الاثنين ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٥

مراسلة حول مهرجان فاس للثقافة الصوفية‎

لعل من أبرز ما يحسب للدورة التاسعة من مهرجان فاس للثقافة الصوفية، كونها فتحت مجالا فسيحا للتساؤل حول طبيعة الوظائف التي يضطلع بأدائها التصوف فكرا وممارسة.

الدكتور فوزي الصقلي رئيس المهرجان وفي معرض توصيفه للمحبة باعتبارها من أسمى غايات التصوف، طرح سؤالا جوهريا يرتبط بمدى التواجد الفعلي للحب في مجتمعاتنا المعاصرة، بالشكل الذي يصفه المتصوفة في قولهم "أنا لو أشرب البحار جميعا**لم أزل من محبتي ظمآنا"، وأردف متسائلا "كيف يمكن لهاته الطاقة من المحبة المتجددة أن تسهم في بناء مستقبل مشترك ومجتمع مفعم بالأخلاق؟".

تساؤلات من هذا القبيل، استوجبت تشريحا دقيقا من طرف بعض الباحثين الحاضرين في المهرجان، والذين عبر بعضهم عن الارتباط العضوي بين التصوف كتجربة أخلاقية مفضية لمحبة الله ومخلوقاته وبين انخراط المتصوف في بناء مجتمعه ومستقبل الإنسانية المشترك، حيث أكد بعض الباحثين أن شعور المتصوف بوجوب انخراطه الفعلي في بناء مستقبل الإنسانية المشترك ما هو إلا نتيجة مباشرة لاختباره لتجربة محبة الغير التي تجعل لحياته معنى ونكهة وامتدادا، حيث إن غياب تقدير الآخر وعدم الاعتراف بأهميته وإبعاده من مشهد الحب الصوفي الذي يفترض تواجد طرفين اثنين هما الأنا والغير، تعني بالضرورة ارتباكا وجوديا للمتصوف وبالتالي تبددا لأي معنى لحياته، مما يجعل سعادة المتصوف وتوازن تواجده لا يتحقق إلا عبر سعادة الغير وهنائه، ويجعل بناء المجتمع المفعم بالقيم الجمالية والأخلاقية والمستقبل المشترك للإنسانية أمرا موازيا لمدى تحقق الهناء المشترك بين الأنا والآخر.

المحبة أو كما يسميها البعض "دين الحب"، لم يكن ليمر الحديث عنها دون التساؤل عن المصادر الدينية لهذه الحالة الوجودية والجمالية والأخلاقية التي يختبرها المتصوف، حيث ربط ثلة من المتدخلين في لقاءات المهرجان مصدرها الأساس بتعاليم الدين الإسلامي وأخلاق النبي محمد (ص) المتجسدة في سيرته القولية والفعلية، والتي لا تستقيم أي تجربة صوفية دون تمثلها والتماهي فيها، الأمر الذي حدا بالكثيرين إلى اعتبار المحبة المتحدث عنها ما هي إلا ثمار للتدين الإسلامي الحقيقي وفق منهج القرآن والسنة النبوية الشريفة.

يذكر أن لقاءات الدورة التاسعة من مهرجان فاس للثقافة الصوفية، تعرف تنوعا لافتا وانفتاحا ملحوظا على مختلف التعبيرات الإبداعية والفكرية الصوفية، حيث يلاحظ سعي واضح من منظمي المهرجان إلى تقريب المتتبعين من مختلف الروافد المساهمة في إغناء التجربة الصوفية الإنسانية، ولا أدل على ذلك تخصيص موائد مستديرة حول مواضيع من قبيل: "رواد المحبة الروحية بين الشرق والغرب" و"دين الحب في الشعر الصوفي الفارسي و"الثقافة والشعر الصوفي الأمازيغي".

جلال الدين الرومي تراث روحي إنساني

شكل الإرث الثقافي والفني الروحي لجلال الدين الرومي محور ندوة فكرية نظمت يوم الثلاثاء 21 أبريل في متحف البطحاء بمدينة فاس وذلك في إطار الدورة التاسعة لمهرجان الثقافة الصوفية التي تستمر أعمالها إلى غاية السبت المقبل.
وتوقف المتدخلون عند الأبعاد الفكرية والصوفية التي تكتسيها أعمال الشاعر الفارسي المذكور الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، معتبرين أنها تتجاوز المساحة الجغرافية العربية والإسلامية، كما تتخطى حدود الزمان الماضي، لتعانق الإنسانية جمعاء في أي وقت وزمان، وذلك لما يحمله إرثه الإبداعي من قيم عظمى ومثل حضارية وتجدّد عابر للزمن، ولما ينفتح عليه من معاصرة وإنسانيّة، وهو الذي ذاعت شهرته الآفاق، وأدهش الشرق والغرب سواء بسواء، من خلال تركيزه على أهمية الإنسان في هذا الكون ورسمه لمثُـل عليا للحياة الإنسانية، وقد خلّف الرومي تراثاً من الوصايا في الحب وتداوله، باعتباره الحبّ حقيقة الكون والطبيعة والحياة والإنسان والعالم؛ مثلما ذكر أحد الباحثين الذي لاحظ أيضا أن جلال الدين الرومي استطاع استقطاب الكثير من ملل أخرى، وذلك بسبب تفكيره المرن المتسامح، لأنّه كان ينطلق من قيم الإسلام السمحة التي كان يؤمن بها.

وأرجع بعض الباحثين العودة للحديث بقوة عن جلال الدين الرومي خلال الزمن المعاصر، وجعله محور تكريم في مهرجان فاس للثقافة الصوفية، إلى السياقات النفسية والاجتماعية والفكرية التي يشهدها العالم المعاصر، والتي تتسم بطغيان الماديات على حساب القيم الروحية، وسيادة الكراهية والعنف ونبذ الآخر، مما يجعل الإنسان المعاصر يعيش نوعا من الغربة والقلق والفراغ الروحي؛ حيث لا مناص سوى من سلوك طريق المحبة والتسامح التي طالما جعلها الشاعر الصوفي المذكور منهاجا له ولغيره.

وبحسب أحد المتدخلين، فإن المرء اليوم يعيش عطشا جديدا للصوفية، وهو العطش الذي يحاول مهرجان فاس للثقافة الصوفية، عبر المزاوجة بين الإرواء الفكري الذي تمثله جلسات النقاش والإرواء الروحي الذي تجسده حفلات الذكر والسماع والتي شهدت خلال الأيام الثلاثة الماضية أمسيات لعدد من الطرق الصوفية المغربية القادمة من جهات مختلفة: الطريقة القادرية البوتشيشية والطريقة الصقلية/ الوزانية والطريقة الشرقاوية، لتتواصل أيضا عبر حفلات الطريقة الريسونية "الجوهرة الزرقاء" و"الطريقة الخلواتية للشيخ نور الله فاتح" من تركيا، وتختتم مساء السبت المقبل بحفل سماع صوفي وموسيقى أندلسية لكبار أصوات السماع وفرقة المجموعة الأندلسية للتهامي الحراق.

تكريم الكاتب والمفكر التونسي الراحل عبد الوهاب المؤدب

خصص اللقاء الفكري الأول الذي نظم يوم الأحد 19 أبريل، في إطار الدورة التاسعة لمهرجان فاس للثقافة الصوفية، لتكريم أحد أبرز الوجوه التي اعتادت هذه التظاهرة الثقافية على استضافتها، يتعلق الأمر بالكاتب والمفكر التونسي عبد الوهاب المؤدب، الذي توفي أوائل نونبر من العام الماضي، بعد صراع طويل مع المرض.
وتطرق المشاركون في اللقاء إلى الجهود التي كان الكاتب الراحل يبذلها من أجل تعميق فهم الخطاب الإسلامي وتجديده، من خلال القيم بدور البيداغوجي، دون أن يغفل مواجهة أدعياء التدين الذين يزجون بأنفسهم في وضع تراجيكوميدي، من خلال ارتكاب حماقات متتالية، انطلاقا من فهم خاطئ للإسلام ولجوهر الحضارة الإسلامية.
وتوقف المتحدثون عند المساهمات الفكرية والإعلامية لعبد الوهاب المؤدب المتمحورة حول الأندلس والصوفية والفن والحضارة وفكر ابن خلدون وابن عربي، والإسلام في سيرورته اليومية؛ مشيرين إلى أن معركة المفكر الراحل كانت معركة من أجل الحق في التفكير ومن أجل القيم ورفعة الإنسانية ودوام المحبة.

وأبرزت بعض المداخلات الحيز الهام الذي كان يحتله الفكر الصوفي لدى الراحل، إذ ترجم مؤلفات بعض المتصوفة كشهاب الدين السهروردي وأبو يزيد البسطامي، إيمانا منه بأهمية الترجمة في تكريس التواصل الثقافي الخلاق ومناهضة التعصب الفكري.

يشار إلى أن المؤدب (68 سنة) درس الآداب وتاريخ الفن في جامعة باريس، واهتم بالكتابة والشعر، بالإضافة إلى تنشيطه لبرنامج أسبوعي تحت عنوان "ثقافات من الإسلام" على أمواج إذاعة فرنسا الثقافية. ومن أهم كتبه: "أوهام الإسلام السياسي" و"رهان الحضارات" و"ربيع تونس.. تحول التاريخ"، وترجمته لرواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى اللغة الفرنسية. وسبق له أن حاز جائزة الدوحة عاصمة للثقافة العربية عن مجمل أعماله، وجائزة فرانسوا مورياك عن كتابه "مرض الإسلام"، وجائزة ماكس جاكوب عن ديوانه الشعري "خامة العصافير"، وجائزة بنيامين فوندان عن كتابه "مواعظ مضادة".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى