الثلاثاء ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم فيصل سليم التلاوي

المختار...

أعرف المختار «أبو السعيد» منذ تفتحت عيناي على الحياة، فهو جارنا القريب، وما كنت في أيامي الأولى أعرف له اسما أو لقبا غير ذلك. لقد وعيت على الدنيا و أنا أسمع الجميع ينادونه أو ينعتونه «المختار أبو السعيد». بل إنني سمعت أنه يستاء ويتجهم في وجه من يخاطبه بغير هذه الصفة، رغم أنه لم يشغل في سابق أيامه أو لاحقها وظيفة مختار. ولست أدري هل كان الناس يجاملونه بهذه التسمية، و يتعاطفون مع طموح ظل ملازما له طيلة حياته، أم كانوا يتندرون على لقب أطلقه على نفسه .

إن غادر القرية قاصدا المدين، وكثيرا ما كان يفعل ذلك أسبوعيا، على عكس عادة أهل الريف، إلا من كانت وراءه أعمال تجارية و مصالح عامة، و قليل من هم: المختار الفعليّ و بعض أصحاب الدكاكين ونفر قليل من الموظفين، وأبو السعيد واحد من هؤلاء، دونما حاجة أو ضرورة ملحة تأخذه للمدينة، فهو لا يقصدها إلا للمرور على متصرفية اللواء، لإثبات وجوده. فيُعرّج على قسم الشؤون القروية حيث يراجع مخاتير القرى معاملاتهم، و يتابعون شؤون أهالي قراهم من تبليغ عن مواليد و وفيات، أو استخراج رخص بناء وغيرذلك.

إن ألقت بك طريقك يوما على باب المتصرفية، فلا بد أنك ملاقٍ المختار أبا السعيد، يمر على هذا و يسلم على ذاك، دونما حاجة يسعى لقضائها، و ربما حمل تحت إبطه ملفا أو حقيبة يد جلدية. يتظاهر أن بها ملفات و أوراق للمراجعة، و لا يناديه أحد من الحاضرين هناك من مخاتير القرى أو الموظفين أو المراجعين إلا " المختار أبو السعيد". وإن كان مستعجلا أو كانت المتصرفية مزدحمة، تعج بالمراجعين فلا أقل من أن يحوم حولها مرة أو مرتين، ليراه الداخل و الخارج أنه قد مرّ اليوم على الدائرة. فإن غادرها فإنه لاينسى أن يكمل مهمته اليومية بالمرور على المحكمتين الشرعية و النظامية، كأنه يتابع أمور الزواج و الطلاق و الفصل في الخصومات و سائر القضايا اليومية لأهالي قريته.

هكذا مرت أيام و سنوات المختار "أبو السعيد" حتى كان يوم كاد فيه الحلم أن يصبح حقيقة. فقد انتقل مختار حَيِّنا الذي يشمل نصف القرية الشمالي إلى جوار ربه، و لم يكن لهذا المختار من وريث يستلم المخترة من بعده. فتنادى بعض المتنورين من أبناء الحي إلى الدعوة لاختيار المختار الجديد عن طريق الانتخاب الحر المباشر، في سابقةٍ لا مثيل لها في قريتنا و لا في غيرها من القرى المجاورة.

كانت تلك الدعوة فتحًا مبينا من جهة، و عملا مستهجنا مستنكرا من جهة أخرى. فتحًا مبينا لدى جيل الشباب المتنورين، و لدى أبناء العائلات الفقيرة التي ليست ذات شأن و بأس يعتد بهما، و التي ظلت محكومة لآل فلان و آل علان أبد الدهر. و عملا مستهجنا لدى أبناء العائلات العريقة من ملاك الأراضي و المواشي، و التي اعتادت على تَبوُؤ مراكز المخترة و المشيخة كابرا عن كابر، منذ أيام العهد العثماني و عبر كل العهود اللاحقة. فقد ساءها مجرد التشكيك بأحقيتها في توارث الزعامات أبا عن جد.

كنت لاهيًا عن هذه الأمور ليقيني أنها لا تقدم و لا تؤخر، و إن تولاها كائنا من كان، منشغلا بالدراسة والاستعداد لامتحانات نهاية العام الدراسي، خاصة أنني كنت سنتها على أبواب الثانوية العامة. ما أيقظني من غفلتي تلك إلا المختار أبو السعيد، الذي أدركني عصر ذات يوم، و أنا أتمشى في طريق غربي القرية، ممسكا بكتابي أقرأ فيه ماشيا على عادة أبناء ذلك الزمان. فقد كانت تلك طريقتنا المحببة للدراسة و المذاكرة، و التي انقرضت هذه الأيام. ربما لأن بيوتنا الريفية كانت ضيقة على ساكنيها، التي يتجاور فيها الإنسان و الحيوان و الطير، و تعج بصراخ الأطفال و النساء، و أصوات الحيوانات و الطيور الداجنة التي نربيها على اختلاف أنواعها. فما كان فيها متسع و لا فسحة من هدوء و سكينة، تنفع فيها المذاكرة إلا في هدأة الليل، و على النور الباهت المنبعث من مصباح الكاز نمرة اثنين، أو نمرة أربعة إن كان الحال ميسورا، بزجاجته المنتفخة من أسفلها الدقيقة من أعلاها بماركتها الشهيرة "ياسين"، و التي سرعان ما يعلوها السناج لتقادم فتيلها، فيصبح ضوؤها لا يزيد كثيرا عن لمعان تلك الحشرة الطائرة ليلا، و التي كنا نسميها "سراج الغولة" . لهذا كانت الدراسة نهارا سيرا على الأقدام في الطرقات الخارجة من القرية، هي وسيلتنا التي ابتدعناها و اعتدنا عليها، و ربما كان لنا فيها آنذاك مآرب أخرى. من إلقاء نظرة على فتاة عائدة من بستانها، و أخرى قاصدة عين الماء لتملأ جرتها، أو ربما رغبة في سطو على بستان لوز أو تفاح أو خوخ أتى أكله مبكرا في أوائل الموسم، أو غير ذلك.

المهم أن المختار أبو السعيد أدركني و بادرني بالسلام على غير العادة، و أنا الذي في مثل سن أولاده، و بدأ حديثه قائلا:
هل أخبرك أحد أن يوم غد ستجري انتخابات لاختيار مختارجديد ليحل محل المرحوم؟

لا. لم يخبرني أحد، و لو أخبرني أحد فلن أحضر، فهذا أمر لا يعنيني. أنا أفضل أن أمضي ساعة في دراستي بدل تضييعها في اجتماعات عامة.

لا. يا جارنا، كيف تقول ذلك و أنت المتعلم الذي ينبغي أن يؤيد المشاركة في الاختيار، بدل أن تظل الأمور تتداول بالوراثة في أناس بعينهم، ثم إن الديمقراطية و الانتخابات هي مطلبكم أنتم معشر الشباب و شعار زمنكم، فكيف تتخلى عن واجبك في المشاركة؟

ثم إنني يا حضرة المختار لم أكمل الثامنة عشرة، بقي أمامي خمسة عشر يوما حتى أتمها، فلذلك لا يحق لي الانتخاب، فالأمر قد حسم نفسه بنفسه بالنسبة لي.

هذه ليست مشكلة، اتركها لي، أنا أقنع الحاضرين بأن من بدأ في العام الميلادي فهو ابن السنة، و ليس ضروريا أن يكمله باليوم و الشهر. ألا ترى كيف يدخل المدرسة أبناء العام الواحد من أوله لآخره؟ و يذهب للخدمة العسكرية مواليد السنة كلها. وعندما وزعت أراضي المشاع الأميرية في قريتنا منذ زمن بعيد، شمل ذلك التوزيع الصغير و الكبير، الذكر و الأنثى، و مواليد ذلك العام كلهم، من ولد في أول يوم من السنة أو قبيل منتصف الليلة الأخيرة منها، و لم يشمل من ولد بعد منتصف الليل و لو بساعة، لأنه ابن عام آخر، فلا تدقيق على اليوم و الشهر. يجب أن تشارك. و لست في حاجة لأن أوصيك، فأنت ستصوت لصالح عمك المختار أبو السعيد بالتأكيد، و ليس لمنافسه أبو حاتم. فلاتنس الحضور غدا إلى الديوان الساعة الخامسة مساء حيث مكان الاقتراع، الله يرضى عنك. و الآن سأتركك لتكمل دراستك، فلا أريد أن أشغلك عنها، و أتمنى لك النجاح و المعدل العالي في التوجيهي إن شاء الله.

و بعد أن سبقني بخطوات التفت وراءه، و أبطأ خطواته و استدرك قائلا:

نسيت أن أخبرك إن كنت لا تعلم، أن أباك و إن كان قريبي و قريب منافسي بنفس الدرجة من ناحية الأب، فإن صلتي به من ناحية الأم أكثر قربا من منافسي، و هذه نقطة إضافية لصالحي.
على بركة الله.

عندها فقط عزمت على الحضور، و بسبب ملاحظته الأخيرة التي وجدتها سخيفة، ازدادت قناعتي بالتصويت لصالح منافسه.

توجهت إلى ديوان القرية في الموعد المحدد، و وصلت قبل دقائق من بدء الاقتراع، فاستقبلني المختار أبو السعيد لدى الباب مرحبا، و أخذ بيدي و اصطحبني داخلا و قال مخاطبا الحاضرين:
خالد هذا ابن ثمانية عشر عاما لا تنقص سوى أسبوعين، و العبرة بمواليد العام و ليس ببضعة أيام، فصوته مقبول.
و تعالت الأصوات موافقة:

مثلما تريد يا مختار. لا فرق في الأمر، ثم إن صوتا واحدا لن يقدم أو يؤخر كثيرا، و الخيرة فيما يختاره الله.
بدأ الاقتراع و انتهى في أقل من نصف ساعة، فقد كان الحضور قليلا، و أهل الحي في الأساس ليسوا كثيري العدد، و تبع ذلك فرز الأصوات و يدي على قلبي خشية أن ينكشف أمري لأبي السعيد، عندما تظهر النتيجة فلا يحصل إلا على صوت واحد هو صوته. هكذا توقعت، فما كنت أعتقد أن أحدا سيصوت له بسبب طول تطفله على هذا المنصب، و تعلقه به إلى الحد الذي صار فيه سخرية الساخرين.

ما أذهلني عند إعلان النتائج، إلا أن منافسه أبو حاتم ما تفوق عليه إلا بصوت واحد هو صوتي. فقد كان يَخفى عليَّ مكر و دهاء أهل الريف، و اعتقاد الكثيرين منهم أن انتخاب شخص ضعيف الشخصية، مهووس باللقب و المظهر يمكن استمالته و التأثير عليه، يحقق لهم من المكاسب و تسهيل الأمور، ما لا يحققه انتخاب شخص رزين متعقل لا يحابي أحدا.
و كان مدير المدرسة هو الذي يقوم بفرز الأوراق، و هو أستاذي سابقا، درسني عدة سنوات و يعرف ملامح خطي أحسن معرفة، و قد تعرف على ورقتي، فهمس في أذن أبي السعيد، الذي هو صهره بأنني لم أصوت له. عندها جن جنون المختار الذي ضاعت منه الفرصة التي انتظرها دهرا بطوله، فنهض صارخا مزمجرا:

 نعيد التصويت، و نستثني خالد، لأنه صغير السن لم يكمل الثامنة عشرة بعد، و صوته غير محسوب. فرد عليه معظم الحاضرين:

 ألست أنت من اشترط قبول صوته قبل نصف ساعة، و أعطانا درسا في أن العبرة بمواليد السنة و ليس بالأيام؟ ألأنه لم يصوت لك صار صوته غير محسوب؟

ضج الديوان بصخب الحاضرين، و واصل المختار السابق أبو السعيد صراخه و اعتراضه و شتائمه لي، و للساعة التي كلمني فيها و دعاني للحضور، لكن أحدا ما التفت إلى صراخه.

كان ذلك قبل عام واحد من احتلال إسرائيل للضفة الغربية، و بعدها تعطلت الانتخابات، و توقف تجديدها، و لبث كل في مكانه طيلة ثلاثين عاما، و ضاعت معها أي فرصة جديدة لأبي السعيد في تكرار التجربة، و الظفر بلقب مختار فعليّ و لو بعد حين. لكنه استمر بعدها عمره كله و حتى توفاه الله ساخطا عليَّ مُشهِّرًا بي، حيثما حل أو ارتحل، محملا إياي مسؤولية ضياع حلم عمره و مستقبله السياسي و الاجتماعي. بينما ظل السؤال المحير يلاحقني عمري كله:

ترى هل كنت يومها مخلصا و محقا في اختياري لما أملاه عليَّ ضميري، أم أنني كنت متجنيا و ظالما للمختار أبو السعيد؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى