الأربعاء ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم فيصل سليم التلاوي

الوردُ من قُربِهِ يُغمي على الجُعَلِ (1)

خمسون عاما أو يزيد انقضت على اليوم الذي علق فيه بذاكرة سعيد عبد الكريم عَجُزُ بيت ابن المقرب الأحسائي: ( الوردُ من قُربه يُغمي على الجُعَلِ ) و لا يدري لماذا لم يغادر هذا الشطر من بيت الشعر ذاكرته، رغم طول النوى و نسيانه موضوع التشبيه الضمني، الذي كان هو الغرض الرئيس للتمثل بهذا البيت في وقته. فقد طوَّحت به يد الأقدار بعدها ليمضيَ عمره المديد في مدينة فرانكفورت الألمانية، التي جاءها طالبا و عاملا في آن واحد، ينفق على دراسته من كده و عرق جبينه، ثم انتهى به الأمر مهندسا، فمتزوجا من زميلة عمل ألمانية فمواطنا ألمانيا، مؤثرا أن يندمج في هذا المجتمع السعيد، و أن يطرح وراء ظهره كل تركة الهموم و الآلام الثقيلة، التي هدت منكبيه في طفولته و بدايات شبابه.

بدأ حياته مُجدا مثابرا مندمجا كسائر العاملين في هذا المجتمع الصناعي الصارم، الذي يستغرق من العاملين معظم وقتهم. منفقا ما زاد من وقته الضئيل على رعاية ابنتيه و ابنه، باذلا جهده أن يلقنهما بعض الألفاظ العربية كمفردات السلام و التحية، و أسماء مدن و قرى فلسطين و نباتاتها كزيتونها و زعترها و ميرميتها، و أسماء العواصم العربية، و بعض ملامح التاريخ العربي قديمه وحديثه. لكن القليل من ذلك كان يعلق في أذهانهم، بينما يتطاير الكثير بفعل مؤثرات البيئة و المدرسة و الأمومة و الجوار، التي تفعل فعلها و تنحت مجراها في عقولهم بثقافة ألمانية قاهرة هي ثقافة المحيط كله. و سعيد لاهٍ عن ذلك يرى فيه أمرا عاديا و طبيعيا.

إنهم يكبرون سعداء متفوقين في دراستهم، و هو يرمقهم بنظره عن بعد، دون أن يتدخل في كل كبيرة و صغيرة، عكس ما اعتاد عليه في طفولته. لم يفت سعيد أن يصطحب زوجته و أولاده كل بضع سنين لزيارة أهله و ذويه في مسقط رأسه في إحدى قرى فلسطين، ليعرّفهم بأقاربهم، و ليربط بينهم و بين وطن أبيهم الذي يؤمل أن يكون وطنهم أيضا، و ليكتسبوا بعض كلمات عربية جديدة، و لو أنها ستُنسى بعد حين لقلة استعمالها. و لا يغفل زيارة مدن فلسطين المحتلة، مستفيدا من جنسيته و جنسيتهم الألمانية، التي تتيح لهم ذلك دون عوائق، ليذكرهم أن هذه البلاد بجمالها و روعتها كانت وطنا لهم و لأبيهم و أجدادهم، و قد احتلها الصهاينة و واجبهم أن يعملوا لاسترجاعها. و إنه ليتذكر ببالغ الحرج كيف أن ابنته الصغيرة قد أعيته بسؤالها، الذي لم يجد لديه جوابا مقنعا عليه، عندما سألته بعد أن فرغوا من زيارة القدس الغربية و تل أبيب و حيفا و طبريا، ثم انتقلوا إلى أريحا و بعدها إلى نابلس بدءًا بمدخلها الشرقي: مخيم عسكر فبلاطة، وقد هالها الفرق الشاسع بين ما شاهدت هناك من نظام و نظافة و أناقة و إتقان في كل مظاهر الحياة و العمران و السلوك، تجعلها لا تختلف في شيء عما عهدته في ألمانيا، و ما تطالعه هنا من فوضى و إهمال و عشوائية و لامبالاة، تجعل كل ملمح من ملامح الحياة و الناس و البيئة على النقيض من ذلك، ما أحست معه أنها تهوي من قمة شاهقة إلى قاعٍ سحيق، فكان سؤالها البريء:
بابا. و هل ستصبح حيفا و تل أبيب هكذا إذا عادت لنا؟

و كيف تدخل في النقاش أمها و أختها و أخوها و سؤالهم:

ترى لو بذلنا جهدنا لإقناع أصدقائنا الألمان بحقنا في فلسطين، و أن اليهود فيها محتلون غاصبون، و اقتنعوا بوجهة نظرنا و وقفوا إلى جانبنا و هم هناك، و انضموا إلى حملات المقاطعة للمستوطنات و منتوجاتها، ثم دعوناهم يوما لزيارة فلسطين، و حضروا و زاروا المنطقتين، و انتقلوا انتقالا مفاجئا مثل انتقالنا هذا، أتراهم يظلون على قناعتهم؟ و هل سيقبل شخص محايد بالانحياز إلى الخراب ضد العمران، هل يقبل بتدمير ذلك النموذج الراقي المنظم المتطور لصالح هذا النموذج الذي ترونه أمامكم رأي العين دون أن نسهب في وصفه.

يومها لم يجد سعيد عبد الكريم ما يرد به على زوجته و أبنائه، فكيف بإقناع الزائر الغريب.

سرقت الأيام و السنوات من سعيد عمره سريعا، فكبر أبناؤه و تزوجوا، و وصل هو إلى سن التقاعد، فصار لديه كثير من وقت الفراغ، الذي يترك لديه سعة لتأمل الأحداث و مراقبة الأمور، التي كان غافلا عنها في زحمة العمل المُضني. راح يتمعن في مسيرة حياته الطويلة التي انقضت، فبدت له ناجحة و مرضية، و أبناؤه قد شقوا طريقهم، فابنه قد تزوج فتاة ألمانية كانت صديقته في الدراسة الجامعية، و لم يحرص على تسمية أبنائه بأسماء عربية، و إن ظل لقب ( عَبدول ) ممسكا بخناقهم لا يستطيعون منه فكاكا، و ما لمس لديه رغبة في زيارة فلسطين، و لا ميلا لتعليم أبنائه و لو بضع كلمات عربية. يجد أهم اهتماماته أنه نباتي و زوجته نباتية كذلك، و هما يشاركان بفعالية و نشاط في جمعيات النباتيين و أنشطتهم، إلى جانب عضويته النشطة في حزب الخضر و فعالياته في الحفاظ على البيئة.

ابنته الكبرى اختارت الزواج من زميل أرجنتيني، و سافرت معه إلى أمريكا اللاتينية. أما ابنته الصغرى فلم تخفِ سرورها و غبطتها في التخلص من لقب ( عبدول ) الذي حملته على كره منها، و قد سرها انسلاخه عنها، و استبداله بلقبها الجديد ( أورتوهان ) لقب زوجها الألماني، و أن أبناءها لن يحملوا لقبا يلفت الأسماع، و يؤشر إلى جذورهم غير الألمانية، هذا إذا لم يثر الرعب في نفوس أترابهم.

كل ذلك يمر أمام ناظري سعيد و هو لا يملك أن يفعل شيئا. و رغم أنه قد أمضى عمره كله على وفاق و انسجام مع زوجته و أبنائه، إلا أنه لا يدري ما الذي يشده شيئا فشيئا في السنوات الأخيرة إلى أن يتذكر أصدقاءه العرب المنتشرين في أنحاء المدينة، فيكثر من زياراته لهم، و هو ما لم يكن يفعله سابقا: محمود السوري صاحب مطعم الكباب في وسط المدينة، و خليل الفلسطيني صاحب الكفتيريا على كورنيش نهر الماين الذي تحمل المدينة اسمه ( فرانكفورت الماين )، و خالد الذي يبيع في بيته أصناف الأجبان و المخللات و البهارات و القهوة التركية و الخضروات و الفواكه المجففة، و الذي يقصده المقيمون العرب من سائر أنحاء المدينة و جوارها، فيجدون عنده طلباتهم التي تذكرهم برائحة البلاد، و عمر صاحب المخابز و الحلويات الشامية، و غير أولئك كثير.

تكاد علاقاته تقتصر يوما بعد يوم على أصدقائه القدامى و الجدد من العرب فقط، حتى صار تحدثه بالعربية يغلب عليه، و هو الأمر الذي كان قد نسيه لسنوات طوال.

أما في المنزل فقد صار يدمن الجلوس متسمرا أمام شاشة التلفاز، متنقلا بين القنوات العربية العديدة، التي برمجها و رتبها بجوار بعضها، و التي لا ينافسه أحد من أهل بيته أو زواره على مشاهدتها، إلا إذا كان الزائر عربيا عتيقا مثله، أو عبرت لقطة مثيرة لفتت أنظار أحد أبنائه خاصة ابنته الصغرى، التي تتصيد المشاهد المثيرة، مثل مشهد مذيعة نشرة الأخبار على قناة اليمنية منقبة لا يبدو منها للمشاهد سوى كُوَّتي عينيها، فتتساءل ابنته:

كيف تقرأ هذه و قد كممت فمها؟ هل يفعلون مثل هذا عندكم بابا؟

فيسارع إلى تغيير القناة متجاهلا السؤال و مشقة الجواب.

أما صفحات الفيس بوك فقد باتت تخطف جلّ وقته، يتابع جديدها و يتعرف على أصدقاء جدد، و ينبعث له كل يوم صديق جديد من رفاق طفولته و صباه، و قد صاروا اليوم مثله شيوخا في أرذل العمر.

يزداد حنينه لتلك الأيام و لتلك الربوع التي أمضى على ثراها أيام صباه، و يحس أنها تشده إليها شدا و ثيقا، و أنها هي وحدها عمره الفعليّ، و أن الخمسين عاما التي بعدها ما هي إلا حلم عابر. إن وشائج و علاقات تنبعث له من هناك في كل يوم، و عشرات من أبناء إخوانه و أخواته و أبناء أعمامه و أخواله و خالاته و سائر أقاربه ينبتون على صفحته كل يوم معرفين بأنفسهم، و بصلة القرابة التي تربطهم به، بينما على العكس من ذلك يجد أن صلاته و روابطه بالمجتمع الذي يعيش فيه تضمحل و تتلاشى يوما بعد يوم، فيزداد عزلة و انطواء على نفسه. و يخطر بباله سؤال عجيب لا يجرؤ أن يهمس به بصوت مسموع حتى لا يسمعه أحد من حوله:

ماذا لو عدت للعيش هناك بقية حياتي؟

أحس أن كل شيء يشدني شدا إلى تلك الأرض، و أنني ما عشت سوى سنواتي الثماني عشرة الأولى، التي انقضت هناك على بؤسها و شقائها، لكنه يعود ليجيب نفسه:

و إلى أين سأعود؟ أأِلى بيت والديَّ الذي لم يبق منه سوى هيكل مهجور آيلٍ للسقوط؟ و ما ذا سيقول الناس عني لو عدت إليهم دون زوجة و أبناء؟

سيقولون تخلوا عنه في كبره، و اضطروه للعودة من حيث أتى.

لا أدري لماذا يخطر ببالي المثل الذي يقول: ( بين حانا و مانا ضيَّعنا لِحانا )
أُحس أنني بِتُّ نسيا منسيا هناك، و لن يشعر بوجودي أحد لو عدت بعد طول غياب. و الحال ليس أفضل من ذلك هنا، فلا مكانة اجتماعية و لا جاها أو هيبة، كالتي يصنعها الناس لأنفسهم في بلادنا فتحفظ لهم مكانتهم و وقارهم في شيخوختهم. فمنذ أن تقاعدت من العمل لم يبق مني لدى معارفي و زملائي في العمل سوى ( عبدول ) القديم فقط، التي يتندر بها صديقي العجوز مثلي صالح محمد، عندما يتباهى بأن حظه السعيد، و بلادة موظف الجوازات في بلاده، الذي بخل بجهده، فاختصر اسم محمد بالانجليزية إلى أربعة أحرف (MOHD ) فصارت تلفظ هنا ( مود ) و هو لفظ لا يشير إلى أي شيء، و لا يحمل أي مدلول استفزازي، و لا تنبعث منه أي فوبيا، و بذلك نجا صالح من فوبيا (عبدول) و(محمد).
ظل سعيد نهبا مقسما بين حالتيه: انشداده لأطياف ماضٍ موغلٍ في قِدمه، تلح عليه و تطارده في يقظته و منامه، و واقع جميل أنيق و رغد عيش هانئ يتفيأ ظلاله. كان هو غايته و منتهى أمله و طموحه عندما قدم إلى هذه البلاد عازما على الاندماج و الانتماء، و تطليق الماضي بكل قسوته، لكنه و قد بلغ الغاية التي سعى إليها عمره كله يجد نفسه يتمتم محدثا نفسه وحدها:

لأمر ما لم يبرح ذاكرتي طيلة هذا العمر شطر بيت ابن المقرب:

( الوردُ من قُربه يُغمي على الجُعَلِ ) 26/1/2015
الجُعَل: حيوان كالخنفساء يكثر في الأماكن الندية، و يبدو أنه يتضايق و يغمى عليه من رائحة الورد. و جمعه ( جِعلان )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى