الجمعة ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم محمد الخير حامد

كذبة إبريل

الجو يبدو صحواً .. وجميلاً ، والسحب تتحرك لترسم أشكالاً رائعة ، الرياح هادئة حتى بدت كنسيم عليل . وأنت تمشي على غير هدى ، لا تدري إلى أين تقودك قدماك في هذه المرة، فقد تعودت دائماً أن تطيل التفكير في كل أمر قبل الشروع فيه أو الإقدام عليه ، أما هذه المرة فأنت لا تعلم إلى أين ستقودك قدماك .. مغامرة كبيرة أن تكون تحت إمرة قدميك .. في يوم ما .

وها أنتذا تمر من أمام بقالة الأمانة التي كنت تشتري منها الحليب والسكر كل مساء .. تمر من أمامها دون أن تلقي بالتحية على صديقك أحمد، الذي يبدو منهمكاً ولكنه لمحك وأنت تمر من أمامه .. دون إلقاء التحية . سيحفظها لك ويذكرك بها يوماً ما .. فعليك بالاستعداد لمعالجة هذا الخطأ الفادح والدفاع عن نفسك من التهمة المتوقعة .. الغرور والتعالي .. خاصة وأنك أصبحت تكررها عليه هذه الأيام كثيراً .

ثم أنظر لهيئتك أيضا إنها تبدو على غير المعهود ، تبدو كأنك خارج لتوك من معركة كنت فيها خاسرا ومهزوما ، أو كأنك قد قمت بمشاكسة بعض الكلاب استمتعت بتجريب مخالبها على ملابسك .. وما الذي ترتديه على قدميك ، إنه من أصناف الأحذية التي لم تكن تروق لك في السابق ، إنك ترتدي اليوم حذاء من غير طلاء أو دهان ، يكاد لا يعرف لونه الأسود الحقيقي ، من غزارة الأتربة التي سقطت عليه، حتى أنها تتناثر مع كل حركة وخطوة تخطوها .. مما يدل على أنك قد تحركت اليوم كثيراً .. ولكن لا يزال اليوم في بدايته ولم تتخط الساعة العاشرة صباحاً .

معهد الفن والموسيقى .. ولمحت اللافتة المضيئة .. والكبيرة ، خطرت على ذهنك فكرة كانت تراودك منذ فترة ، تبحث عنها بشغف ، لماذا لا تدخل وتنضم إلى هذا المعهد لتدرس به الفن والموسيقى ، فإنك كما يقول أصدقاؤك . لديك موهبة فنية لا يشق لها غبار ، أقنعك هذا المنطق بالرغم من أنك ، تعلم أن العلاقة بينك والفن كالعلاقة بين الشرق والغرب ، ولكن ماذا تفعل؟؟... ، فقد كانت تملأ عليك حياتك . كانت بالنسبة لك.. كل شيء .. آمالك .. أحلامك .. أفراحك .. كنت تلجأ إليها كلما انتابتك نوبات الحزن والأسى كنت تلجأ إليها في كل اللحظات ، كانت تؤنس وحدتك وتزيل عنك الهموم والآلام ، بابتسامة منها توصلك الى شواطئ السعادة متى ما تهت في غياهب الهموم والأحزان ، كانت مسكناً لك من كل الأوجاع ، كانت حلماً جميلاً مر سريعاً ، وتركك في أوحال الاحتراق والعذاب .

كنت تظن أنها تكذب عليك عندما ألقت إليك بالنبأ الأليم وهي تكاد تحترق من الأسى .. كان صوتها عبر الهاتف يقول لك :

سأرحل غداً .. لم أعد أملك من أمري شيئا كما تعلم .
ما الجديد في الأمر ؟
لا أدري ولكن بعض التغيرات قد طرأت في الموضوع ..
ولم يخطر على بالك أبداً أنها صادقة فيما تقول ، إذ كان ذلك في شهر أبريل ، ظننت أن الموضوع لا بد كذبة ، فقد مر أول الشهر ولم تمارس معك بعض أكاذيبها البيضاء الحلوة .. تفاجأت في نهاية الأمر بأن الموضوع كان حقيقة ، ولم تكن هناك كذبة ولا أبريل ، تأكدت من ذلك بعد أن اتصلت بموظف المطار ، سألته بوجل عن طائرتها ، أجابك باقتضاب كأنه يعلم بلوعتك وخوفك .

الطائرة ستعود في الثالثة .
أجابك عن عودتها ، قبل أن يعود لمواصلة حديثه قائلاً أنها سافرت في السابعة صباحاً ، وكان ذلك الخبر اليقين هو المأساة الحقيقة بالنسبة لك.

ومنذ ارتحلت ، وأنت تمارس هذه الحياة الضائعة ، تمشي على غير هدى لا تعرف سبيلاً يخرجك من هذه المصيبة التي حلت عليك دون سابق إنذار ودون أن تفكر في الاستعداد لها ، كم من المرات يساورك التفكير وتحاول أن تقول لنفسك دائماً .. لماذا تحاول النسيان والسلوى والأمر عليك أصعب ما يكون .. فلتطلق لذكراك العنان .. لن تعني لك الحياة شيئاً بدونها ..

لهذا بدأت بالاشتراك في النادي ليشغلك قليلاً .. لفترة قد تمتد إلى بضع ساعات من اليوم تغطي لك فترة الصباح .. ولم يمر على اشتراكك في النادي يومان حتى أيقنت أن الأمر لا يعدو أن يكون إلا مسكِّنا ،ً يزول مفعوله مع كثرة الاستعمال والزمن . ولم يكن النادي يأخذ من زمن اليوم إلا القليل ، فصنعت لنفسك برنامجاً آخر ، وهو الانضمام لمسابقات السباحة بعد الثالثة ظهراً ، أخذت تندمج في هذا البرنامج ، الذي ظننت انه آخر العلاج والذي سيكون فيه شفاؤك من الآلام تماماً . والآن لم يمض على رحيلها عنك أكثر من أسبوع واحد ، وأنت غارق حتى الثمالة في الألم والذكرى والأحزان ، تنتابك حالات من اليأس والكآبة ، لهذا أقنعت نفسك بالبحث عن برنامج ثالث لتقضي فيه فترتك المسائية حتى تنسى النيران المستعرة بداخلك ، ولا تشعر بالفراغ الذي تركته برحيلها ، فأصبحت تذكرها دائماً وهي بعيدة فتقتم الدنيا أمامك ، وتسود لحظاتك الهانئة السعيدة .

لهذا ما إن رأيت اللافتة المضيئة لمعهد الفن والموسيقى .. حتى أسرعت ودلفت إلى مكتب المدير وقمت بتسجيل اسمك ، والتوقيع ضمن الدارسين به دون أن تسأل عن التزاماتك وواجباتك ، فقد كنت تقبل كل الشروط والواجبات .. مالية كانت أو غيرها .. لأنك لن تجد برنامجاً آخر غيره إن تنازلت عنه، فقد كلت قدماك من البحث المضني .

وبدأت الدراسة بالمعهد .. قضيت اليوم الأول في الدرس والفهم .. انتهى أول يوم بالمعهد وأنت تشعر بأطنان من التعب والإرهاق ، تجثو على كاهلك كأنك تحمل الدنيا كلها فوق ظهرك .. وعدت إلى منزلك ، يحدوك أمل جديد في الاسترخاء والنوم .. من ينظر إليك يعلم تلقائياً مدى تعبك وإرهاقك ، كنت تظن أنك بعد هذا الإرهاق ستجد نفسك مرغماً على النوم بعد لحظات من وصولك إلى الفراش .. وصلت واستلقيت عليه .. لم يصدق توقعك .. وتبدد أملك ، ظللت تنظر إلى السماء كأنك تراها لأول مرة .. بينما كانت أعصابك في أقوى حالات تصلبها .. ظللت هكذا حتى دقت الساعة معلنة السادسة صباحاً .. وهو موعد نزولك إلى النادي لبداية يوم جديد وشاق .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى