الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠١٤
بقلم عادل عامر

قوة الخطاب الثقافي الفعلي

إن الحقيقة تتشكل وفق الخطاب، والخطاب يتشكل وفق اللغة، ولذلك فإن اللغة خاضعة دائما لنوع من التأويل المستمر لفرض الهيمنة، ومن هنا فإن كل ما هو موجود مجاز لغوي يتم تأويله، أو تأويل ما هو مؤول من خلال توليد مستمر للمعنى وللقيمة، والذي هو حسب الرؤية النيتشوية توليد للقوة والهيمنة.

ميشيل فوكو يأخذ هذه الرؤية إلى أبعد مداها حيث الواقع هو من إنتاج السلطة. طبعا مفهوم السلطة لدى ميشيل فوكو ليست هي الأنظمة السياسية ومؤسسات الدولة فقط، وإنما كل العلاقات المعرفية والخطابية بين القوى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، التي تولد المعاني. ولذلك فإن ميشيل فوكو يعمل على حفريات معرفية لتشكل الخطابات ونقدها، وهي خطابات فعلت فعلها في الواقع من خلال السلطة، والتي هي بدورها فعل التاريخ. يقول ميشيل فوكو: "لا ينبغي البحث عنها (أي السلطة) عند نقطة مركزية تكون هي الأصل... وإنما ينبغي رصدها عند القاعدة المتحركة لعلاقات القوى التي تولّد دونما انقطاع، وبفعل عدم التكافؤ بينها، حالات للسلطة... السلطة حاضرة في كل مكان... لأنها تتولّد كل لحظة عند كل نقطة، أو بالأولى، في علاقة نقطة بأخرى..." (م فوكو: جينالوجيا المعرفة ص 106 بتصرف) ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن السلطة تولد نفسها في بنية الأفكار، وفي تفاصيل كل العلاقات الإنسانية والاجتماعية الحاضرة منذ التاريخ في السلوك الإنساني.. هل تراني أعمل هنا على تأويل كلام فوكو؟ إذا كان كذلك، فأنا هنا أؤسس لسلطة معرفية سبق وعمل فوكو على نقضها لدى الخطابات المعرفية حتى لدى التاريخ، حتى ذلك المهمش منه كما هو "تاريخ الجنون".

ماذا أريد أن أقول من هذا الكلام كله؟ الذي أريده هو أن أوضّح أن الخطابات الثقافية أيا كانت: علمية أو تقليدية وسواء تموضعت وفق إطارات سياسية أو دينية أو علمانية محددة، لا تصنع إلا حقيقتها الخاصة، والتي ليست بالضرورة هي الحقيقة المطلقة، إذ لا وجود هنا إلا للتأويل اللغوي لمعاني وقيم فرضتها الهيمنة الثقافية لخطاب على الخطابات الأخرى.
إن الخطابات الثقافية التي لها وجودها الفعلي على أرض الواقع ليست إلا خطابات تاريخية، ولا يعني وجودها صلاحيتها التاريخية أو امتلاكها الحقيقة بقدر ما أن المسألة راجعة إلى النتيجة الفعلية التي تتبلور من خلال المصلحة، حتى ولو كانت أقرب إلى الوهم منها إلى حقيقة متجسدة. الوهم أحياناً يحقق مكسباً ماديا للإنسان لذلك نجد من يتمسك به حتى ولو من أجل التوازن النفسي على الأقل أو الإحساس بالقيمة والمعنى من الوجود.إن صور وأشكال الرعب المحلي المنتَج من قبل الساسة اليوم تحول إلى انساق من العلاقات السلطوية التي هي عبارة عن مجموعة من العلاقات اللغوية، بمعنى أن اللغة تُمأسِس الحياة اليومية بروتين سياسي من التداول اللغوي واللساني الذي يعمل على أعادة إنتاج هياكل وأبنية الثقافة الشمولية التي لا يمكنها أن تشكل التاريخ والأشياء إلا من خلال السساتيم الاجتماعية والثقافية بوصفها انساقا لغوية تُصَنِف وتُهيكِل وتَفرز وتُسمي الوجود اليومي ليتحرك على طريقة الوجود الشمولي. ربما أن هذه اللغة بمجمل ترميزاتها الثقافية هي اللغة التي نتكلمها ونعيشها كوجود يومي بل إنها اللغة التي تشكل تاريخ الذهنيات الذي يصب في مصلحة تاريخ الأيديولوجيات لان الأيديولوجيات، في النهاية، هي مجموعة من الممارسات الذهنية للأفراد بوصفها ممارسات زائفة تُحنِط الوعي بأنساق سيكولوجية تقدس السلطوي في حضوره وغيابه بل تتلبس بكلمات وشعارات وانساق تعبيرية ولغة يومية وأشكال ترميزية. إن كل أشكال وأنماط الثقافة الشمولية حولّت الأفراد إلى كيانات تهذي وتقدس السلطة في تكية الأولياء ومعبد الثقافة ومحراب المثقفين. هكذا تغدو اللغة ليست فقط ممارسة اجتماعية بل أنها كولونيالية ثقافية تتحرك من خلال امبريالية المعاني الراسخة والكتابات الخالدة، أنها لغة تتنفس من خلال ألآم أجسادنا اليومية، وتختزل وجودنا بين شهادة الميلاد ودفتر الخدمة العسكرية، ووثيقة التسريح كشهادة من قبل الأنظمة الشمولية بأننا نحمل منذ الآن درجة الكفاءة الكاملة في ممارسة حق الكلام الشمولي بمعزل عن معسكرات الجيش وساحات التدريب ووحدات القتال ومقولات نواب الضباط وضباط الصف وكلمات الجدران المكتوب عليها عبارة "عرق التدريب يقلل من دماء المعركة".

هذه هي لغتنا لغة البسطال والنطاق واللون الخاكي ولغة البيرية الحمراء والسوداء وربما الخضراء، كل لون له فوبيا خاصة من الخوف والرعب والارتعاش، فالأحمر يرمز للانضباط العسكري، وما أدراك ما الانضباط العسكري! هي تلك المؤسسة القمعية التي عملت على تدجين أجسادنا وجعلها أداة طيّعة في يد السلطة الشمولية بل إنها المؤسسة التي مارست القمع بطريقة منتظمة من خلال المراقبة والمعاقبة لأولئك المتخندقين في ثيابهم العسكرية، الحالمين بأمل العودة إلى بيوتهم بعدما امضوا أياما وليال في جبهات القتال ومراكز التدريب وممارسات التعذيب وأشكال لامتناهية من القتل والتذويب، هؤلاء هم من ينتظرهم الانضباط العسكري ليُعمِد نماذجهم العسكرية وليلعن كل من لا يحمل ذلك الأذن المقدس ليُصَنف كهارب من الخدمة العسكرية، فتطبق بحقه أبشع وأقسى أنواع العقوبات، ربما أبشعها بتر جزء من أعضاءه الجسدية وحرمانه من حق الكلام والتأويل وإعطائه حق الإصغاء والإذلال، انطلاقا من الحكمة الشمولية الخالدة "نفذ ثم ناقش" أو ربما عليك أن لا تفكر بالمناقشة إطلاقا! وترتبط سيادة اللاعقل الموروث باستشراء ما أسماه ياسين الحافظ الوعي المفوّت. وهو وعي جمعي أسير صور متخيله ضحلة للتراث وصور متخيلة ضحلة للحضارة الحديثة. وهذا الوعي المكبّل يغيب الواقع الطبيعي والواقع التاريخي لأنه يغيب العقل نفسه. وهو، من ثم، يشل الإرادة الجمعية ويفتت العقل الجمعي، فتضيع البوصلة والأهداف والمهمات. فالوعي المفوّت يجعل من الجماهير كتلة صماء، مجرّد موضوع مفعول فيه وبه وعليه غير قادر على الفعل التاريخي المؤثر والمنظم. من ذلك يتضح أن تخطي الوعي المفوّت صوب وعي موضوعي نقدي محدّث هو شرط أساسي للنهوض والتحديث. فالوعي المفوّت غير قادر بتكوينه التاريخي على رؤية الواقع الطبيعي والواقع الاجتماعي التاريخي الفعليين. فهو أسير صورة أسطورية متخيلة تحول بينه وبين الواقع الفعلي. من ثم، فهو غير قادر على التفاعل المنظم المؤثر مع الواقع الفعلي، ومن ثم على تغييره تغييراً موجها. لذلك، فقد ساهم مساهمة رئيسية في إعاقة حركة التحرر القومي العربية، ولجمها وإضعافها، والحيلولة دون تنظيمها تتظيماً محكما مؤثراً، وإفسادها من الداخل، وتعطيلها. فجعلها تتراجع لكي يحل محلها قوى اللاعقل الموروث، التي تعمل على تعزيز الوعي المفوّت وترسيخه في المجتمع العربي.

أليست تلك هي لغتنا، لساننا، أصواتنا، صراخنا، أليست هذه هي قواعدنا ومنظوماتنا النحوية وممارساتنا اللغوية؟ هذه هي لغتنا المحرمَة من النقد والتي يقدسها كل من يريد أن يبقى بمنأى عن السلطة ونقد السلطة لان نقد تلك اللغة هو بداية لنقد كل أشكال الأنظمة الشمولية، لذا ترى الكثير من الكتاب بل حتى الأكاديميين يبذلون كل ما في وسعهم للحفاظ على تاريخ البلاغة المؤدلَج ويحصرون أنفسهم ببحبوحة معرفية تضمن لهم حق الامتيازات والترقيات الأكاديمية، فعلى حد تعبير الفيلسوف الفرنسي آلان تورين: (( ليس العلماء أو جميع فئات الكتبة عقولا بحتة تطفو على صفحة المعمعة، ولا أرباب أيديولوجيات. فهم يرتبطون بالطبقة القائدة بالمقدار الذي تسيطر فيه على منظومة العمل التاريخي والمنظومة السياسية وتولي الأفضلية لبعض مجالات البحث، وهم مرتبطون كذلك بمقدار ما ينتمون إلى أجهزة تتصل مباشرة بالطبقة القائدة))
. ويواصل تورين نقد ظاهرة استقلالية الخطاب العلمي والأكاديمي الذي يدّعي الموضوعية ويرفض كل التحولات الأيديولوجية والسياسية، فيرى أن طبقة العلماء والأكاديميين ليسوا : (( فوق المعمعة الاجتماعية والسياسية، ولا يقتصر عملهم في الوقت نفسه على إيديولوجية الفاعلين المجابهين. إن العلماء يجدون أنفسهم على الدوام في موقف زائف فهم يدافعون عن استقلالية المعرفة العلمية ضد الضغوط الإيديولوجية))

فهل هنالك علاقة جدلية بين البلاغة السياسية الشمولية وطبقة المثقفين والعلماء والكُتاب، طالما هم يحتمون بالمعرفة العلمية المؤدلجَة ويتعالون على المعرفة المرحة على الطريقة النيتشوية؟ وهل هناك ثمة تواصل ابستمولوجي بين البلاغة السياسية وبين كل من البلاغة الثقافية، التعليمية والأكاديمية؟ من خلال هذه الترسيمة العلائقية تتحرك اللغة كمنظومة أيديولوجية متجسدة ومشخّصة في الكلام كحضور ابستمولوجي في الموقف الثقافي والتاريخي للمتكلم أي أن اللغة ثقافة والثقافة لغة، واللغة موقف متعين كوجود مؤكد في العالم اليومي. لكن اللغة هنا هل هي مجرد ممارسة اجتماعية؟ وهي لا تظهر في خطابنا الثقافي إلا "كممارسة حكوماتية" على حد تعبير ميشيل فوكو

بمعنى إنها ممارسات سلطوية تَستبطِن مجمل نماذج وبردايمات الوجود الثقافي لتقوم بتحويل النماذج النظرية للثقافة إلى ممارسات يومية. بهذه الطريقة تتحرك البلاغة المؤسسية على حد تعبير تورين، الذي ينظر إلى البلاغة كثقافة إيديولوجية في يد الطبقة المسيطِرة، حينما يصف لنا المعنى الابستمولوجي للبلاغة السياسية فيرى أن ما((ينجم عن استقلالية المنظومة السياسية أنها تمتلك عملاء خاصين يجهدون في استنباط دور للمنظومة السياسية "لا تملكه" ،فالمشرّع يُضحي أصل كل شيء، والسياسي يحكم الاجتماعي))


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى