الأحد ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٤
بقلم هيثم نافل والي

هَنس

في بعض الأحيان لا يحتاج المرء للفوز بالشيء الذي يريده إلى تقديم أشياء منطقية لحصوله عليه، بل يكون بحاجة أكثر إلى الشرح التقني الذي يقنع فقط، كما في المداولات والأحكام التي تدلى وتصدر في المحاكم للفصل في القضايا العالقة والمتنازع عليها؛ ولكن حتى عندما يفوز صاحبنا بما أراد أو تمنى نراه في الواقع لم يفز بشيء، ويخرج من هناك، أقصد الحياة، وهو خاسر... هذه هي فلسفة الحياة لمن يريد أن يعرفها، يا للخيبة!!

يا الله... لم يكن هانس يصدق على أنه ابن زنا وأنه رجل بليد، متقلب المزاج كالروج والموج، دائم التغير كماء النهر، غير متقد الذكاء وليس كثير الدهاء كما كان يتبختر كالطاووس في إعلان ذلك في كل مناسبة وعلى كل من يلتقي به، وأنه لم يخلق إلا لالتهام الطعام والشراب بفضاضة كريهة وممارسة الجنس بقابلية ضعيفة، مخجلة لا يمكن ذكرها بالخير أو الطيبة!!

ولد هَنس- كما كان يلقب بدلال من قبل أصحاب السوء - في برلين الشرقية قبل الوحدة، أي قبل اندماجها مع الغربية. فنشأ هناك وتعلم الكثير من فنون النصب والاحتيال دون أن يكون له أي صدى مميز بين صحبه وربعه ولا حتى في أقسام الشرطة!! لكنه ظل مواظبا وحريصاً على أن يفعل كل ما توسوس له نفسه دون تفكير كهر ابن زنا متسكع؛ سلخ الله جلده... إذ لازمته متعة غريبة لم يجن منها سوى الخيبة والآخرين التهلكة، وهي تحريضهم على إتباع نصائحه البلهاء، تلك التي لا تؤد إلا إلى طريق واحد اسمه جهنم الحمراء.

تجاوز الملعون عليه الثامنة والأربعين ولم يتزوج؛ كان قصيراً وتميل سحنته إلى الاحمرار، شعره لا يكاد يرى على رأسه لقلته؛ تقبع عيناه الصغيرتان خلف عدسات نظارته الطبية السوداء بخوف متلصصتان لا يستقر لهما قرار كرأيه؛ لصوته رنة غير مريحة، جافة وصدئه كتلك التي تصلك من بائعات اللذة وهن يعرضن بضاعتهن على رصيف إحدى الشوارع العتيقة المظلمة المشبوهة من أحياء برلين الفقيرة؛ بينما ظل شاربه أكثر شيء منفر فيه، فهو يشبه إلى حدٍ بعيد شعرات فرشاة الأسنان، يا له من شارب لعين، خشن، مضحك ومنفر في نفس الوقت.

حصوله على إرث خالته في الفترة الأخيرة زاده غرور وغباء لعينين، مما أفتك بما كان باقياً، صالحاً في حياته، فأصبح أكثر شراسة وعنجهية، خاصة عندما تتذوق شفتاه الشراب... فيأخذ ساعة ذاك يكرع المزيد دون إنصاف، وأول ما يتفوه به لسانه الثقيل هو:

يا للجحيم، هذه هي سنة القديس بولص، كم الرذيلة مذهلة ومدهشة، ثم يتابع بنفس الرنة المأخوذة:
آه... كم أتوق لأن أقترف إثماً حقيقياً!! وبكلمات ممطوطة كالدعاء يضيف:
يا رب العباد اجعلني من الكفرة الفاسقين وأدخلني في جهة جهنم المسعورة، ثم يسكت، يمسح فمه المخدر ويردف مقهقهاً برعونة وهو يعاود النظر إلى الأرض:

هذه هي رغبتي ووصيتي يا أرحم المعاقبين!!

كانت تركة خالته عبارة عن منزل جميل في إسبانيا مع رصيد سمين ودسم في البنك وسيارة نظيفة دائماً وتلمع، كأنها معروضة أبداً للبيع.

ضاعف كل ذلك من انبهاره ودهشته وبات لا يصبح عليه نهار، إلا وقد أرتكب حماقة تضحك كل من حوله إلى حد المغص اللعين، كما أنه لم يحاول يوماً أن يبدو حقيقياً، عفواً، أي وربي أقصد أصلياً، حيث دائماً كان يظهر وكأنه يمثل دور المقنع في كرنفال...

ها أنا سأروي لكم إحدى نوادره المميزة، تلك التي بقت عالقة في ذاكرتي كإصرار تعلق السن في الفكِ!!
قتل صديقاً له في إحدى الأيام المغبرة، الممطرة التي تحاول فيها أشعة الشمس أن تطل أو تتسرب عبر الغيوم ولم تفلح، نتيجة شجار قام بين ذلك الصديق وجمهرة من السكيرين الذين ما يبرحون أماكنهم المفضلة تحت الجسور القديمة، يا لها من حياة؟ ويا لها من متعة؟ وما أن جاء هانس كي يقدم العزاء إلى أهل صديقه المغدور، حتى تقدم منه أخو القتيل الذي يدعى توماس الذي كان له عقل ساذج، وقلب رحيم، في خريف العمر، وقد تناثرت على صلعته الملساء بعض الشعرات المتفرقة، طالباً منه مساعدته في الذهاب معه لجلب بعض المتعلقات التي تخص العزاء...

وافق هَنس بروح متعالية غير رياضية بقبول المساعدة بعد أن رفض الذهاب بسيارته الخاصة، فاستقلا سيارة توماس وانطلاقا نحو هدفهما دون أن ينبسا ببنت شفة، وجعلا السكوت يعلو ليكون هو سيد المكان... حتى ظهرت فجأة سيارة خلفهما وسائقها يحذرهما بطريقة مستعجلة من خلال إضاءة سيارته الأمامية ويحثهما على التوقف وهو يحاول التقرب منهما ليظهر وكأن سيارته تلتصق بسيارتهما...
 صاح توماس برعب بعد أن اختلج قلبه كما يختلج خيط الصنارة عندما تتعلق بها سمكة:
بحق السيدة العذراء سيقتلنا هذا، ثم ناح متمماً:
نجنا يا يسوع وترفق بنا ثم عوى متباكياً:
راعوا الله فينا يا قوم!! وتابع منفجراً، غاضباً كالرعد:
ماذا يريد هذا الأبله منا؟ وهو يدور مقود سيارته نحو اليسار ونحو اليمين محاولاً التملص والتخلص من متابعة تلك السيارة التي ظهرت فجأة كالقدر... فقاطعه هانس باشمئزاز ولؤم وهو يلوي شفتيه سائماً:
لا تسخر من مقدساتنا!!

 منْ...، أنا؟! مقدساتنا!! ( قال ذلك متقداً كوهج النار في موقد )

 نعم، ومن غيرك يجلس معنا الآن؟!

 كيف ذلك؟ ثم أدرك مستغرباً:

الرحمة حلوة يا هَنس، ماذا دهاك؟ لقد كنت قبل قليل هادئاً، لطيفاً وسرعان ما انقلبت عفريتاً متمرداً فجأة، ما الذي حصل؟!
 هكذا إذن... تقول ما لا تعني؟

 استغفر ربك يا هَنس... ربما يغفر لك على ما تفعله بي!!

 استغفر ربي!!( قالها بطريقة ماتعة لا صدق فيها )

ثم أدار هانس رأسه إلى الوراء بغية التعرف على نوع أو صاحب السيارة التي خلفهما، فرأى شخصين في داخلها... فزحف اليأس المشؤوم إلى قلبه، عندها لم تسيطر عليه إلا فكره واحدة، استسلم لها سريعاً دون سبب واضح، هي الاختفاء والتواري... فصرخ بجلف وضراوة بأخ القتيل بجنون معطياً أوامره الرعناء كما هي دائماً:

انطلق سريعاً يا توماس، وكأن عليه أن يسرع تلافياً للموت المحقق!! ثم تابع صرخته الهوجاء:

أنا أعرفهما جيداً، أنهما مافيا ويريدان قتلنا كما قتلوا أخاك... ثم حثه بهوس متابعاً، محاولاً إظهار التجلد والقوة: أقطع ذراعي إن خرجنا من هنا سالمين... فقاطعه توماس بارتباك مأخوذ قبل أن يمكنه من استكمال هتافه، فأجابه:
لأكن صريحاً معك يا هانس، أنا لا أستطيع أن أصدقك!!

 بصوته الجاف الصدئ الذي يشبه صوت بائعات اللذة في آخر الليل- كما قلت- نبر صاهلاً:

ماذا، ماذا تقول؟ كرر ما قلته فأنا لم أسمعك جيداً!! ثم أردف متحاملاً:

لا تصدقني!! سأقطع رأسك هذا الصدئ وحق الشيطان ومن خلقه، وتابع مجعجعاً:

رائحتك يا بائس يا أخا صديقي المغدور عفنة وتقلق الأعصاب!! ما هذا بحق السماء، بماذا ترش بدنك كل صباح؟ وأستطرد مستنكراً، هاتفاً:

ستجعلني أغضب منك وربما أجد نفسي مضطراً على كسر أصابعك العشرة هذه المرتجفة التي تمسك المقود برعونة وغباء كبيرين كما أكسر قطع الطباشير بسهولة ومتعة شيطانية، صبيانية، ثم نبح:

هل سمعت جيداً ما قلته؟ كما الطباشير يا جلف، يا فلاح، يا من لا يعرف اسم عائلته!! وأضاف محاولاً تغيير لهجته بيسر وإطراد:

قلت لك أسرع يا هذا، لماذا لا تسرع؟ أن لحقا بنا أو تجاوزانا فإنهما بالتأكيد سيقطعوننا أرباً ثم يطعمون لحومنا للكلاب السلوقية المسعورة السوداء!! هيا يا معزة، يا تيس، يا معتوه... انطلق ولا تجعلهما يلحقان بنا، وأضاف بعد أن فقد صوابه وثارت ثائرته وبكياسة بدت مصطنعة لا تمثل شخصه الحقيقي، ناهيك عن رنة صوته:

قذف الله جثتك من أعلى قمة جبل موجودة في الألب بعد حرقها، انطلق يا توماس، انطلق...

انقبض قلب توماس وهو يشعر بقرب أجله، فعض شفتيه خائفاً، حانقاً ومرعوبا وهو يردد بتعثر كمن يجد صعوبة في النطق:

نعم، عندك حقك يا هَنس، فأنا لا أريد أن أموت كما مات أخي يوم أمس، سأسرع وليكن ما يكون، وانطلق بسيارته بجنون هادراً كالعاصفة... والسيارة التي خلفهما تلحق بهما وعلى نفس الوتيرة دون تردد وهما ينحرفان نحو إحدى الشوارع الفرعية غير المبلطة...

بقيت السيارة التي خلفهما تلحق بهما بجنون لا يوصف وبجرأة كبيرة وكأن صاحبها ينوي الانتحار!! في حين بدأت سيارة توماس تتنطط كالعفريت غير عابئين لما أمامهم من مشاة أو إشارات ضوئية أو عربات... تصعد وتنزل على بلاط الشوارع الفرعية بلا هوادة، وكأنهما يسيران على رصيف مفروش بالحصى، والغبار يسرع وراءهما غاضباً، حانقاً، كأنه يلعنهما، ومحرك سيارتهما تطلق قرقرات دون هوادة كطلاقات مدفع رشاش...

ثم فجأة توقفت السيارة التي خلفهما أمامهما بقسوة محدثة جلبة عالية من الصوت والغبار... فاضطرهما على التوقف مجبرين، عندها وبسرعة ماحقة، خاطفة ترجلا من السيارة شخصان بملابس مدنية وهما يرفعان مسدسيهما إلى الأعلى ويصرخان بهنس وتوماس بأعلى ما تملكان حنجرتهما من قوة:

انزلا فوراً رافعين أيديكما إلى الأعلى، هيا لا تتأخراً وإلا أطلقنا النار عليكما... ترجلا وارفعا أيديكما كما قلنا، دون تأخير أو تردد... وهما يصوبان مسدسيهما نحوهما بجدية صارمة وعزم لا مجال في الشك أو التهاون فيه...
فعلا كما طلبا منهما دون أن ينبسا ببنت شفة، وبدا الصمت بينهما كالشلل... فتقدم أحد المسلحين نحو هانس وفتشه بحذر، وفعل الآخر مع توماس نفس الشيء، ثم وجه إليهما سؤالاً محدداً، مقتضباً بعد أن أظهر إليهما هويتهما الشخصية التي تقول على أنهما من ضباط شرطة برلين الجنائية:

لماذا لم تتوقفا عندما طلبنا منكما ذلك؟ وتابع أحدهم بصوت متزن وهدوء لا يمتلكه الفولاذ أو حتى الصخر:
ها... لقد أشَرنا لكما من خلال مصابيح الإضاءة الأمامية للسيارة، وأشّرنا لكما بأيدينا وحاولنا جهد إمكاننا أن نجعلكما تتوقفان دون فائدة تذكر... لماذا؟ ما وراءكما؟ هيا أخبرانا سريعاً... ماذا تحملان معكما في السيارة من ممنوعات؟ هل هناك أسلحة، مخدرات، نقود أو جوازات مزورة؟! ثم أضاف بذات الرنة الواثقة:

لقد كنا في عمل روتيني يومي، ولم يكن في بالنا القبض عليكما، بل فقط رؤية هويتكما الشخصيتين... ولكن عدم مثولكما لأوامرنا هي التي جعلتنا نرتاب منكما ونصّر على مطاردتكما كمجرمين هاربين من العدالة!! وقد حسبنا أثناء متابعتنا لكما المخلفات التي ارتكبتموها، فكانت:

السرعة غير القانونية، عدم توقفكما عند الإشارات المرورية الحمراء، وعدم التزامكما بأوامرنا التي كانت صريحة جداً، طالبين منكما التوقف والترجل من السيارة!! وهذه المخالفات تقدر بغرامة مالية حقها أكثر من 2000 مارك، وسحب رخصة قيادة السيارة لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وأربعة نقاط من حسابك في دائرة الرخص لقيادات العربات-وهو يشير بأصبعه النحيف، النظيف كأصبع بيانو نحو توماس، ثم أكمل أوامره: الآن عليكما بالمجيء معنا لاستجوابكما معاً وسنرسل من يسحب السيارة لتفتيشها والتحريز عليها!!

فأطلق هانس في نهاية خطبة الضابط قهقهة، دون اعتبار للموقف أو لأحد، كما يقهقه الجنرالات ها... ها... ها... وتوماس يحدق به في ارتياب واستغراب خائباً كموجة كانت قبل قليل هادرة، هائجة ولكنها سرعان ما ارتطمت بصخرة كبيرة فردتها خائبة بعد أن فتتها، وهو يلعن في سره الساعة التي طلب فيها المساعدة من ابن الزنا، هَنس الذي لا يريد أن يصدق الملعون عليه أنه ابن زنا على سن الرمح... ثم ماء توماس مخاطباً نفسه بصوت خفيض:

عليك اللعنة يا هانس، لقد جعلتنا نرتكب حماقات من خلال مغامرة بدأت بريئة... وانتهت بالاعتقال!! ثم فجأة سمع صوت صديقه الملعون، الجافة الصدئة، وهو يردد بهوس:
أهرب يا توماس، حاول الفرار، أنا أعرفهما جيداً، سأتولى أمرهما بنفسي، انفذ بجلدك يا سبب كل المصائب!! ثم أنهى خطبته البتراء:

أنهما مافيا، عصابة مخدرات، سوف يقتلوننا بدم بارد وهما يضحكان، اهرب ودع الباقي على عاتقي...
" يقول الكاتب الروائي أرنست همنغواي في إحدى رواياته:

القصة هي دائماً إننا نموت، إننا لا نعلم شيئاً؛ إننا لا نجد متسعاً من الوقت لكي نتعلم؛ إن الأيام تدفعنا إلى الملعب، وتلقننا قواعد اللعبة، حتى إذا ارتكبنا الغلطة الأولى اغتالتنا، في استطاعتك أن تتأكد من ذلك... أنتظر قليلاً تجد أن دورك قد حان "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى