الجمعة ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤
بقلم مادونا عسكر

فن الإصغاء

إنّ عدم الإصغاء أو عدم القدرة على الإصغاء إلى الآخر، يُعتبر مشكلة قائمة بين البشر، إذ إنّه ومنذ صغرنا لم نعتد الحوار السّليم ولم نتعلّم، بشكل عام، الأسس السّليمة للحوار. والأشخاص الّذين يصغون إلى الآخر هم الّذين يجيدون كيف يسمعون وماذا يريدون أن يسمعوا من الآخر بهدف التّواصل معه بشكل سليم.
بشكل عام وخاصّة الشّرقيّين لا يتقنون فنّ الإصغاء أو يصغون بشكل سلبي ممّا يؤدّي إلى توتّر العلاقة مع الآخر بسبب تجاهلنا له. وما لم نصل إلى القدرة على الإصغاء للآخر فكيف لنا أن نتفاهم معه؟
 لماذا نواجه صعوبة في الإضغاء إلى الآخر؟
في الحقبات الحديثة للبشريّة، كان هناك تشديد على هذا الموضوع من حيث تعلّم التّقنيّات الجديدة الّتي تساعد على حوار أفضل وتواصل أحسن وبالتّالي مقدرة على الإصغاء أكثر. بمعنى أنّ هذه التّقنيات خلقت وسائل تدرّب الإنسان على الإصغاء والتّواصل بطريقة أفضل. ولوحظ أنّ هذه التّقنيّات وعلى الرّغم من كثرتها لم تؤدِّ إلى نتائج مرضية، لأنّه بالمقابل يعترض الإنسان عامل ثانٍ ومهم جدّاً، يلعب دوره في إعاقة هذه التّقنيات، ألا وهو عامل الوقت. فالمسؤوليّات الكثيرة والمتفاقمة، والصّعوبات اليوميّة الّتي بات الإنسان يواجهها بكثرة تساهم في اضطرابه فيشعر أنّ ليس لديه الوقت الكافي ليصغي للآخر.
كذلك كلّ المعطيات تشير إلى أنّ الإنسان يحتاج لتقنيّات ليحسّن آداء تواصله مع الآخر، كما أنّها تشير إلى أنّ عدم قدرته على التّواصل والإصغاء، تدخل في صلب العلاقات الّتي يريدها سليمة إن كان على صعيد العلاقة الزّوجيّة أو العائليّة أو الصّداقات.
وفي كلّ الابتكارات الجديدة ومنها التواصل من خلال الهاتف أو شبكات التواصل الاجتماعي إلّا أنّ إمكانيّة التّواصل مع الآخر اتخذت طابعاً آخر يمنع علينا مشاهدته وهو يتكلّم، أي لا يمكننا مشاهدة ردّة فعله المرافقة لكلمته. وهذا قد يشكّل حساسيّة عند البعض بحيث أنّ هذا العامل ضروريّ جدّاً في القدرة على التّواصل. بالمقابل تمّ تحديث هذه التّقنيات بشكل مهنيّ لتساعدنا أكثر على التّواصل، إلّا أنّ عمليّة الإصغاء يجب أن تأتي بشكل طبيعيّ من خلال أسلوب العيش والتّربية.

كما أنّ صعوبة التّواصل والإصغاء تنتج عن عوامل عدّة أهمّها:
 التّربية العائليّة:
لمّا كانت السّياسة السّائدة في مجتمعاتنا هي سياسة الإملاء وليس سياسة الحوار، فبالتّالي نحن نفتقر لتقنيّات التّواصل الطّبيعية.
يتعلّم الإنسان تقنيّات الإصغاء والتّواصل بالدّرجة الأولى في الحياة العائليّة، وهذا ما نفتقده حتّى اليوم في مجتمعاتنا. وعلى الرّغم من التطوّر الحاصل في التّقنيّات التربويّة الحديثة فإنّنا لم نتخلّص بشكل جليّ من الأسس العقيمة المتعششة فينا. ويلعب الأهل دوراً أساسيّا في كيفيّة تعليم الأبناء فنّ الإصغاء من خلال الممارسة وليس من خلال الوعظ. فإن أصغى الوالدين لأبنائهم أيّاً كانت المواضيع والهواجس الّتي يطرحونها، ساعدوهم على التّواصل بشكل صحيح. أمّا وإن استمرّت التّربية في سياق الأمر والطّاعة بدون أي نقاش فلا بدّ من أن ينشأ الأبناء على فرض آرائهم دون الأخذ بعين الاعتبار رأي الآخر. لا ندعو هنا إلى عدم طاعة الوالدين، ولكننّا ندعو إلى النّقاش والحوار في سبيل أن يطيع الإنسان عن وعي وليس عن خوف.
قد يشكو الأهل اليوم من عدم توفّر الوقت للإصغاء لأبنائهم بسبب كثرة المشاكل ووفرة المسؤوليّات والحياة الصّعبة. ولكن الوقت المطلوب للإصغاء لأبنائنا يفترض أن يكون نوعيّاً لا كمّيّاً، كما يفترض أن نخصّص لهم قتاً معيّناً لنصغي لهواجسهم ومشاكلهم. إنّ كيفيّة الإصغاء لهم والتّفاعل معهم يدرّبهم بشكل تلقائيّ على الإصغاء للآخر والتّفاعل معه.

 التّربية المدرسيّة:
ما زال الطّلاب في المدارس إن على مستوى المناهج أو على مستوى كيفيّة تعامل المعلّم مع الطالب، يعانون من عدم القدرة على التّواصل. وذلك لأنّ المناهج تحتاج للتّطوير المستمرّ والانتقال من كيفيّة تلقين الطّالب إلى كيفيّة استفزاز ملكاته ومناقشة أفكاره والإصغاء له. عندها يبلغ العلم هدفه الّذي هو بناء شخصيّة الفرد وليس حشو الرّأس بالمعلومات فقط. كما أنّ للمعلّم دوراً أساسيّاً وفعّالاً في تدريب الطّالب على التّواصل لأنّه قد يؤثّر في شخصيّته أكثر من الأهل، ولأنّ التربية جزء لا يتجزّأ من مهنته.

 افتقادنا للمؤسّسات والاختصاصات الّتي تدرّب على التّواصل:
حتّى يومنا هذا ما زال مجتمعنا يعاني من قلّة حركة فاعلة للمجتمع المدني من حيث الإرشاد الطّبي والنّفسي، ومن حيث تقبّل المرشدين الإجتماعيين والأطباء والمعالجين النّفسيين لمساعدتنا على تقويم قدرتنا على الإصغاء والتّواصل، وما زلنا نضع هذا الموضوع في إطار الكماليّات. إلّا أنّه من المهم جدّاً وفي حال الاعتراف في افتقادنا لهذه القدرة، أي التّواصل مع الآخر، أن نلجأ إلى اختصاصيّين ليمكنونا من تحسن سلوكيّاتنا وتقويمها. فالمرشد الإجتماعي أو المعالج النّفسيّ يملك التّقنيّات المهنيّة لإرشادنا ومساعدتنا وليس عيباً أن نلجأ إليهما.

 ما الّذي يمنعنا عمليّاً من الإصغاء بشكل صحيح؟
إضافة إلى كلّ العوامل الاجتماعيّة والحياتيّة، توجد عوامل أخرى تعرقل مقدرتنا على الإصغاء إلى الآخر. لدينا صعوبة في جهوزيّتنا لسماع الآخر وهذه الصّعوبة تنطلق منّا وليس منه. وتتجلّى هذه الصّعوبة بأربع نقاط:
 النّقطة الأولى: الانهماك بالمشاكل الشّخصيّة الّتي نعاني منها والّتي تلقي بثقلها علينا ولا يعلم بها الآخر.
 النّقطة الثّانية: عدم التّحلّي بالصّبر، ففقدان هذا العامل ينزع منّا القدرة على التّواصل، وبالتّالي وجوده يشكّل عاملاً أساسياً في تحسين القدرة على التّواصل مع الآخر. وما يمنع الإنسان من التّحلّي بالصّبر إمّا أفكاره المشتّتة، وإمّا لأنّ الموضوع المفترض سماعه لا يعني له، أو أنّه ليس بأهمّية الوقت الّذي يكرّسه للشّخص الموجود أمامه.
 النّقطة الثّالثة: في حالة الإرهاق الجسدي، التّعب، الجوع، الهمّ، يجد الإنسان صعوبة في الإصغاء إلى الآخر لأنّ ذلك يتطلّب ما هو أهمّ من الحضور الجسدي وهي القدرة الدّاخليّة.
 النّقطة الرّابعة: الدّخول مع الآخر في حوار ونحن محمّلون بأحكام مسبقة، ما يولّد في أنفسنا نفوراً منه وبالتّالي إطلاق الأحكام المسبقة يؤثّر على جميع العلاقات ويحوّلها إلى أن تصبح محدودة بإطار واحد، بمعنى أن نضع الشّخص بإطار سلبي أو إيجابي.
 ما هي الوسائل الّتي تمكّننا من تحسين المقدرة على الإصغاء؟
عندما يتوجّه إلينا شخص ما بحديث معيّن أو فكرة معيّنة، يتطلّب منّا الإصغاء عندها جهوزيّة كاملة وداخليّة، فنستنفر كلّ قوانا ونوظّفها بشكل فعّال لنكون موجودين بكلّيّتنا في حضور الآخر. كما أنّ الإصغاء يتطلّب مجهوداً نستخدم فيه كلّ قوانا بشكل أن يشعر الآخر أنّنا حاضرون له وفقط له.
الإصغاء هو فعل جسديّ وحضور ذهنيّ وداخليّ يعبَّر عنه خارجيّاً بالجهوزيّة الكاملة. وهو حدث لأنّه يتطلّب منّا الكثير من الوعي والاهتمام بالآخر.
أن نصغي، يعني أن نكون جاهزين بكلّيتنا لسماع الآخر ومهتمّين بكلّ كلمة يقولها وبكلّ تصرّف يعبّر عنه وبالتّالي هذه الجهوزيّة تسمح لنا أن نفهم فكرة الآخر ومقاصده أكثر، ونقبله ونفهمه كما يريد أن يوصل فكرته وليس كما نريد أن نفهمها نحن.
الصّمت هو مفتاح هذه القدرة على الإصغاء، لأنّ الإصغاء إلى الآخر يفترض أن ننفتح داخليّاً على الطّريقة الّتي يرى فيها الأمور وعلى المعطيات الّتي يعيشها. لذلك فإنّ الصّمت يمنحنا القدرة على رؤية الأمور كما يراها الآخر كما يجعلنا نفهم كيف يتفاعل معها. إنّما هذا لا يعني أن نعيش الصّمت كيفما كان، لأنّه حتّى الصّمت له أوجه عدّة، منها ذاك الّذي يُعبّر عن غياب أو لا مبالاة. كما أنّه يمكن للآخر أن يأخذ علينا أنّنا غير موافقين على ما يقوله.
الصّمت الّذي يجب أن نعيشه لنتمكّن من الإصغاء هو ذاك الّذي يمنحنا الجهوزيّة الكاملة والدّاخلية للإصغاء إلى كلام الآخر. بمعنى آخر وبسيط، الصّمت هو أن نمنح ذاتنا للآخر في الوقت المكرّس له لنسمعه يتكلّم ونتفاعل معه. فإذا عرفنا كيف نصمت، عرفنا الولوج إلى داخل الآخر.
الإصغاء يمنحنا سلطة في التّقرّب من الآخر وهذا ما يعطينا المقدرة على حلّ الكثير من الإشكاليّات وتخطّي الكثير من القلق والاضّطرابات، ويحوّلنا إلى إنسانيّين متمكّنين من استيعاب ذواتنا واسيعاب ذات الآخر بما يعبّر عنه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى