الأحد ٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٥

ضباب في الظهيرة - لبرهان الخطيب

صالح الرزوق

إذا كانت رواية (ضباب في الظهيرة) لبرهان الخطيب قد صدرت بعد عام 1967 بعام واحد، فهذا يعني أنها تأثرت بالجو العام الذي أحبط فن الرواية، وأيقظه من سبات الحداثة. فقد مرت الرواية العربية بثلاث مراحل:1- نهضة وتنوير (بلغة علماء الاجتماع) مع أنها كانت مرحلة اقتباس ومحاكاة. 2- أعقبها عشرة سنوات لها أطياف واقعية متعددة كانت اتباعية (بالمعنى الذي استعمله أدونيس في دراسة الشعر الكلاسيكي). 3- وأخيرا حداثة قامت بثورة على مستوى الأساليب من غير تبدل في المضامين لكن...

لم يكن فن الرواية بحاجة لشيء قدر حاجته للهزيمة وضياع الأرض ليفتح عينيه على الواقع الملموس، ولينتبه أنه فن متشرد، بلا أصول ولا ثوابت، فن متآكل، وانتحاري. وقد فتح ذلك الباب للحلقة الرابعة من عمر الرواية، وهي الوجودية بنسختها العسكرية، أو ربما الأفضل أن نقول الحربية.

وهذه هي الصورة عند برهان الخطيب . لقد كان بعيدا عن بروباغاندا المعنى الاجتماعي والسياسي. ولم ينهمك بالتبشير لغد ذهبي مشرق تحرسه ميليشيا لها عقيدة. ولكن من خلال شخصنة آلامه رسم صورة الخراب والرعب.

ومن هنا سبب اندماج بقايا الفكر الرومانسي بمشاعر التأسي من الوجود.

إن الرومانسية ذات مشاهد أوسع، ولكن الوجودية ذات مشاهد ضيقة وغالبا ما يدور الحوار فيها بين أفراد متشابهين ولهم موقف موحد من الأحداث.

وهو الحال الذي يتم عرضه ونقضه أخيرا في (ضباب في الظهيرة) فهي تقدم ثلاثة نماذج متصارعة في داخلها كذلك مع الخارج. إن للأحداث حركة بطيئة ومعدومة. ولكن وراء ذلك تقف دراما النفس البشرية التي تصارع من أجل البقاء والتطور. وغالبا تأتي النبوءات قليلة الحظ. ولا تترك مجالا لغير واحد من إثنين: الثورة وتحطيم الأصول أو التفكير بعقل الآخرين كما قال أنيس، وهو زميل بطل الرواية، في وقت مبكر من الأحداث، ص 12.

إن أهم ما يميز هذه الرواية هو عدد الشخصيات. فهم ثلاثة ورديف رابع. إنهم ذات الكاتب الفنية، بطل الرواية. ومعه رافد وأنيس. وفي الخلفية خيال آمال محبوبة بطل الرواية.

ولقد كان للشخصيات الأساسية نوعان من النشاط: في الواجهة الذهن وخلفه في الأعماق الحركة النفسية. ما عدا ذلك نادرا ما تندمج هذه الشخصيات بالشارع وتمتزج مع الطبيعة بمشاهد مفتوحة ومنبسطة وخضراء. وحتى المباني هي من النوع الحاضن ويهيمن عليها الظلام والنور الخفيف وتشبه بعضها البعض كما لو أنها نسخ من الإسمنت (ص116). وتكون مساحتها صغيرة وروادها لا يرتبطون بأية علاقة ذات شأن. يقول بطل الرواية: يتحرك الناس من حولي مغلفين بحياتهم الخاصة كأنهم قطع خشب تطفو في تيار سريع (ص53). ثم يقول: جلست في أكثر من مقهى شعرت كأني مشرد (ص54). ويقول أيضا عن تفاهة وسخافة الناس في الشارع: إنهم يمتزجون بأحذيتهم فقط، ص117.

أضف لما سبق بطء الحركة أو عدمها. يقول بطل الرواية: إن الأيام هنا تخلو من الحركة والحيوية والألوان التي تملأ الحياة ، ص131.

ولذلك إنه محكوم على مجمل الشخصيات بالفشل. وهي لا تجد حلا إلا باللامبالاة. وبهذا المعنى يقول نفس الشخص بطريقته الهجائية المعهودة: بقيت... وحدي تماما وسط المعمعة الخرساء، أعيش الأزمة وأتنفس الفراغ، ص 156 .

وطبعا هذا يختلف مع مبدأ الرواية الرمزية التي تبشر بحزمة من الأفكار أيضا كما في روبنسون كروزو لدانييل ديفو.

إن هذا النمط من الأعمال المعروفة يمكن أن يكون أوديبيا بامتياز. إنه نمط لرواية الابن الباحث عن حقيقته والذي يقترب من لحظة تصفية الحساب. وبعبارة مباشرة من جريمة قتل الأب والاستيلاء على الطبيعة الأم وحضنها المعطاء.

ولكن (ضباب في الظهيرة) رواية عائلية، تذكرنا بالأخوة كرامازوف حيث الخلاف يكون على طرائق التعبير وليس على امتلاك الأم.

ومن الطبيعي أن يقف هذا الشكل لبنية الرواية ومن ورائه ذلك الحوار والنقاش الرواقي على وجه نقيض مع الشكل الحربي لروايات برهان الخطيب اللاحقة التي ظهرت على امتداد نصف قرن، بين نهاية الستينات ومطلع الألف الثالثة. وأخص بالذكر روايته الهامة (شقة في شارع أبي نواس) ثم الرواية التي يصور فيها غزو الغرب للعراق وهي (على تخوم الألفين). لقد كان في هذه النماذج قريبا من اللعبة السياسية للعالم النامي، وبها يربط بين مجموعة من المستجدات.

في السياسة تفكك الفكر القومي الذي دخل عدة معارك وخسرها، وعودة دولة الميليشيات.

وعلى المستوى الفني. لقد بشر بالعودة لمجموعة ثوابت لها علاقة بفن المسامرة والمنادمة. أن تكون هناك شخصيات أساسية تدور حولها شخصيات ثانوية. وأن يكون مسرح الأحداث محددا وقابلا للتعريف والاستيعاب والتصور. وأخيرا أن يكون للأذن دور أساسي في النص، فالمفروض أننا إزاء مستمعين في جلسة مسامرة. ولا بد من إثارة انتباههم بالتكرار وبوقفات صامتة تترك لهم حرية ملء الفراغات من خيالهم أو ربما من عالم أفكارهم الشخصية.

كان السجال بين الشكلين، الرواية المدنية والحربية، في الأساليب وطرق العلاج للموضوع. لقد رأى الشكل المدني للرواية أن يتكلم بلغة الأعماق عما يدور من توافه ومنغصات. وقاده ذلك لتحدي المفهوم الأساسي لمعنى الرواية. ولاحقا لتدمير رؤيتنا للذهن الفني على أنه صور وأخيلة واستبداله بخواطر وهواجس. بينما جاءت الرواية الحربية بشكل اختراق للأطروحة السابقة. وهكذا دمجت ميدان الأحداث الهامة بالتفسير المعاصر لمعنى الإنسان ودوره أو بالأحرى وظيفته. وبدأ المعنى الرومانسي المعروف لصورة المخلص والمنقذ بالتآكل، ثم سقط في فجوة الخيال المتحول. وقد ورد على لسان أحد شخصياتها: يجب أن يكون هناك حدود في حياة الفرد، وإلا فهو لن يختلف عن الحيوان..، ص140

وهكذا أصبح للحوار في الروايات الحربية نبرة إصلاحية، بل دفاعية، الغاية منها تبرير أسباب الاختلاف.

بينما اقتصر دور الحوار في (ضباب في الظهيرة) على مزيد من الرثاء وقليل من الشتائم والسباب والنفي.

لقد تحدثت الرواية عن مرحلة من حياة شباب في الجامعة دونما أي اهتمام بماضيهم ومستقبلهم. واستثمرت كل واحد فيهم لرصد وتحليل الفضاء العام بما يحمله من خيبات ثقيلة وهزائم. وبما يرتبط بذلك مثل التفكير بالحرية والالتزام والمسؤولية المشروطة وضرورة الثورة.

وجدير بالتنويه أن كل كلمة في الوصف والحوار جاءت بمكانها كأنك إزاء قصيدة موزونة.

إنها رواية مضادة بلا أحداث. وقد أكد ذلك المستشرق بوريس جوكوف بدراسته عن هذه الرواية، ومثله غسان كنفاني في مقالة نشرها في أواخر الستينات، وسعد البزاز في مقالة أخرى نشرت في أوائل السبعينات. لقد كانت هذه الرواية تلعب بالأفكار التي وضعت لتلك المرحلة حدودا متحركة، ثم جاءت العسكرتاريا لتحد من قدرتها على التخاطب والتعاقب. فقد وقفت تلك الأفكار عند نقطة معنى وكانت بمقابلها نقطة نظام. وهكذا اختارت أن لا تنمو ولكن أن تتراكم. وأعتقد إن منطق الرواية الجديدة المؤنسن (وهو غير منطق روايات ميشيل بوتور وتلميذه إلياس خوري) وضع ثقته بالمشاعر الإنسانية. لقد كانت رواية تفاعلية، تخاطب الإنسان وتسقط أفكارها وفلسفتها عليه، وتنظر لعالم الجماد وغير العاقل وكأنه امتداد نفسي لنشاطها الذهني.

ولئن كانت الشخصيات تعيش فرادى، وتشترك بكل تصوراتها وأمانيها مع وقف التنفيذ، فهذا يبدو لي أنه من نتاج الأنظمة التي ظهرت بعد النكسة. إنها أنظمة عسكرية بثوب مدني. ممنوعة من التطور. تعيش في حالة اجترار. وتدور حول نفسها مثل دواليب الهواء.

وعن ذلك يقول بطل الرواية بما معناه: إنه لا مفر من هذا المستنقع. فالهزيمة لا مكان (بمعنى لا وطن، لا أرض ) لها. ونهاية المعركة واضحة ، ص149

ثم يضيف بلسان أنيس، ما نسميه في الشعر (بيت القصيد)، فيقول: ولكن هل هناك شيء غير الهزيمة.. ص 149

ورغم هذه السوداوية الظاهرة على السطح لا تنتهي الرواية بتلك النغمة المتشائمة، فقد ورد قبيل الخاتمة: إن وجود العقبة والعمل ضدها شيء ووجودها واليأس أمامها شيء آخر.. ص 154.

ثم نسمع في الخاتمة أنيس وهو يقول: تف... على العالم كله ! ص 157

وطبعا يقصد عالم الهزيمة والكذب وعدم الشفافية والأحزان والقنوط.

صالح الرزوق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى