السبت ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم غزالة الزهراء

الجحيم الأسود

عناصر الشرطة واقفة على قدم وساق، لا يرف لها جفن، تؤدي واجبها المهني بإخلاص ونزاهة وشرف، ولولا تكاتف الجهود في التصدي لبعض الظواهر الشائنة لصارت المجتمعات على شفير هاوية.

يتمزق لحاف الظلام الدامس، تلوح الشمس في الأفق، يخرج مروان سيارته الأنيقة من المستودع، وينطلق بها إلى المكان الذي يعتزم أن يكون فيه، أعضاء فرقة الأمن يقتفون آثاره بدافع الحذر للإيقاع به.
انقضت ساعتان بالتحديد، قفزوا من سيارتهم على أمشاط أرجلهم كالأسود، وطوقوهما من كل جانب شاهرين مسدساتهم نحوهما.
البائع والشاري وجها لوجه.
زمجر أحد أعضاء فرقة الأمن: أين تفران من قبضة العدالة أيها الوغدان المجرمان؟
نطق مروان متلعثما والخوف يكاد ينزع لسانه: أنا بريء، أنا بريء.
ـــ وكيف تسمي هذا الذي بين يديك؟ أهذا يدل على براءتك؟
ألقوا عليهما القبض وهما متلبسان بجرمهما الدنيء، أخيرا أحبطت هذه العملية الخسيسة، واقتيد المتهمان إلى مصلحة الشرطة القضائية للاستنطاق الأولي، وكان هناك الاستجواب.
سأله فيصل رئيس فرقة مكافحة المخدرات: ألم تكن تحتجز كمية معتبرة من الكوكايين في سيارتك؟
ـــ لا صلة لي بها.
عنفه تعنيفا شديدا: أتخاتل القانون وتخادعه؟ أتنكر رغم وجود الأدلة القاطعة ضدك أيها الوقح؟
وأضاف ليستل من أحشائه الجواب: من هم شركاؤك؟
ـــ .................
ـــ صمتك هذا لا يجديك نفعا.
ثم تابع مهددا: أتود أن تزج وراء القضبان الحديدية بمفردك؟ أتتستر عن جرائمهم ؟ وهل تظن بأن العدالة تغض الطرف عنك وتنفلت من قبضتها بسهولة؟

تحت طائلة التهديد والاستنطاق المستمرين اعترف مروان بفعله الإجرامي الخطير، كما كشف النقاب عن أعضاء الشبكة واحدا واحدا.

غادر فيصل مكتبه وهو في حالة محبطة للغاية، تفكيره مشوش مضطرب، رأسه يؤلمه ككتلة من نار، آه لو ينفجر كبركان مروع سيرتاح في حينه من هذا العذاب الذي ماانفك ينهش لحمه، الصدمة الحادة لا يقوى على احتمالها البتة، لأول مرة في حياته يكتسحه إحباط داخلي كاد يبيده من على وجه الأرض، من المستحيل أن ينزاح عن صدره هذا العبء الجهنمي المارد، وضع كارثي خطر حط فوق رأسه كالصاعقة، ورجه بشدة حتى النخاع.
سألته زوجته بعد أن أتخمتها الشكوك في الأوج: ماذا حل بك في الأيام الأخيرة؟ الاكتئاب والتوتر يحبطان من حماستك للحياة.
رد عليها بنبرة تنبض غضبا: أنت تتوهمين فقط، لست كما تعتقدين.
ـــ منذ أسبوع وأنت مغمور بيأسك، وتوهانك، أنا متيقنة أشد اليقين أنك تئد سرا بين ضلوعك.
زعق في وجهها: أي سر أدفنه بين ضلوعي؟ أي سر؟
هل يجرؤ على البوح العلني أمام الملأ بما يضايق صدره ويكدره؟ لن يتفوه ولو بكلمة أمام زوجته وأولاده؟ لا يشرفه إطلاقا التحدث في موضوع يسيء إليه، ويحط من شخصيته، إلى متى سيظل هكذا وهو يجتر صمته المحبط، ويتجرع كؤوس المرارة غير المحتملة قطرة قطرة؟

بعد المحاكمة وجد مروان نفسه في قلب الزنزانة البغيضة، يحتسي نقيع جرمه الفظيع، خياله اشتط به بعيدا في منعرجات السنين المريضة، يتذكر كل شيء كأنه وليد الساعة، صور الماضي تتدفق شلالا صاخبا في أروقة دماغه، والدته هي بؤرة عذابه، ومعاناته، صممت على اللارجوع، شرعت تستجمع حاجياتها ومصوغاتها في حقيبتها.
سألها وقد استبدت به دهشة لا نظيرلها: أترحلين؟ وإلى أين؟ وبمفردك؟
ـــ إلى حيث أريد.
ـــ وما الداعي إلى ذلك؟ أليس هذا موقعك الاستراتيجي الممتاز الذي أنفقت فيه جل سنوات عمرك؟
ـــ لم يعد يهمني البتة، لقد انتهت مهمتي بوفاة والدك، وما علي إلا الرحيل.
غمغم والصدمة العنيفة ترشق سهامها في صميم صدره: أتودين التنصل من ثوب أمومتك؟ أنسيت بأنني ابنك الوحيد الذي يستحيل التخلي عنه، أنسيت ذلك يا أمي؟
ـــ أنت الآن في العقد الثالث من عمرك، ألا تلاحظ أنك صرت رجلا واعيا وبإمكانك الاعتماد على نفسك؟
خرجت بسرعة، لحقها والحنق يغلي في عروقه غليانا.
ـــ أمي، أمي.
عادت أدراجها، مسكته من ذراعه بقوة كأنما تود كسره، وقالت في حدة: أنا لست أمك أيها الغبي،لست أمك، أتفهم؟

كان الرجل الأسمر في انتظارها، دست يدها في يده، وراحا يخطوان بسرعة كأنما يتعجلان دوران الزمن.
تساءل مشدوها: من هي أمي الحقيقية؟ لماذا قذفت بي في مستنقع من الجحود واللامبالاة؟ ألم يؤنبها ضميرها الإنساني يوما عما اقترفته في حقي من استبداد وظلم؟ وكيف أوهمتني تلك المرأة التي ترعرعت في كنفها بأنها أمي؟ ولماذا تسترت عن الحقيقة المفجعة ولم تصارحني بها وجها لوجه؟ وما هدفها من ذلك كله؟
كاد رأسه يتفجر من صخب الأسئلة وعنفوانها،زفر متوجعا، المرأة استحالت في حياته إلى كابوس مخيف يقض مضجعه، ويدمي فؤاده.
سأل خادمه عله يرتاح من واقعه الدميم الذي أوشك أن يطبق على روحه: من هي والدتي الحقيقية؟
ارتجف الخادم كأنه ممتثل أمام امتحان عسير، تلعثم لسانه، وحاول التهرب من الإجابة الصريحة، ولكنه ألح عليه بشدة، وأمام هذا الإلحاح الذي لا مناص منه بدأ يحكي بتأثر بين:والدك رحمه الله كان ثريا جدا حيث وزع كل ما لديه على زوجتيه وولديه، بعد تطليقه لزوجته الأولى تعرف مباشرة على امرأة رخيصة حبلت منه، أنكر فلذة كبده، وجودها في حياته كان بمثابة العار الذي لا تنمحي بصمته، هددته بالانتقام مرارا، أرسلت له كوكبة من عشاقها المتمردين، أشبعوه ضربا قاسيا لا رحمة فيه، وفي ذلك اليوم المشؤوم جاءت حاملة إياك، ووضعتك أمام بابه، تخلت تماما عن مسؤوليتها تجاهك واتخذت السفر مطية لها.
صرخ مروان بأعلى صوت: سافرت ؟ إلى أين؟
وأكمل خادمه وهو يروي الحكاية بكل أسف: لم يجد والدك خيارا أمامه إلا الاعتراف بك بعد تخليها عنك وأنت ترتع في ميعة صباك، ارتبط بابنة خالته لتكرس أوقاتها في تنشئتك ورعايتك، وكان يغدقها بالهدايا الباهضة الثمن مقابل تربيتك، والسهر عليك.
ـــ تأخذ المقابل بشأن تربيتي؟
ـــ هذا ما كنت أراه بأم عيني.
أخيرا أدرك مروان بأنها إنسانة منافقة، ومنحطة، لم تكن في الواقع تكن له ولو بذرة من الإخلاص والحب، ولم تكن سوى وهما مزيفا رافقه طيلة محطات حياته.

عناصر الشرطة انبثت هذا المساء في كل مكان، البحث متواصل لن يتوقف، مروان فر البارحة من السجن بعدما نفذ خطته المرسومة بدهاء محكم.
ـــ أترجاك أن تسمح لي بالبقاء في منزلك ريثما يهدأ الوضع، ثم سأتصرف، ولن ترى لي وجها بعد ذلك.
رد أخوه فيصل: ما تقترحه علي ليس بعين الصواب، عليك بتسليم نفسك في أقرب وقت ممكن، القانون صارم، ولا يرأف بك أبدا.
فجأة فتح الباب، ولاذ بالفرار.
تدخلت زوجته مستغربة مما فعل: أيظن أن الشرطة تتخلى عن مطاردته؟
ـــ يا ليته لم يكن أخي من أبي، بسببه صرت ضائعا، منهارا.
رقت لحاله قائلة: لماذا لم تصارحني بأمر كهذا حتى نتقاسم الهموم معا.
ـــ ما الفائدة من مصارحتك؟ أعماله الطائشة لا تشنف آذاني مطلقا.
لم تنقض إلا ساعة وألقي القبض عليه من جديد، وأودع في غياهب السجن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى