الأربعاء ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم محمد نجيب عبد الله

أنصــاف أشيــاء !!!

لم يكن هذا أفضل شيء أقوم به في حياتي ...

أو لربما هو أفضل شيء أستطيع القيام به في حياتي ...

كيف يدرك أحدكم أفضل شيء يمكنه أن يقوم به في حياته ؟!

وهل يجب أن يكون ما تقوم به هو أفضل ما تقوم به أو تستطيع القيام به؟!

أووف ...

يبدو أنني متضايق بالفعل ... بالرغم من كوني توقفت عن البكاء منذ خمس دقائق كاملة ... إلا أن الضيق لا زال يتملكني!!! فلماذا بكيت إذن إذا كان مقدّراً للضيق أن يبقى؟! أظن أن المرء يبلغ حدّاً من الضيق يحتاج معه لمتنفّس ما ... هل أشبّه الأمر لكم بحلّة الضغط ... يسمّونها (بريستو) ... من الضغط ... وإذ يغلي ما داخلها حتى لتوشك من قوّة الضغط أن تنفجر ... فيتسرّب بخار الماء من ذلك الثقب الرفيع الخاص يالصمام ... هو بكاء إذن ... و لكن من نوع آخر ...

أوووف ...

أظنّكم لا تفهمون بالضبط ما أعني ...

أنا أيضاً لا افهم ما أعني ...

بالرغم من كوني مهندساً ... و المهندس دوماً يعني ما يُفهم ... و يفهم ما يعني ... فهو مهندس ... والمهندس منظّم ومنمّق ومرّتب ... معطيات تؤدي إلى نتائج ... إذا ما كان الشيء جيداً فهو جيّد ... وإن كان سيئاً فهو سيء ... أليس كذلك ... ستقولون أنكم لستم بمهندسين ... ولن توافقوني على ما أقول ... وأن لكم آراءً مخالفة ... هذا حقّكم ... ولكنكم تفهمون ما أعني ... على الأقل هذه المرّة؟! ... أعدكم أنكم ستفهمون كل شيء ... أرجوكم افهموني ... هل تعدوني بالمحاولة على الأقل؟!

أووووف ...

أنا لست فقط مهندساً ... أو على الأقل هذا ما يحلو لي أن أظنّه ...

أنا أيضاً أرسم ...

لا أعرف إلى أي مدى أنا بارع في الرسم ... ولكن ما أظنّه حقاً هو أني حين أرسم أموت ... أو أكاد ... أنزف ... أنزف ... أنزف ... حتى يكاد الموت يقتنصني ... وكنت أظن أيضاً أنّي لو كففت عن الرسم ... أموت ... وقبل أن أرسم ... أحس كأنني سأموت لو أني لم أرسم ... ستتساءلون لماذا أرسم إذن؟! ... إنه مثل البكاء ... أنا أرسم عندما يضغط عليّ الموت كثيراً ... أو حتّى لا يضغط عليّ الموت كثيراً ... لذا فإني كنت أظن أن هذا هو ما يستقبله الآخرون ... رسمي ما هو إلا رسالة استغاثة ... في زمن يبدو أن الناس كفّوا عن الاستجابة لرسائل الاستغاثة ... لكن إذا ما رأي كل الناس رسومي سيأتي يوم ويقرأ أحدهم ما بين ضرات الريشة وتناثر الألوان ... سيومئ برأسه إيجاباً ويخبرني أنه فهم ... ربما أنا أعيش لأشهد هكذا يوم ... أيضمن لي هذا أن يصير الرسم أفضل ما أقوم به في حياتي؟! ...

وماذا أصير حينئذ ... المهندس الرسّام ... أم أكون نصف مهندس ... ونصف رسّام ...

أوووف ...

لم تفهموا أيّ شيءٍ بعد ... أليس كذلك؟! مع ني أظنّكم بدأتم ذلك ...

كانوا قد أعلنوا عن مسابقة في الرسم ... لتشجيع المواهب الصاعدة ...

كنت قد كففت منذ أمد بعيد عن الجري في حلبات السباق مع المتسابقين واللاهثين خلف الألقاب ... من قبيل أول وأحسن وأفضل... كانت تكفيني نظرة إعجاب في عين شخص لا يعرفني ... التواءة رقبة في تقدير ... تقليب شفتين في استثارة ... إنما الأشياء البسيطة ما تحرّكني ... تماماً كالحب ... يأسرني فيه الهمس واللمس واللطيف الرقيق ...

سامح الله شيطاني ... إذ وسوس لي وأوعز ...

ما لي أنا والأضواء والشهرة ...

ما لي أنا والانخراط في خضم أقدار مقدّرة مسبقاً ... وبلدان لا أملك خرائطها ...

المهم ... اشتركت ... وألقيت بإحدى لوحاتي القديمة المُهمَلة ... كأنّي أصرّ على عدم اكتراثي ويأسي قبل البداية ...

مرّ زمن زنسيت الأمر برمّته ... بل أكاد أكون نسيت الرسم أصلاً ...

انهمكت في مشروع هندسي ... ألهتني المادة كما تفعل معنا دوماً ... حاولت تذكّر آخر قصيدة قرأتها ... فلم أتذكّر ... مرّ وقت طويل منذ حضرت حفلاً موسيقياً أو معرضاً فنياً أو حتى قرأت كتاباً شيّقاً ... لماذ تحوّلت إلى آلة مصمتة إلى هذا الحد؟!

هي الدنيا إذن ...

ألا تفعل هذا بكم ... ألم تلهنا جميعاً التليفونات المحمولة وأحدث أغاني الڤيديوكليب ومشاكل عمرأفندي والعبّارة وانفلونزا الطيور ... أضيّع الساعات أمام شاشة الكومبيوتر وأتوه بين صفحات الانترنت ... أسهر حتى ساعات النهار الأولى وأتساءل ماذا فعلت اليوم فلا أجد إجابة ... هل تجدون أنتم؟! أتنقل بين قنوات التليڤزيون وأحفظ برامجها وأفلامها عن ظهر قلب ... وإن أحسست بالضجر ... فسأجد من معارفي وأصدقائي على المقاهي ما يكفيني وزيادة ... أيكون هذا ما دفعني للإشتراك في المسابقة ... أن أحرّك ماء حياتي الراكد؟! أن أستعيد شيئاً ... كنت أظنني فقدته؟!

فكرة مرعبة خطرت على بالي ... ماذا لو أني فقدت قدرتي على الرسم؟! ماذا لو أني الآن لا أستطيع أن أرسم؟! أعرف أنها مشكلة غير ذات قيمة بالنسبة لكم ... أولاً أنا مهندس ... ويمكنني أن أظل مهندساً حتى أموت ... وفي كل مكان أذهب إليه سيقول عني الناس مهندساً ... ثانياً أنا لست رسّاماً محترفاً ... ولا أظنكم تحفلون برسوماتي كثيراً ... مَن منكم شاهد لوحة قريباً وتأملها ... لا أظن الكثير منكم يفعل ... كما لا اظن أن كثيراً منكم سيقرأ سطوري هذه ... هذا ليس بزمن اللوحات المرسومة والسطور المقروءة ... حتى الأغاني صارت بديلاً عن بعض الأدوية الطبيّة ... تـُشاهَـد ولا تـُسمَـع ... هي نصف حياة إذن ... كم أفتقد فيها أكثر مما أجد ...

وجاء يوم اتصل بي القائمون على المسابقة ... التي كنت أظنني نسيتها ...

لقد اختاروا لوحتي ضمن التصفيات النهائية ...

تساءلت أي لوحة يقصدون؟! على مضض تذكرت ... هناك صعوبة في تذكّر أيّ شيء وكل شيء حالياً ... المرء بحاجة لمن يذكره بكل شيء ... حتى الصلاة ... استحدثناً جميعاً مَن يؤذن لنا على تليفوناتنا لأننا لن نتذكر الآذان بدونه ...

طلبوا مقابلتي ومقابلة كل المرشحين ...

هل تصدقون ذلك؟! ... ما الذي تحاول أن تفعله معي هذه الدنيا ... أتحاول مصالحتي؟! أتود الحياة ... ولو لمرة ... أن تُشعرني بنصفها الآخر الذي كنت لا أؤمن بوجوده؟!

وجاء موعد الحفل الختامي لتوزيع الجوائز ... خفق قلبي في قوّة ... وكان قد كفّ عن الخفقان إلا خوفاً أو رعباً ... أوّل مرة أتذوّق مثل هذا الاحساس!! لقد اتصلوا بي شخصياً وأكّدوا على حضوري ... أنا لم أجرّب الفوز قبل الآن ... أهو ممتع ولذيذ هكذا ... أتكون هذه مرّتي الأولى ... كنت متوتراً للغاية ... عصبياً بلا حدود ... تكاد خطواتي على الأرض تؤلمني ... وحين تأخر بدء الحفل قليلاً كنت على شفا الانهيار ... أدرك الآن احساس المقامر الذي يضع كل ما يملك انتظاراً لورقة ما أو رقماً لنرد ... لا بد أنه يموت و يحيا ألف مرّة حتى يلتقط الورقة أو يستقر النرد ... وما زاد الطين بلة تلك الاطالة البشعة في كلمة رئيس المسابقة و صاحب فكرة المسابقة والمتبرع بجوائز المسابقة والفائز السابق بالمسابقة وضيوف حفل توزيع جوائز المسابقة حتى ظننت أنهم سيطلبون من كل فرد في هذه القاعة أن يلقي بكلمة ... لو أن أحدهم جاءني الآن وهمس في أذني أني لم أفز لاسترحت وانتهى كل شيء ...

كم هو قاسٍ الانتظار ...

كم هو قادر على أن يُفقدنا هدوءنا وقدرتنا على التحمّل ...

كم هو جدير باصابتنا بالجنون ... ألذا كان الصبر من شيم الأنبياء؟!

وأخيراً جاءت اللحظة الحاسمة ... حيث يبدأون دوماً بالاعلان عن أسماء الخاسرين ... عفواً ... الذين لم يحالفهم الحظ ... وهو نوع آخر من القسوة ... حيث يتحتم عليك أن تواصل الانتظار وأنت ترى الفائزين يتوالون أمامك الواحد تلو الآخر ... لا تكف حينها عن لوم نفسك واحساسك بالقهر والهزيمة ... ألم أستطع حقاً أن أكون واحداً من هؤلاء؟! هل أنا فاشل وضعيف إلى هذا الحد؟! أهذا المعتوه أفضل منّي؟!! أفازت هذه العرجاء وأنا لم أفز؟!

وجاء اسمي أوّل الأسماء ...

وحتى لا تكون الهزيمة نكراء ... والألم مخزياً إلى حد يستحيل الحياة بعده ... كانوا رحماء بنا رفقاء ... إذ صرفوا لنا جوائز تعويضية أو تشجيعية لا أجد اسماً مناسباً ... هي أقرب لما يصرفونه لأهل من يتوفّون في حريق قطار أو انهيار عمارة ... تذكرت جوهرتي أمل دنقل في قصيدته لا تصالح ... حين استبدلت عيناه بهما ... أرأى؟! ... هي أشياء لا تـُشتـرى !!

أصعد على المنصة تلتف ساقي حول ساقي ... و لا أرى حولي شيئاً ...

رهيب هو الأمل في الأشياء ... تعطيك دفعة قد لا يكون لنا قِبَل لها ... أنت لا تطلبه ولا ترجوه ... بل لا تملكه أصلاً ... بل هو كالقدر يهبط عليك من حيث لا تعلم ... يملكك و يتملّكك ... يستحوذ عليك وعلى خيالك ... يرسم صوراً وأشكالاً غير موجودة ... ويجبلاك على أن تحيا داخلها وتحياها ... تشمّها وتلمسها وتتذوّقها ... وإذ يتخلّى عنك إذ تجد كل ما حولك فضاء ... وأنت تسقط سقوطاً حرّاً ... بلا مظلة نجاة ... من أعلى نقطة في السماء ... تنسحق وينسحق قلبك داخل صدرك حتى تظنّه قد كف عن الخفقان وصار قطعة من حجر ثقيل يدهسك ...

أخبرني بعض الأصدقاء أني كنت أوشك أن أترنّح ...

أنني غمغمت وتمتمت ولم أنطق ...

أني كدت أسقط ... أو أني فعلاً سقطت ...

لو أني لم أرشّح أصلاً لكان أفضل ... كنت سأظل راقداً في بيتس مريحاً ومستريحاً ... أمارس اللغو الغثّ والنصف حياة التي أحياها ... أحسنّي الآن فوق المسرح بشهادة التقدير في يد والميدالية في الأخرى كأني في استعراض للأسرى أو جواري في سوق النخاسة ... ما كل هذه الأصابع التي تشير إليّ؟ّ بل لماذا يضحكون هكذا؟!

أسيكون من المناسب وأنا في موضعي هذا أن أبصق عليهم جميعاً !!

المـلاعـيـن السَـفَـلـة ...

المـتـآمـريـن ...

المـتـآمـريـن ...

ولكني لن أسمح لهم باستباحة عِرضي والشرب من دمي أكثر من ذلك ... لن أبكي أمامهم وأصل بمتعاتهم إلى ذروة الشبق ...

لي بيت أبكي فيه كما أريد ...

وباب ينغلق دوني فيسترني ...

وإذ بكيت ...

وإذ أحسست بالقهر والهزيمة والضآلة ...

إذ تذكرت الميدالية ...

التمع المعدن في الظلام حيث كنت أقبع ... وددت أن أقرأ ما كُتب عليها ... أضأت نوراً خافتاً ولكنه كان كافياً ... ولا أعرف من أين جاءتني القدرة على أن أبتسم ...

تذكرت أنها أيضاً ميداليتي الأولى ...

كفأر في جحر ... وبقوى خائرة حتى حدّها الأقصي ... بدأت أتحرّك في الظلام ... هي حركة أقرب ما تكون للزحف ...

مكتفياً بالضوء الشاحب للإنارة الخافتة بالخارج ... دخلت مرسمي ...

معبدي ... ملجأي وملاذي ...

وباحساس العابد الي أغوته كل الشياطين حين يؤوب إلى مسجده ويبدأ في صلاته الأولى منذ زمن ... أخذت أبحث عن فرشاتي وألواني ...

الغبار يعلو كل شيء ...

ولكني كأي حيوان بريّ يحيا حياة أوليّة طبيعية ...

اهتديت لطريق كل أدواتي ...

وبلا ضوء تقريباً بدأت الرسم ثانية ...

مكتفياً بنصف ضوء ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى