الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٤
بقلم عادل عامر

عرض القوة بين محورين

تأثير من أرسطو، وإلى حدود الفلسفة الحديثة، سيطرت على الفلسفة السياسية مقولة الاعتدال ضمن تصور يعتقد في وحدة الأخلاق والسياسة على أساس أن السياسة هي المجال الأوسع للممارسة الأخلاقية وأنها كمال الفلسفة العملية بوصفها تدبيرا للمدينة يتوج تدبير النفس و تدبير للمنزل معا. وقد عبر عن ذلك أستاذه أفلاطون حينما تمنى أن يكون الحاكم فيلسوفا أو أن يصير الفلاسفة حكاما ليحصل الجمع بين السلطة والحقيقة، مادام الفلاسفة على حد تعبير أفلاطون هم أصدقاء وحلفاء الحقيقة والعدالة والشجاعة والعفاف، أصحاب العقول المولعة دائما بالعلم الذي يتناول الدولة بكاملها ليقيم تنظيمها الداخلي على أفضل وجه ممكن مستلهما قوانين الجمال والخير والعدل

في إطار هذا التصور الأخلاقي للمجال السياسي وللسلطة السياسية، يوصي ابن خلدون أن تكون العلاقة بين السلطان والرعية مبنية على الرفق في التعامل: فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم ، فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن.

كما يتوجب عليه التحلي بالاعتدال الذي هو الوسط بين الذكاء بما هو إفراط في الفكر والبلادة بما هي إفراط في الجمود مثلما أن الكرم وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين التهور والجبن من جهة أخرى. سابات إسرائيل مختلفة عن حسابات إيران في هذا الطرح، ذلك أن تل أبيب لم يعد يهمها شيء من الجانب السوري لاسيما بعد لعبة نزع السلاح الكيمياوي وقيام القوة الجوية والصاروخية بتدمير أي هدف عسكري سوري في أي وقت من الحاجة إلى إعلان حرب مع ضمان عدم تدخل إيران وحزب الله أيضا. لكن الذي يهم تل أبيب هو التغيير الواضح في الأولويات الأمريكية في المنطقة وتخلي واشنطن عن الخيار العسكري في معالجة أزمات المنطقة من العراق إلى سوريا فإيران وهذا يجعل إسرائيل هي الوحيدة التي ترفع صوت الخيار العسكري في مواجهة المشكلات. كما يقلق إسرائيل عدم وجود بعبع في المنطقة بعد خروج القوة السورية من المعادلة الإستراتيجية وبقاء بعبع صغير مستنفد الاستخدامات من قبلها هو حزب الله الذي قد لا تحركه مجدداً إيران المرتاحة من أمريكا والغرب بعد إتمام الاتفاق النووي النهائي.

غير إن حسابات إيران في التقارب مع السعودية فيما لو قام هذا المحور الإيراني السعودي تتركز فائدتها في تخفيف الشحن الطائفي الذي قلب موازين إيران ضدها في العراق وكذلك سوريا التي لاتزال الملف الأصعب وأن الحل فيه لا يمكن أن يتم من غير السعودية مهما حدث من تغيرات كما هو الحال مع الأهمية الإيرانية في قرارات المصير السوري. الاثنان إيران وإسرائيل هما الطرفان القويان في معادلات الشرق الأوسط لكن اللعبة التكتيكية تتطلب من الأقوياء دائما كلٌ لوحده اللجوء إلى تحالفات مع الضعفاء لترجيح كفة قوي على قوي آخر. ومن ثم يبقى الاختلاف واضحا بين سعري القوي والضعيف، وشتان مابين السعرين.

هكذا فإن ابن خلدون يحدد طبيعة السلطة السياسية في التشبث بمكارم الأخلاق المتمثلة أساسا في الرفق والاعتدال. ولكن إلى أي حد تستطيع الأخلاق أن تنسجم وطبيعة السلطة السياسية في الممارسة العملية؟ليس محصوراً في توقّع احتدام المعارك بين المعارضة من جهة والجيش السوري ومقاتلي «حزب الله»من جهة ثانية، بل لأنّ الرقعة التي كانت تتحرك فيها تلك الجماعات بدأت تضيق عليها شيئاً فشيئاً».وتشير عملية فكّ قوى المعارضة وتركيبها المستمرة فصولاً منذ ما قبل جلسات مؤتمر جنيف ـ 2، الى أنّ حسم قرار مرجعيتها دخل في طوره شبه النهائي، مع توالي التقارير والمعلومات التي تتحدث عن بدء تسلّم التشكيلات الجديدة للمعارضة سلاحاً نوعياً، وفق ما أوردت إحدى الصحف البريطانية أخيراً. وتقول الأوساط الأميركية نفسها إنه «على رغم إعلان البيت الأبيض احترامه قرارات السعودية والإمارات والبحرين الأخيرة في شأن «الإخوان المسلمين»، فإنه لا يعتبر هذا التنظيم إرهابياً. وليس منطقياً أن تكون هذه الخطوة بعيدة من الاتفاقات والنقاشات الكثيفة التي شارك فيها مسئولون أمنيون عرب وإقليميون في واشنطن أخيراً. والتباين في هذا الملف مردّه الى موقف سياسي وأيديولوجي أميركي أصلي في تعامله مع تيارات الإسلام السياسي برمّته».بيد أن تقديم الفرد على الدولة - كما رأينا مع التصور التعاقدي والليبرالي- لا يعني عند بعض الفلاسفة سوى خراب هذه الأخيرة! إذ كيف يعقل أن يستمد مبدأ الكل من الجزء والدائم من العرضي؟تتمثل غاية الدولة عند أفلاطون في تحقيق السعادة، لا بوصفها سعادة الفرد، بل بوصفها نظام وانسجام الكل: وعليه لا يعدو الأفراد عن كونهم مجرد لوالب في جوف هذه الآلة الضخمة المسماة دولة، يقومون بمهام تتناسب وطبائعهم التي ولدووا بها، ينتجون وينجبون ويحاربون من أجل الدولة. فلا قيمة لرغباتهم أو مسراتهم أو أحزانهم أو عواطفهم إلا بما يحقق لهذه الأخيرة النظام والانسجام. وفي العصر الحديث، يرفض "هيجل" بدوره التصور التعاقدي السابق لكونه يجعل غاية الدولة "خارجية " عندما يحصرها في تحقيق السلم والحرية وحماية ممتلكات الأفراد. فالدولة بهذا المعنى ستكون مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجة عنها، أهداف يعتبرها "هيجل" خاصة بالمجتمع المدني، كمجال لإشباع حاجيات الأفراد اليومية والإنتاج الاقتصادي وللتنافس بينهم في ظل تعارض مصالحهم الخاصة، في حين أن الدولة تمثل غاية في ذاتها بوصفها تجسيدا للمطلق. و ككيان ينتزع الفرد من الخصوصية والأنانية ليسمو به إلى مستوى الكونية ويحقق اكتماله الأخلاقي، وذلك لأنها هي الجوهر الأخلاقي وقد وصل إلى الوعي بذاته. نخلص إلى أن هيغل يقدم الدولة على الفرد ويجعلها سابقة على الأسرة والمجتمع المدني نفسيهما لأن فكرتها محتوية لهذين العنصرين معا: ففي حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني. ويبدو أن الماركسية لم ترث عن الهيغيلية منهجها الدياليكتيكي فحسب، بل تصورها الكلياني للدولة بإسم أولوية الجماعة على الفرد، وانتهت إلى صهر هذا الأخير وإلغائه لصالح الدولة وأجهزتها البيروقراطية والبوليسية: لقد غدت الدولة فعلا غاية في ذاتها وهذا ما تجلى واضحا في بعض الأشكال الواقعية للدولة في الكثير من البلدان الاشتراكية ودول العالم الثالث لذلك فربما نلتمس العذر لبعض الدبلوماسيين والسياسيين الذين يشككون في جدوى ومصداقية الاتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخراً مع بيونج يانج.

ومن المقرر أن تجتمع الأطراف المشاركة في المفاوضات السداسية الخاصة بالأزمة النووية لكوريا الشمالية خلال ستين يوماً لتأكيد الاتفاق الأولي بين واشنطن وبيونج يانج والبدء في تطبيقه. وإذا استمرت كوريا الشمالية على موقفها المساوم فمن المنتظر أن يكون هناك المزيد من المفاوضات لمناقشة سبل تفكيك القنبلة أو القنابل النووية التي في حوزة كوريا الشمالية بالفعل. والحقيقة أن كوريا الشمالية وهي دولة شيوعية تعيش في عزلة كاملة تقريباً عن العالم الحديث وتدعم اقتصادها المتداعي من خلال مئات الملايين من الدولارات التي تحصل عليها من خلال بيع الصواريخ بعيدة المدى وغيرها من الأسلحة إلى الحكومات والمنظمات التي تدور الكثير من الشكوك بشأن مواقفها ونوايها تجاه الولايات المتحدة على وجه التحديد. ومازال احتمال إقدام كوريا الشمالية على بيع قنابل نووية إلى منظمات إرهابية يثير قلق العديد من العواصم العالمية وبخاصة واشنطن. ولكن لأسباب عديدة من الصعب بالنسبة للولايات المتحدة أن تفكر في المواجهة العسكرية مع كوريا الشمالية. لذلك فالأمل مازال قائماً في إقناع نظام بوينج يانج بالتخلي عن طموحات النووية من خلال الدبلوماسية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى