الاثنين ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم هيثم نافل والي

مأساة سيدة صابئية

كل ما في الأمر إننا( العرب ) نختبئ وراء الكلمات، وهم( اليهود ) يختبؤون وراء رأس المال!! تفضحنا كلماتنا لو عريناها من ثيابها، فيظهر لنا بجلاء ما يحويه داخلها من مراء؛ تناقض صارخ بشع في كثير من الأحيان! في حين لو أبعدنا عنهم رأس مالهم، لوجدناهم مخذولين لا يقدرون الوقوف لساعة لمجابهة واقع العالم الراهن!!

لكن، ماذا عن سعاد؟

هي لا تفهم هذا المنطق! بل لم تجنِ شيئاً؛ إنها على غير دين الإسلام ديناً، هذا كل ما في الأمر.
يا للسخرية!

اليهود يقولون عن أنفسهم كذلك: نحن شعب الله المختار! إذن، العرب لا يختلفون عنهم كثيراً... لماذا نحاربهم ونعاديهم ونحن مثلهم؟!

إنها سيدة عراقية كانت في الأمس القريب لأسرتها مثل مدينة تحرس البحر القابع تحت جدارها، تنتمي إلى الديانة الصابئية لم تتجاوز الأربعين؛ تشعر بالجوع اليوم مع ولديها الصغار اللذان تركا مدرستهما الإبتدائية هرباً من الجور، سعياً للأمان! لكن، لماذا يطلبون الأمان؟ أنهم لم يفعلوا شيئاً يغضب الله أو الناس؛ ولدوا في العراق ولا يعرفون وطناً غيره. أجدادهم كذلك، عاشوا وماتوا على أرض الرافدين من قبل. لم يكن الدين مسألة تقرير المصير! مالذي تغير إذن؟!
حياتها ليست نكته ترقص على اللسان. الدموع لن تحميها من مصيبتها، كل ما تشعر به هو خوفها على ولديها من الهلاك. وحيدة هي على أرض عربية غير وطنها. لاجئة في سوريا كغيرها من العراقيين الذين هربوا دون أن يجنوا شيئاً، مثلها ربما، لكن خوفها على ولديها بدأ ينمو ويكبر كجنين في رحم أمه؛ الجوع جفف معادهم. هزلوا كثيراً، بات وزنها أقل من تسعين أوقية! لم تكن من قبل سعاد هكذا، كانت في الأمس القريب سيدة سعيدة بحياتها مع زوجها وولديها. مقتنعة بما لديها، جميلة جداً شقراء، شعرها الكستنائي، عيناها الزرقاوان، حنكها المرسوم بدقه، غمازات خديها، لكن أين زوجها؟ ولماذا هي لوحدها مع ولديها وهم جائعون؟!
خدم زكي في الجيش العراقي بعد تخرجه من الجامعة خمسة أعوام كاملة، ذاق فيها المر وتعرف على الصعاب، نجا من الموت مرات عديدة عندما كان في الجبهة أيام الحرب العراقية-الإيرانية، مثله كان مثل غالبية العراقيين، لم يختلف عنهم بشيء. تزوج بسعاد ورزقا بولدين أكبرهما في التاسعة، ثم تغيرت ظروف العراق بشكل مروع؛ لم يفكر بترك وطنه، أصرّ على البقاء، كان دائماً يجابهه من ينصحه بالرحيل والهجرة بالسخرية؛ حتى صادف يوماً أن هُدد في متجره بأن يغير دينه، وأمهلوه أسبوعاً واحداً فقط!! لا يعرف كيف تجرأ هؤلاء بالتفكير بهذه الطريقة الغريبة! كيف يعني؟( سأل نفسه مستغرباً ):
مالذي تغير في حياتنا؟ طوال عمرنا ونحن نعيش في وطننا بسلام وأخاء لم نتلقَ يوماً سؤالاً من أحدهم: ما هو دينك! أصدقائي في المحلة وأيام الجامعة كانوا مثلي، أعني، لم نتخذ الدين منهجا أو قانونا يوماً من قبل، كنا عراقيون فقط. حتى أنهم لم يعرفوا عن مذهبي الكثير، لم يكن ذلك هو من يحدد لنا علاقاتنا. كنا سعداء أخوه لا هَمَّ لنا. نضحك بملئ قلوبنا بصدق. نشاهد مباريات كرة القدم كل مرة في بيت من بيوت أصداقائنا، كانت عائلاتنا تشاركنا هذه المتعة، شباب وبنات، شيوخ وأطفال، لم تكن لنا نظرة سيئة أو عنصرية. لم يخطر ذلك على بالنا، كنا أسرة واحدة، أخوة، يعلم الله بذلك؟

قتل زكي بدم بارد، بعد أن رفض تغيير دينه! لم يعد لسعاد وولديها من خيار آخر سوى الهروب بالثياب التي عليهم. جهتهم كانت سوريا. سعاد كانت وحيدة أهلها. ماتا والديها بعد زواجها بقليل. لم تعرف بحياتها غير أسرتها، كانت سعادتها مع أسرتها تغطي شقاء العالم كله. لكن الوضع تغير فجأة؛ هي لا تعلم لماذا؟ لم يعطوها وقتاً للتفكير؛ قتلوا زوجها دون تفسير.
صدمت هناك. فالوضع مأساوي؛ غالباً ما كانت تلتقط غذائها من بقايا ما يرمى في النفايات، تمرضا ولديها بأمراض لم تعرف لها من أسباب. ليس لديها المال لمعالجتهما، فالإسهال الذي أصيبا به دام أشهر، نحفوا بشكل رهيب، لم يكن لبكاؤها من صوت أو نحيب. بكاءها كان مثل الموت السريري. هي تعلم ذلك جيداً. وعندما وجدت نفسها في مفترق الطرق، قررت أن تكتب لأخوتها في الدين، وحيدة هي سعاد. لكن أخوتها مازلوا على قيد الحياة، هكذا قالت لنفسها( يجب أن أكتب لهم، كي لا يبقى عتباً عليّ )...

ضحكت صارخة كالمجدوبة بألم يمزق أحشائها وهي تكتب لهم مستنجدة:
إما أن تنقذوني، أو أبيع نفسي!! ثم أجهشت بالبكاء بعد صمت وصيام دام لأشهر وأيام. ثم طوت الورقة مع دموعها التي بللتها وكتبت على غلاف الرسالة العنوان:

الدكتور ص.غ. ر
الشارع...........
المدينة...........
أمريكا
وأحكمت إغلاقها بعد أن استدانت حق الطوابع من جيرانها. وقفلت راجعة مع وجدها إلى همها الذي ينتظرها، وهي تستنشق عرف الحزن الذي يصعب تصنيفه مع الهواء.

شاخت قبل أوانها؛ انتظارها كل صعب، مخيف، مثل اللهيب. انطفئت سهامها النارية التي كانت تنطلق من عينيها الزرقاوين كما من قبل؛ سعادتها كانت في الأمس القريب خالدة، هكذا حسبتها وقتها، مثل ذكرى جميلة تراها كل يوم في تجدد، حدسها لم يكن صحيحاً، القدر لعب ضدها، قُتل زوجها، تشردت، ذاقت الويل، وعاشت الهول، ترى، هل هناك ما هو أبشع من الهول؟ لم تعد تفكر بالسلام، ضاع منها دون رجعة. همها أصبح أكبر من ذلك بكثير، جائعة هي اليوم مع ولديها المهددان بالهلاك في أي لحظة، كجرذان مصابان بالطاعون، لا أحد يهتم لأمرهما. انقلبت حياتها فجأة، مثل شخص صحى فازاً من نومه على كابوس مرعب، أحداث الكابوس كانت لغته صامته كما هي العادة، لكن كابوسها اليوم يختلف، أنه ألم ووجع وبطون فارغة متلهفة لأن تحصل على شيء يسدون بها رمقهم الخاوي! كم أصبحت الحياة متحجرة، هكذا سألت سعاد نفسها كالمجنونة! باتت متحجرة مثل صخرة لا تشعر، في السابق كانت سعاد تحسد الصخرة لأن الأخيرة لا تحس ولا تعرف حياة أو موت! أصبحت حياتها فجأة مثل تلك التي كانت تحسدها! ولداها ينظران لها بعيون كبريتية حادة، يسألانها ألف سؤال:
لماذا يا ماما نحن هنا؟!

بيتنا كان أجمل، وأوسع!!

اشتقنا إلى مدرستنا، زملائنا، معلمينا كثيراً... نريد اللعب مع الأولاد كما من قبل! ليس لنا أصدقاء يا ماما، لماذا؟ لا أحد يعرفنا هنا غير العوز والحرمان! ثم يسمعان طقطقة أقدام... تقترب منهما، تتقدم نحوهما، هل هذا حلم؟ بماذا يحلمان الصغيران البريئان عند لحظات الجوع والمرض؟ بمنقذ مثلاً؟! أم بالموت الذي باتَ قريباً جداً منهم، قرب حواجبهم من عيونهم؟

تباً للأوغاد، صنعوا بأيادهم مأساة. دمروا أسرة، شرّدوها... وها هم دون في ضياع بلا قاع.
سحقاً لهم، كانت مطالبهم واضحة: أن تغير العائلة دينها، تعتنق الإسلام!
من قال أن" محمد " لو سمع بما يفعلون يقبل؟! لقد كان قريب زوجته نصرانياً يدعى" ورقة بن نوفل " لكنه لم يجبره على تغيير دينه، من أين أتوا بتلك الفتوى؟

لماذا نشرع لأنفسنا قانوناً لم يشرع من قبل؟ حمورابي لم يفكر بهذا الأمر ولم يقرّه أو يكتبه! نبوخذنصر لم يفعل بشعب إسرائيل هذا!! كيف طاوعتهم قلوبهم، ضمائرهم، أياديهم؟ التاريخ سيقول كلمته، نحن متأكدون من ذلك، فالعراقيين لا يعرفون تلك الشريعة؛ الطائفية حزب لم يؤسسه عراقي، العراقي أشرف من أن يلوث يده بدماء أخوه له. العزة والغيرة والإباء سمات بدوية سارت وتأصلت عند كل عراقي غيور، أنا متأكد من ذلك، بل أقسم على أنه الحق.
قلّبَ الدكتور" ص.غ.ر " رسالتها بإستغراب، سألَ نفسه متوتراً:

منْ تكون؟ وهل هناك ما هو أقسى وأفضع من هذا؟..
في صباح أحد الأيام، كان ضوءه أنيس يبعث المسرة، يعبق به الكون ويعمره، جاءتها بنت الجيران متلهفة، هبطت عليها مثل القضاء والقدر فجأة، تدردم معها بلهجة سورية فهمت سعاد نصفها:
هناك من يطلبكِ على الهاتف. عليك الإسراع قبل أن ينغلق الخط.

تركت ولديها المنهكان اللذان لا يقويان على الحركة، يتضوران جوعاً، يتقلبان مثل أسياخ اللحم على الجمر، نائمان، قلقان... ولا أحد يعبأ بهما، كالحياة! أحكمت إغلاق باب صريفتها الخشبية التي كانت تقطنها وركضت دون وعي، كالمجنونة نحو بيت جيرانها والفتاة تلحق بها مثل ظلها...
نعم، منْ معي؟

 أنا دكتور ص.غ.ر من أمريكا...
لم تجعله يكمل جملته، قاطعته صائحة: هل هناك من ثمة أمل؟
 بثقة أكبر من سنّه بعقود، قال:
اذهبي من فورك إلى القنصلية الاسترالية، وقولي لهم هذه الجملة( ..................... ) بعدها ستكونين في سدني بأمان، أنتِ والصغيرين.

رنَّ صوتها حاداً كصوت زجاج يرتطم بالصخر:
لا تضحك عليّ!
 لن أضحك عليكِ. افعلي ما طلبته منكِ، وستكونون بخير... وانقطع الخط.
وما هي إلا أيام قليلة حتى كانت سعاد وصغيريها في سدني يتنفسون عبق هواء الحرية بعيداً عن الإرهاب والاضطهاد والتهجير القسري...

كانت هذه القصة السبب في تأسيس وظهور منظمة محمام( تلك المنظمة المدنية التي انبثقت من قلوب بيضاء، لا همَّ لها غير الدفاع عن حقوق الإنسان الصابئي أينما يكون، انبثقت بجهود فردية بحته، وبتمويل ذاتي يعلم الله عنه ) فما أن قرأ الدكتور ص. غ. ر رسالتها حتى اتصل بصديقه الدكتور س. ف. ج يخبره عن نيته بإنقاذ سعاد وصغيريها من الهلاك، فانشأت المنظمة...
لهما ومن يعمل معهما اليوم أرفع قصتي القصيرة المتواضعة لقاء أعمالهم الجليلة الكبيرة هذه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى