الثلاثاء ١١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم أحمد الطيب اسماعيل

ميعاد الروح

الأم العجوز تجلس بجوار " البلكون " ، مسندة رأسها إلي الشيش الخشبي القديم ، تبدو في عينيها مسحة حزن عميق ، ونسائم ليل خريفية تأتي إليها ، تهزهز شراشف شالها الأسود المحكم حول رأسها ورقبتها ، لم تكن تشعر بشيء ، كانت شاردة فقط ، شاردة إلي بعيد ، تفكر ... تمر الذكرى برأسها فينتفض جسدها بشدة .

تعاود النظر إلي صورته بالزي العسكري المثبتة فوق الحائط ، متأملة قسمات وجهه ، ابتسامته الصافية ، وعينيه اللامعتين ..
في مثل هذه الليلة منذ أعوام طويلة ، رحل عنها ، رحل وتركها وحيدة دون أن يعود .

التفتت ، مالت بجزعها إلى الداخل ، ضوءٌ ضعيف خافت يغمر الشقة الصغيرة ، ينعكس فوق قطع الأثاث المتناثرة في كل مكان ، والحوائط ذات الطلاء القديم المتآكل ، شهقت في ألم ، حين نظرت إلي المقعد الذي كان يجلس عليه ، وحجرته الصغيرة المغلقة دائماً ، أحست بالشقة صامتة باردة ، عادت إلي وضعها السابق ..

تذكرت حين كان يجلس معها يحكي لها وتحكي له ، وحين كان يوقظها كل صباح يقبل جبينها ويديها قبل أن ينصرف ، رأته وهو مستلقٍ فوق " حجرها " وهي تداعب خصلات شعره .

في هذه اللحظة وفي مكان بعيد ، كانت حزمةً من ضوءٍ أبيض شفاف تهبط في هدوء ، تهبط أكثر مقتربةً من الأرض ، تجمعت وتداخلت حتى أصبحت بقعه بيضاء كبيرة متوهجة بلون فضي . سكنت قليلاً ، ثم بدأت تتشكل وتتحرك كهيكل إنسان ، أخذت شكل رجلٍ من ضوءٍ ، واضعاً يديه أسفل ذقنه وكأنه يفكر بعمق وهو معلق في السماء .

القمر كان بدراً ، بدرا ًيتجلي في الصحراء ، يضئ كل شيءٍ بضوءٍ أصفر ، ينتشر ضوءه ويطفو فوق كل شيء ، هبطت بقعة الضوء الشفافة ، هبطت في هدوء كورقة شجر ، يداعبها الهواء ، استقرت فوق الرمال الناعمة ، كان الرمال لها رائحة عبقة ، نفس الرائحة التي تشممتها الروح في اللحظة الأولى لخروجها من الجسد ، شعرت بنشوة عالية تملؤها ، وهي تتذكر تلك اللحظة ، التي أصبحت بعدها روحاً شفافة .

تحسست الروح الرمال ، وجدتها دافئة ، شعرت بحرارة دماء جسدها فوقها ، تأملت الأرض المتسعة أمامها ، رأت الأقدام لا تزال منطبعة فوقها ، رأتها بوضوح ، كل الأعوام السابقة لم تمحوها .
مدت يدها تداعب الرمال ، حين تحركت الرمال ، انبعثت الرائحة أكثر ، يفوح شذاها ويزداد مع كل قبضة رمال ، عبقت الرائحة المكان ، وانتشرت الرمال المضيئة ترفرف حول الروح ، كان الأمر أشبه باحتفالٍ ...

استلقت الروح ، تقبل الرمال في سعادة ، كمن يستلقي فوق فراشه الأوحد الذي يُحبه ، لم تشعر بالوقت الذي مر ، ولكنها تذكرت أن لزاماً عليها أن تغادر المكان إلي مكان آخر تحبه أيضاً .
صعدت الروح إلى أعلى ، ابتسمت ، حين نظرت إلي المدن الكثيرة حول القناة ، رأتها ، قد أصبحت أكبر ، أكبر من العام السابق ، تنام ساكنة هادئة آمنة ، رفرفت الروح ، حلقت في السماء .
مسحت الأم العجوز وجهها بكفيها ، وهي تبدل قدميها لتريحهما قليلاً .

ضيقت عينيها فجأة ، حين رأت ضوءاً مبهراً ، يلمع في السماء أمام " البلكون " ، رأته يقترب منها ، يقترب أكثر ، أحست برهبة تملكت أجزاءها ، حين ملأ الضوء " البلكون " الخشبية ، يفيض كَسيلِ مياه يخترق الشقة ، يلون الأشياء بلون فضي متموج ، حدقت الأم منبهرةً بما ترى ، جالت بقعة الضوء الفضية الكبيرة أرجاء الشقة ، وقفت فوق المائدة ، اهتز نفس المقعد الحزين متموجاً مع بقعة الضوء ، ابتسمت الأم وأحست بأن المقعد يبتسم أيضاً ، تجمعت بقعة الضوء ، وقفت أعلى صورة الابن ، استطالت ، تقوست ، بدأت تمر من خلال زجاج الصورة ، رأت الأم وجه ابنها أكثر ضياءً وبريقاً ، أحست به فرحاً بنظرة حانية دافئة ، شعرت للحظة أنها ليست صورته ، بل وجهه الحقيقى هو الذي يبتسم لها .

أحست بأجزاء جسدها تتراخى ، وكأنها خُدرت ، غالبها النوم فوق مقعدها .

حين استيقظت ، وقفت تنظر إلي داخل الشقة حائرةً ، ولكنها متأكدة من أنه بجوارها ، يعيش معها ، ويأتي إليها من وقتٍ لآخر يؤنس وحدتها .

جلست فوق نفس المقعد بجوار " البلكون " ، ونسائم صباح خريفي ، تداعب شراشف شالها الأسود ، ولكن وجه الأم الآن أصبح أكثر سعادةً ورضاً ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى