلك يقتضي الإنصاف ذاته التذكير بأنّ السلطة في تلك الأيّام كانت قد بلغت في الاستبداد أوجاً عارياً لا يسمح بمعارضة من هذا النوع ولا يتقبّلها، خصوصاً إذا أتت من اسم أدبي مرموق وشخصية بارزة، ليس في سورية وحدها بل في العالم العربي بأسره. فوق هذا وذاك، كان الراحل قد كتب المقالة ونشرها وهو مقيم في الرقّة، التي كان محافظها آنذاك واحداً من أشرس طغاة السلطة: محمد سلمان، النجم الصاعد الذي سيصبح وزير الإعلام، وأحد أعمدة النظام.

وقبل سنوات مرّ الراحل في باريس، التي كان يحبّها على نحو خاصّ، وتشرّفت بلقائه على فنجان قهوة. كان طبيعياً أن يقودنا الحديث إلى أحوال بلدنا السياسية والاجتماعية، فذكّرته بمقال مجلة "العربي"، وأعدت التشديد على تثميني للمحتوى المعارض كما فهمته حينئذ، وأفهمه الآن أيضاً. ردّ العجيلي بأنّ لقطة سطل الرافعة المحمّل بالرجال والبندورة كان طريفاً على نحو لا يمكن إلا أن يلفت انتباهه، ومأساوياً بحيث يصعب أن لا يدوّنه على الورق، وأشدّ مغزى في التعبير عن روح سورية تلك الأيام من أن يتردد في كتابة الحكاية ونشرها. وشراسة السيد المحافظ، ألم تتخوّف قليلاً يا دكتور؟ سألته، فأجاب مبتسماً: أنا أعشق هذا البيت من المتنبي:

وما الخوف إلا ما تخوّفه الفتى

وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى